صانعة النجوم عاشت في أحضان الأُنس والألم...(4) بديعة مصابني... هنا القاهرة

نشر في 15-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 15-08-2010 | 00:00
في قطار الدرجة الثالثة المتّجه إلى بيروت جلست بديعة تنتظر على أحرّ من الجمر أن يطير القطار بها تاركاً تلك المحطة، فصورة أمها لا تفارقها، وأيام العذاب والشقاء تحاصرها، وتودّ لو تفقد ذاكرتها وتنسى تلك الأيام. كان الهروب مغامرة ومجازفة كبيرة لكنه يبقى أهون من تعذيب الوالدة.

كانت إلى جوار بديعة في القطار سيدة قادمة من حلب، لفتتها بديعة فراحت تتفحّصها باهتمام بالغ، وتتحدث معها، ثم قدّمت لها طعاماً سدّ جوعها، إذ كانت الرحلة طويلة ولم يكن لدى بديعة طعام. لاحظت بديعة أن رفيقة السفر لا تجيد العربية، ومع تودّدها وملاطفتها ارتاحت إليها.

طال الحوار وامتد حتى وصل القطار إلى بيروت حيث رُفعت الكلفة بين بديعة وتلك المرأة التي سألتها: إلى أي مكان تذهبين؟ فأجابتها بديعة إلى شقيقتي في قرية شيخان، فأشفقت عليها من تلك الرحلة الطويلة التي ستقطعها بعد ذلك السفر الطويل، وعرضت عليها تمضية الليل في بيتها ثم تستأنف صباحاً رحلتها إلى الجبل، فوافقت بديعة وشكرت المرأة على حسن معاملتها.

في بيت مشبوه

رافقت بديعة تلك المرأة إلى منزلها في بيروت، وكانت أقصى ما تتمناه ليلة تريحها من عناء السفر، وهناك ذُهلت لما رأته من أثاث فاخر، لكن صدمها مشهد غريب في حجرة الطعام، إذ رأت أناساً كثيرين معظمهم من الرجال يلفون أذرعهم حول النساء ويتمايلن رقصاً، ويتناوبون الكؤوس في خلاعة ظاهرة، حتى أنهم لم يعودوا يشعرون بمن دخل أو خرج.

ظلت بديعة تنظر إلى المحتفلين باستغراب شديد، الى أن جاءتها صاحبة البيت بعشاء لذيذ، فالتهمته بنهم، ثم اقتادتها إلى غرفة نوم فاخرة سلبت النوم من عينيها، ثم اقتربت منها تلك المرأة وراحت تساعدها في خلع ملابسها، فقضت بديعة تلك الليلة في سعادة وهناء لم تعهدهما.

صباحاً وبعد تناول الفطور، ظلت تلك المراة تلاطف بديعة ودعتها إلى البقاء معها بشكل دائم، ففكّرت هذه الأخيرة فعلاً في الأمر، فأين ستجد ذلك الطعام الشهي والنوم الهادئ والثياب الجميلة. ارتاحت بديعة للإقامة في ذلك البيت، خصوصاً أن تلك السيدة اشترت لها أفخر الثياب، فبدأت السعادة تتسرّب إلى حياتها وتشعر بأن الدنيا تصالحها، لكن لم يكن القدر قد أذن لها بالراحة بعد.

اكتشفت بديعة أن تلك المرأة الملاك تغريها لتدمجها في حياة اللهو والرقص والغناء والدعارة، إذ أخذتها وقدّمتها إلى أحد ضيوفها، وهنا كانت صدمة بديعة التي لا توصف. راحت السيدة تؤنبها على ما فعلته وعلى رفضها مثل هذه الفرصة وهؤلاء الناس، ثم عهدت بها إلى إحدى الفتيات اللاتي كن يعملن معها، والتي وعدتها بأن تساعدها في الخروج من هذه الدار المشبوهة، فاطمأنت إليها بديعة، وراحت تحكي لها قصتها كاملة.

نجحت بديعة وصديقتها في الخروج من ذلك البيت، ثم ذهبت فوراً إلى المصرف لصرف شيك كان بحوزتها، وهناك كانت المفاجأة، لقد قابلها الموظفون بترحاب، ثم أخذوا منها الشيك وطلبوا منها أن تنتظر كي يعود المدير، وظلت منتظرة إلى أن سمعت صوت أمها تبكي وتقول: «بنتي بنتي!».

اتجهت بديعة نحو أمها التي غطت الدموع تجاعيد وجهها الحزين، ثم مضيا الى قدرهما المشترك.

