في ذكرى 100 عام على ولادة نجيب محفوظ... صانع فنّ الرواية العربيَّة

نشر في 11-06-2011 | 01:01
آخر تحديث 11-06-2011 | 01:01
على رغم رحيله منذ أعوام، أكّد مثقفون وأدباء من الكويت تربُّع الأديب نجيب محفوظ على قمة الإبداع العربي، مشيرين إلى  التزامه الحياد في سبر أغوار الواقع متخلّصاً من التزلّف للسلطة أو التملّق للحاكم، وتاركاً إرثاً فكرياً وأدبياً وسياسياً لم يحظَ بعد بدراسة معمّقة تكشف أفكاره الفلسفية ورؤاه الإنسانية.

«الجريدة» استطلعت  آراء مجموعة من الأدباء والمثقّفين في الكويت.

يعتبر رئيس تحرير مجلة «العربي» د. سليمان العسكري أن الأديب نجيب محفوظ لا يزال يتربّع بما أنتج على قمة الإبداع العربي، ويلاحظ أن الكم الهائل من الإنتاج «المحفوظي» يحتوي على أفكار قيّمة كان يدعو إليها أبرزها تحقيق الوحدة الثقافية والاقتصادية، والنهوض بالدول العربية.

يوضح العسكري أن الكثير بقي من محفوظ، ويقول: «ليست هذه محض كلمات مثالية، لكن بالفعل، ما يبقى من نجيب محفوظ هو كثير جداً، مقارنة بقدرتنا على استيعاب هذا الكثير. فمحفوظ ما زال باقياً وفاعلاً في الميدان الثقافي العربي»، مؤكداً أن حصوله على جائزة «نوبل» لم يصنع له أو يكسبه أي مصداقية جديدة في الأدب العربي، فهي لم تُمنح له في بداية مشواره لتلفت الأنظار إليه، بل بالأجدى، فإن محفوظ هو من أسبغ على جائزة نوبل بعضاً من مصداقيته هو، بذلك جعلها جائزة مصدّقة ومحترمة ومقبولة عند العرب.

أفكاره ورؤيته

في ما يتعلق بأفكاره المتأصّلة في وجدان الأدب العربي، يؤكد العسكري: «محفوظ باقٍ ولم يغادرنا منه إلا جسده، لكن أدبه وفكره وعمله وإبداعه لا يزال وسيبقى، فاعلاً وحاضراً وحياً في أدبنا العربي، يثريه ويضيف إليه ويدفعه نحو تخوم جديدة بقيت غير معهودة قبل أن يصنعها نجيب محفوظ بقلمه»، متسائلاً هل نحتاج إلى جسده أكثر أم إلى إبداعه؟ ويرى أن هذا الكم الكبير والزخم الهائل من الإنتاج «المحفوظي» لم يحظَ بعد بما يستحقّه من دراسة تكشف لنا أفكاره الفلسفية، والأخلاقية ورؤيته الإنسانية والوطنية والسياسية والاجتماعية.

في الإطار نفسه، يلاحظ العسكري أن الأدب «المحفوظي» ما زال أرضاً بكراً ولم يُكتشف بعد. فنتاجه ما زال حياً يتنفّس ولم يمت أو لم يقتل بحثاً كما يقال بلغة الأكاديميين، مستبعداً أن يكون محفوظ تحوّل إلى تراث قديم يمكن تجاوزه.

بين الفصحى والعاميّة

يشير العسكري إلى الهمّ الحضاري اللغوي لدى نجيب محفوظ،  مشيراً إلى أنه كان يتمتّع بإحساس ضخم بالمسؤولية تجاه اللغة، مصحوباً برغبة في تطوير أساليب التعبير والوصف والتصوير. لذا نجد اللغة العربية حاضرة بشكل سامق وواضح في أعمال نجيب محفوظ.

