إسماعيل يس... حكاية رجل حزين (7) متشرِّد مظلوم

نشر في 30-08-2009 | 00:00
آخر تحديث 30-08-2009 | 00:00
ظلّ اسماعيل على هذه الحال أياماً طويلة، حتى اكتشفه أحد خدام المسجد، رجل ضخم فظ وغليظ القلب، هوى على وجه اسماعيل بصفعات عدة قبل أن يطرده.

مرّت الأيام، وازدادت حالته سوءاً! وظهرت على هيئته ملامح البؤس والفقر، إضافة الى قذارة ملابسه، وكما تبخرت نقوده تبخرت الوعود والأحلام كافة، فلم تسنح فرصة واحدة للمطرب الشاب القادم من السويس لغزو القاهرة. ازداد انبهاره بشارع عماد الدين ورواده من الفنانين، وبالأضواء التي لا تنطفئ ليلاً وتحيل الشارع إلى نهار.

ازدادت مشاكل إسماعيل، فلجأ إلى محطة {كوبري الليمون} بعد طرده من النوم في المساجد، ثم هرب منها خوفاً من عساكر الشرطة وعاد مجدداً إلى رحلة البحث عن مأوى. تجوّل في شوارع القاهرة، حتى أعياه التعب فجلس وارتاح على الرصيف ومن شدة التعب نام في مكانه.

ومع إشراقة الفجر الأولى، وحين بدأ الناس يتجولون في الشوارع، خاف أن يلاحظه أحد العساكر فيأخذه إلى السجن، فواصل رحلة المشي على غير هدى، وبلغ به التعب ليلاً حداً كبيراً فكان يمشي وهو نائم إلى أن وجد مقهى ليس فيه كثير من الناس فدخله وارتمى بجسده المتهالك في زاوية بعيدة عن العيون ونام.

مجدداً، فتح إسماعيل عينيه صباحاً على رجل غليظ القلب يضربه برجله ويقول له:

- قوم يا متشرد يا ابن المتشردة، قوم من هنا.

ثم عاد كي يضربه في بطنه الخاوية من الطعام منذ يومين، وليت الرجل اكتفى بذلك، بل تطلع الى اسماعيل وصرخ:

- هو ده الواد اللي سرق طقم الشاي إمبارح. أنا الخلقة دي متروحش من بالي أبداً... هو يعني هو.

فجاء أهالي الحي وشاركوا الرجل في ضرب اسماعيل، وهم يصرخون:

- كده تسرق طقم الشاي يا حرامي يا وش الإجرام.

انسابت دموع إسماعيل ساخنة على خديه وبكى من أثر الاتهام الكاذب وقسوته، وعلى ما ينتظره من مستقبل مظلم نهايته السجن:

- والله عمري ما شفت أي طقم شاي في حياتي، ولا حتى سرقت جدتي ولا حاجة، أنا مش حرامي يا ناس... أنا غلبان!

لكن الجميع صمّم على اقتياده إلى مركز الشرطة، وبدأت التظاهرة صغيرة وما لبثت أن كبرت وانضم إليها كثر أخذوا يشاركون في جذبه وصفعه وشتمه، ويشهدون هم أيضاً على أنه هو الذي سرق طقم الشاي، وإسماعيل يقول لهم:

- يا ناس حرام عليكم تشهدوا زور.

لكن لم تشفع له دموعه وملامح البراءة البادية على وجهه وتصرفاته وحيرة الإنسان الصادق عندما تحاصره الأكاذيب، ونبرات الصوت المشحونة بالحزن والمرارة الصادرة منه نافية الاتهام، ونظرات عينيه الحائرة المستجيرة، الباحثة عن قلب رحيم يأخذ بيده وينقذه من هول الموقف الذي يقف فيه، وفي الطريق إلى مركز الشرطة سقط إسماعيل مغشياً عليه من شدة الضرب. فتدخل القدر لينقذه حين جاء شيخ المسجد الذي كان لمح السارق وهو يهرب ونظر إلى اسماعيل، قائلاً لمن تجمّعوا حوله:

- أتركوه يا جماعة، إنه ليس سارق الشاي.

تركه الجميع، وحين أفاق من إغمائه وجد شيخ المسجد أمامه فارتمى على صدره واندفع في نوبة بكاء حادة، ارتعش فيها جسده كله ونبرات صوته، وقص على الشيخ قصته بكلمات حارة صادقة، وبعينين حزينتين نافياً الاتهام الظالم الذي تعرض له، فنصحه الشيخ بالعودة إلى السويس كي لا تسوء حالته أكثر، ولا يتعرض إلى مصاعب أخرى في بلد غريب:

- اسمع مني يا ابني، الأفضل لك أن تعود إلى والدك في السويس.