الرحيل إلى مصر

أرادت الوالدة العودة إلى الشام، لكن بديعة رفضت ذلك بشدة قائلة: «لن أعود إلى الشام فالموت أهون عليَّ من الحياة هناك، فلنذهب إلى أي مكان آخر، مكان ليست فيه ذكريات مؤلمة، أو أخ يقف حائلاً بين زواج أخته ليتمكن من الحصول على حصتها في البيت، أي أرض أخرى ستكون أرحم عليَّ من الشام، البلاد التي لا يعرفنا فيها أحد خير لنا من أي شام، فلنذهب إلى أميركا أو مصر والآن دعينا نعد إلى نظلة في شيخان، بعدها نفكر في الأمر».

شعرت بديعة بعدم ممانعة أمها السفر الى مصر، لاسيما أن خالها يعيش هناك وهو من أثرياء مصر. في شيخان حاولت نظلة وزوجها ميخائيل التأثير على بديعة للإقامة معهما، إلا أن الأخيرة كان لديها حلم آخر، كانت تفكر في حياة الرقص والغناء لكنها أخفت عليهما ذلك، خوفاً من رفضهما، وصممت من دون علم أحد على السفر إلى مصر التي كانت آنذاك بلد الفن، حيث الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وبديع خيري ونجيب الريحاني وأسماء كثيرة، وكانت بديعة قد تعلقت بالشيخ حجازي منذ شاهدته للمرة الأولى في الشام، حين جاء مع فرقته وغنى في مسرح حديقة الأفندي، ومن يومها وهي تحلم بالغناء وبالوقوف على المسرح.

كانت الحياة الفنية هي الأمر الوحيد الذي يستطيع انتشال بديعة من ساعات شرودها الدائمة، فعزمت على خوضها، وما أن طلع الصباح حتى خرجت مع أمها من قرية شيخان على رغم إلحاح نظلة على بقائهما، فسافرتا على ظهر بابور كي لا تقاسيان المشقة والتعب واستجداء المحسنين، وبحثتا عن باخرة تقلهما إلى مصر.

وصلت الباخرة إلى ميناء الإسكندرية، وبديعة لا تكاد تصدّق أنها تركت الشام وأهلها، ها هي في مصر بلد الفن والجمال، فأمضتا ليلة في الإسكندرية وفي الصباح ركبتا القطار إلى القاهرة.

غرام في حديقة الأزبكية

فيما كانت بديعة تتجوّل في شوارع القاهرة اقتادتها قدماها إلى حديقة الأزبكية فانبهرت بهذا المكان الساحر الذي أصبح ملاذها في أي وقت تشعر فيه بالضيق، وفي إحدى الليالي وبينما كانت غارقة تستمتع بالمكان اقترب منها شاب يُدعى خميس ودعاها للعب معه والتزحلق، كان شاباً طيباً ولطيفاً، لكنها كانت تجهل اللعبة، حاولت معه فاكتشفت قدرتها على ذلك. اندهش خميس من قدرة بديعة على استيعاب اللعبة بسهولة، وفي نهاية اليوم تجرأ وطلب منها أن يلتقيا في اليوم التالي كي يستكملا التزحلق، فوافقته بديعة، وحين عادت إلى المنزل، كانت أمها في انتظارها فبدأت في محاصرتها بالأسئلة كعادتها، لكن بديعة لم تعرها اهتماماً واتجهت الى فراشها لتنام وتحلم بلقاء الغد مع هذا الصديق الجديد.

وجدت بديعة أخيراً مؤنساً لها، كان خميس ضالتها الجديدة، فاستغلت حكاية البحث عن خال والدتها إبراهيم النجار في التأخّر عن البيت وقضاء أوقات مع خميس. داومت بديعة على تلك اللقاءات في حديقة الأزبكية، وحكت له عن خالها، فأخبرها أنه من الصعب في بلاد كبيرة كهذه بشوارعها وميادينها أن يستدل عليه من دون عنوان، إلا أنه لم يتركها وحدها تبحث عن ذلك الخال المجهول، وبدأ هو الآخر يبحث معها عنه، وامتدت لقاءاتهما في الحديقة الجميلة.