يستطرد العسكري متحدثاً عن ضرورة الحفاظ على اللغة العربية، لافتاً إلى أن محفوظ كان يرفض غواية العامية معتبراً الفصحى لغة العرب الحامية والحافظة لهم من نمو العاميات التي تعمل على التجزئة الثقافية والسياسية والاقتصادية، ومشدداً على أن علاج تفشّي العامية سيكون بمنزلة علاج لجزء مهم من مجمل عيوب المجتمع العربي وأزماته، وضرورته لا تقلّ عن العلاج المطلوب للفقر والجهل والمرض.

يحدّد العسكري ملامح رؤية محفوظ الداعية إلى الابتعاد عن التفكير في الوحدة السياسية أو الزعامة بصورة جبرية، مركزاً على تبادل المنافع المشتركة تحفيزاً للتكامل الاقتصادي والثقافي، ومؤكداً ضرورة هذا التبادل في مجالات أخرى كالتعليم والرياضة والترفيه. كذلك، كان محفوظ يعتبر الحفاظ على الجامعة العربية كهيكل مفيد للعالم العربي، ويرى أن الوحدة هي وحدة الثقافة والاقتصاد وأن هذا المدخل هو المدخل للنهضة العربية المنشودة وبغير ذلك ندخل في تجارب متعثّرة وهزيلة وغير قابلة للحياة.

جائزة نوبل

يؤكد الأديب عبد الله خلف أن نجيب محفوظ أحد الأعلام الخفّاقة فوق أعلى قمة في قمم الأدب العربي، فقد أخذ بفن القصة والرواية إلى أرفع المراتب بين فنون الأدب العربي، ولمع نجمة في سماء العالم، إذ تُرجمت أعماله إلى لغات عدة حتى صار تُراثاً كما قال عنه الدكتور عبد العظيم تليمه: «صار الإبداع الروائي لنجيب محفوظ بموهبته تُراثاً، ولم يعد هذا الإبداع تراثاً لفوزه بجائزة نجيب نوبل العالمية بل إن صاحبه قد فاز بالجائزة الرفيعة لما صار إبداعه تُراثاً، ومن شأن هذه الحقيقة أن الإبداع إذا ما استقر تراثاً، أن يزلزل تراث النوع الأدبي الذي ينتسب إليه وتراث أُمته الأدبي، وربما التراث الأدبي العالمي».

يضيف خلف: «محفوظ علم، ستبقى أشعة الشمس على إبداعه الفكري باقية لا تزور عنه كما تزور وتغيب عن رجال السياسة ونجومها. وقد قال الكثير في السياسة بتعابيره الواقعية ورموزه الفنية البديعة، لكنه لم يتوغّل فيها ولم يهجر الأدب لأجلها، ولو انصرف نحوها لما بلغ السمو هذا».

يستطرد خلف متحدثاً عن كتابات محفوظ في السياسة متذكراً مجموعته القصصية «همس الجنون» الصادرة في عام 1938، والتي تضمنت نقداً جريئاً للحكومة الملكية، فرأى أن «التاريخ الاجتماعي ما هو إلا وقائع سياسية تدخل في نواحي الوطن كافة، في ساحات التعليم والقضاء والأمن والزراعة والصناعة، ولما هبت رياح الوطنية وجدنا محفوظ في ميدان السياسة في رواياته الاجتماعية «القاهرة الجديدة». هنا أخذ ينتقد المؤسسات البالية في المجتمع المصري، معبراً عن غضبه لمساوئ الطبقية في المجتمع، والانحلال في أجهزة الدولة والحاشية المنتفعة، وكانت إرهاصات التغيير التي انفجرت بثورة 23 يوليو 1952، هذه الثورة التي كرمت رجال الفكر والأدب. إنه كاتب عاش لفنه القصصي وإبداعه الأدبي حتى تعرّض للإرهاب وهو في أوهن العمر».

يختتم خلف حديثه مؤكداً أن محفوظ تراث عربي ولجّة بحر عظيم، وهو ليس بحاجة إلى ركوب موجة مسرعة للتتكسّر على رمال الشاطئ كما يفعل البعض، فيركب موجة السلطة فيموج ويتزلف وساعة موت الرئيس يكيل له الذم والقدح بعدما كان يغمره مدحاً. «حرّك محفوظ السواكن، ومهما قيل عنه فإنه بلغ القمة ولا يزال منتقدوه في منحدر السفح لم يرتفعوا بعد».

ترسانة إبداع

أستاذة الأدب العربي والنقد في جامعة الكويت د. نسيمة الغيث تؤكد أن هذا الطرح جاء في موعده، «لا أقصد مرور مائة عام على ميلاد نجيب محفوظ، وإنما أقصد أنه من المهم أن نعيد قراءة أدبائنا بين حين وآخر، لأن حاجات الحضارة ومطالب التقدّم تتجدّد وتتطوّر، ومن المهم أن يواكبها الإبداع الفني»، مشيرة إلى أن مسرح شكسبير يقرأ ويعرض الآن، ويجد فيه القراء والمشاهدون كشفاً وإشباعاً، وخبرة إنسانية.

وبحسب الغيث، فإن محفوظ «ترسانة» إبداع سردي حاضر إلى الآن، كأنه يعيش معنا، ويلمس قضايا واقعنا، وتمسّكه باللغة العربية الفصيحة أعطاه الحق في أن يكون أديباً للعصور الآتية كافة، وإذا كان جوهر السؤال ماذا تبقى من نجيب محفوظ في الذكرى المئوية لميلاده؟ فإن الإجابة تجمع بين شخصه وأدبه.

خبرة واسعة

تضيف الغيث: «من ناحية «الشخص» كان تكوينه الثقافي رصيناً، جاداً وشاملاً. تدلّ كتابته على وعيه بتخصّصه الأساسي، وهو الفلسفة، وتظهر خبرته الواسعة بالثقافة الدينية، الإسلامية وغير الإسلامية، وبعلم النفس وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، فضلاً عن دقة الملاحظة لسلوك الفرد، وأخلاق الجماعة، ثم يأتي اطلاعه على ما كتب الروائيون العالميون في مختلف الثقافات والعصور، من ديكنز إلى بلزاك، إلى توماس مان وغيرهم.

عن تفرّد رؤيته واستقلاليتها، تشير الغيث إلى تصالحه مع نفسه والتزامه بثوابت أخلاقية لم يحد عنها خلال نتاجه الأدبي، وتقول ضمن هذا السياق: «لا نغفل قدرة محفوظ على أن يكون مستقل الرأي والرؤية في زمن تضاربت فيه الإيديولوجيات ومذاهب السياسة والفن، وأنذر بصراع الحضارات، لهذا لا نجد تناقضاً بين روايات محفوظ، ومن اليسير أن نجد ثوابت مستقرّة، من دون أن تكون تكراراً أو «لوازم» جامدة».

عن شكل نتاجه، تؤكد الغيث أنه صنع تياراً روائياً راسخاً، يتحرّك بين الواقعية والرمزية، وفي الأحوال كافة يتقبل أكثر من تفسير وتأويل، وهذه مهمة القارئ أو الناقد. لقد بدأ بملوك الفراعنة في «عبث الأقدار» وانتهى في مقهى بحي العباسية في «قشتمر»، وبينهما سياحة رائعة في تجارب إنسانية بين ابن فطومة وليالي ألف ليلة، وقصص الكتب المقدسة، وصراع الحرافيش، والسلطة على السيادة في الحارة التي قد تكون الدولة أو الدنيا، وليس من الصدق أن نقول إن محفوظ صنع فن الرواية العربية، فله شركاء ومريدون، وتلامذة، وله مخالفون، ومعارضون. لكن من الإنصاف أن نقول إنه لولا وجود ظاهرة نجيب محفوظ ربما تساقط هؤلاء من دون أن يشعر أحد بإنتاجهم.

back to top