في المسرح للمرة الأولى

لفت بديعة وهي في حديقة الأزبكية مبنى جميل يقصده أناس كثيرون، سألت خميس عنه فأخبرها أنه مبنى مسرح الأزبكية، وكان هذا المسرح آنذاك يستقبل مسرحيات كبار الفنانين في مصر والعالم العربي، من بينهم جورج أبيض الذي كان يقدم روايات كثيرة مترجمة عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية. دخلت بديعة المبنى برفقة خميس، وهناك وجدت نفسها في دنيا تختلف عن كل ما عاشته من تفاصيل جارحة ومؤلمة، وراحت تتخيل نفسها بملابس الممثلين على خشبة المسرح.

في تلك الليلة تأخرت بديعة كثيراً في العودة إلى البيت، وتخيّلت حجم النكد الذي ستلقاه من أمها، فبدأت تبكي، وعندما سألها خميس عن سر بكائها، أخبرته بما ينتظرها من أمها حين العودة الى البنسيون، فعرض عليها أن يعود معها ويعتذر لأمها فرفضت بشدة لكنه أصر. استقل الإثنان عربة حنطور إلى البنسيون، وحين وصلت بديعة أخبرها صاحب البنسيون بأن أمها غير موجودة، إذ لم تحتمل تأخرها. خرج خميس وبديعة يتجولان في الشوارع بحثاً عن الوالدة ويسألان المارة وسائقي العربات وأصحاب البقالة وأهل المنطقة، وظلا على هذه الحال حتى الساعة الواحدة صباحاً، بعدها عادت بديعة إلى البنسيون ربما تكون أمها قد عادت، إلا أن الخادم هناك أبلغها بأن أمها لم تعد إلى الآن، فراحت تلوم نفسها بشدة على ما فعلت، وظلت غارقة في دموعها حتى الصباح، ثم استأنفت مع خميس البحث عن أمها لكن من دون جدوى.

بعد أن فشل الإثنان في العثور على الأم، قررا الذهاب إلى جريدة «المقطم» لنشر خبر اختفاء الأم وتركا عنوان البنسيون، ثم ذهبا إلى قسم شرطة شبرا فقيل لهما إن رجال الشرطة شاهدوا سيدة عجوز تلطم وجهها وتصرخ في الشوارع «بديعة يا بديعة... وين بنتي... وين بنتي...» بلهجة شامية واضحة، وحين سألوها عن عنوان مسكنها أجابت: دير البنات، فأسرعت بديعة إلى الدير ومعها خميس وما إن شاهدتها أمها تجري نحوها بشوق ولهفة حتى بدأت ترميها بكل مفردات التجريح والإهانة ثم الضرب والشتم.

بعد الصراخ والكلمات الجارحة، راحت والدة بديعة تسألها عمن معها من دون أن تترك لبديعة فرصة الرد، بل انهالت على الشاب بعبارات التوبيخ والتقريع والإهانة، فطلبت بديعة من خميس أن يخرج ويتركها وحدها، فخرج مهرولاً في اتجاه الشارع مندهشاً من أمر هذه المرأة، بعد هذه الحادثة اختفى خميس ولم تعرف بديعة له طريقاً، اختفى مثل كل الأمور الجميلة التي اختفت من حياتها.

ظلت بديعة تذهب إلى حديقة الأزبكية يومياً لعلها ترى فيها خميس لكن عبثاً حاولت، وفي إحدى الليالي شاهدت بين رواد الحديقة وجوهاً لم يسبق أن رأت مثلها سابقاً، كان في يد كل منهم كتاب يقرأ به بصوت عال وهو يميل يمنة ويسرة كما لو كان من مجانين الموالد، فسألت أحدهم عن هؤلاء فأجابها وهو يضحك «فرقة تمثيل، وهم الآن في طريقهم للصعود على المسرح لكنهم يراجعون أدوارهم»، فطلبت بديعة أن تشاهدهم على المسرح وهذا ما حصل بالفعل.

كان محدّثها الفنان والكاتب المسرحي فؤاد سليم فاصطحبها وقدّمها إلى جورج أبيض، الذي كان يستعد للصعود إلى المسرح، وما إن لمحها أبيض حتى سأل سليم عن هذه الجميلة فأجابته بديعة فوراً «اسمي بديعة»، فأعجب بلكنتها الشامية وصوتها، ثم سألها عن إجادتها للقراءة والكتابة فأجابت: «أقرأ وأكتب بالإسبانية»، فراح أبيض يتحسر على كون هذا الجمال لا يكتب ولا يقرأ العربية، وقال لها لو كنت تقرئين وتكتبين بالعربية لدرّبتك على التمثيل، لأن جمالك نادر وتتمتعين بجرأة وفي صوتك نغمة جميلة.

اقترح سليم أن تتعلم بديعة القراءة والكتابة، فطارت من السعادة وتمنت أن يكون جاداً في ذلك، فبادرها بقوله: «متى نبدأ الدرس الأول؟»، فأجابته: «غداً إن شاء الله يا أستاذ»، فسألها عن المكان الذي سيلتقيها فيه فقالت له: «في المكان نفسه... حديقة التزحلق».

في اليوم التالي، يوم تلقي أول درس ليفتح لها الطريق إلى التمثيل، حلم حياتها الذي كثيراً ما راودها، جاءت بديعة قبل الموعد وراحت تمارس هوايتها، التزحلق، وما إن وصل فؤاد سليم حتى وجدها في حلقة الرقص ترقص فدُهش لرشاقتها وظل يتأملها من دون أن يعلمها بأنه موجود أصلاً حتى انتهت من الرقص، فبادرها سليم بقوله: «أنت رائعة سيكون لك مستقبل رائع في الفن»، ثم بدأ بتلقينها دروساً باللغة العربية، فوجد منها استجابة وسرعة في الحفظ.

ظلت بديعة تواظب على الدروس لمدة شهرين إلى أن أصبحت قادرة على القراءة بسهولة شديدة، قد لا تكون أحسنت الكتابة إلا أن خطوة القراءة كانت مهمة بالنسبة إليها، فهي بدأت تقرأ الأدوار لتحفظها، كان ذلك بالطبع سيجعلها تسهر في المسرح، وكانت قد أخبرت أمها بأنها تعمل في مكان ما، لكن سهرها في المسرح قد يؤدي إلى أن تكشف الأم حيلتها، فلجأت إلى حيلة جديدة وأخبرت أمها بأنها تعمل في جهاز عروس ما يضطرها للتأخير مساءً، فوافقت الأم على مضض.

أخيراً ستظهر بديعة على خشبة المسرح، وما إن اعتلته للمرة الأولى حتى ظهر حضورها الخاص، ولفتت المتفرّجين، كذلك أصبحت حديث الممثلين والممثلات وارتبطت بعلاقات مع عدد منهم أمثال: عزيز عيد والسيدة فاطمة اليوسف، التي كانت آنذاك صاحبة أشهر مجلة في مصر وهي «روز اليوسف» ويعود سبب انفتاحها على هذا العالم إلى الكاتب المسرحي فؤاد سليم.

كانت بديعة آنذاك أصغر ممثلة في الفرقة، ولم تكن أدوارها كبيرة إلى الحدّ الذي يظهرها على المسرح، ولم يكن يتسنى لها ذلك إلا إذا غابت إحدى الممثلات. تحمّلت هذا كله من أجل حلمها، لقد كانت تعشق التمثيل أكثر من أي شيء، وكانت تنتظر أن يأتي اليوم الذي تصعد فيه إلى المسرح كبطلة كبيرة لا كمجرد سنيدة في نص أو بديلة عن أخرى، لقد اشتاقت إلى هذا اليوم وظلت تعمل من أجله من دون ملل أو كلل، وبعد تعب ثلاثة أشهر حُدِّد راتب بديعة الشهري بخمسة جنيهات فقط، كان هذا المبلغ زهيداً جداً ولا يؤمن لها نصف حياة، بل كان لا يكفي أن تتقوت منه هي وأمها، فراحت تفكر كيف ستدفع إيجار الغرفة، أو تأتي بثياب جميلة كي تظهر في وسط الممثلات المشهورات اللاتي يلبسن أفخر الفساتين، وتعيش حياة هانئة، وماذا عن أمها وما الذي تقوله لها لقاء السهرات والتعب؟ هل تقول لها إن أصحاب المحل قد ضحكوا عليها واستغلوا عملها لقاء هذا الأجر الزهيد؟

كانت بديعة تشتاق إلى اللحظة التي تتمكن فيها من ارتداء أفخر الثياب وتتزين بالمجوهرات، ويكون لها مسكن جميل أشبه بالقصر... حلمت كثيراً بأن تعوّض عن الأيام البائسة التي عاشتها. كانت تبحث عن البديل الأجمل والحياة الأرقى والتخلص من غرفة البنسيون الرديئة، لذا صممت أن تعمل بكل ما لديها من طاقة حتى تصبح كالنجمات، وتعيش مثلهن... قررت أن تعمل بجد كي تحتل صورتها الملصقات في الشوارع، وتحفر بأسنانها اسم بديعة مصابني على أكبر مسارح مصر والعالم العربي.

back to top