فأجاب إسماعيل:

- حاضر يا مولانا.

صمت إسماعيل وهو يجفف دموعه، ومدّ الشيخ يده في جيبه وأخرج منها جنيهاً (مبلغ ضخم في ذلك الوقت) وأعطاه له. تردد إسماعيل ثم مدّ يده على استحياء وأخذه، ومن دون تفكير اتجه فوراً إلى محطة السكة الحديدية ليقطع تذكرة إلى السويس، فأخذ الشيخ بيده وودّعه في المحطة، وهو يستقل القطار إلى السويس، بعد أن تكفّل له أيضاً بوجبة غذائية.

شعر إسماعيل بالاطمئنان والثقة في الناس مجدداً، وأن القلوب الرحيمة لا تزال موجودة وعلى استعداد كي تنقذ غريقاً، أو بريئاً قد يحيط به الاتهام.

وحين بدأ القطار يتحرّك هطلت دموعه مجدداً، لكن هذه المرة ليس لأن الدنيا لا تزال بخير، بل لإحساسه بأنه فشل في تحقيق أحلامه، فشل في أن يتعلم الموسيقى كي يصبح مطرباً ولا بد من أن يطرد من ذهنه هذا الحلم، ويعود إلى بلده مهما حدث بعدما شاهد قسوة الظروف التي مرّ بها.

العودة إلى السويس

عاد إسماعيل إلى السويس حزيناً، مكتئباً، مهزوماً، غير أن جذوة الأمل لم تنطفئ بالكامل في قلبه المتعلّق بالغناء والطرب. وصل إلى بيته، ولم يجد ما يسّره أو يزيح عنه هموم ما رآه في القاهرة، فقد وجد والده في حالة يرثى لها، كان يرتدي ملابس رثة، وقد تدهورت صحته، وقُبض على عصابة تزييف النقود، لكن لحسن الحظ كان الأب تركهم، وتبدلت حالته وتحوّل إلى {صنايعي} أجير في أحد محلات {الصاغة} بعد أن كان صاحب محل، ولم يعد بإمكانه مساعدة ابنه أو الإنفاق عليه، فهو بالكاد يسد متطلبات حياته وزوجته.

أذلّ المرض والد إسماعيل وهدّه إدمان المخدرات، وبدأت تظهر عليه آثارهما، فأصبح أكثر تفهماً لأحلام ابنه الغامضة في السفر إلى القاهرة.

محو آثار الهزيمة

أكثر ما أسعد إسماعيل أن {شلّة} الأصدقاء التي تركها ما زالت تحمل له الود والحب، واستقبلته كابن لها يعود من رحلة غياب، وليس من رحلة فشل يستحق عليها التأنيب أو السخرية منه، كما كان يخشى.

روى اسماعيل لأصدقائه تجربته المريرة القاسية في القاهرة، وأخبرهم عن أحلامه لو أنه استطاع الاستمرار، فمعركة إثبات الوجود طويلة وتحتاج جهداً كبيراً من المثابرة والصبر.

وكعادة الأصدقاء، لم ترضَ {الشلّة} بفشل أحد أعضائها، فتولّدت الرغبة في المساعدة والتصميم على إعادة المحاولة، والوقوف إلى جانب إسماعيل كي يعود ليغزو القاهرة. استقبلت السويس إسماعيل في حفلات الزفاف، مع تلك الفرق البسيطة التي تحيي الليالي بالغناء والموسيقى والرقص، لتبعث البهجة في النفوس المتعبة، وتحاول أن تكسر رتابة أيامها وإن من خلال مناسبة بسيطة تخفّف عنها أعباء الحياة، وما تعيشه من ضيق وذلّ في ظلّ وجود الاحتلال البريطاني.

اجتهد الأصدقاء في دفع إسماعيل إلى المناسبات لمساعدته، فلم يعد لديه عمل أو مهنة، حتى قادته الصدفة في أحد الأيام إلى إحياء فرح في منزل أحد أثرياء مدينة السويس يدعى الشيخ إسماعيل الفار، وهناك لقي قبول الجميع، وأصبح محط أنظارهم، وما إن انتهى من الغناء حتى تقدم منه شاب وسيم يحييه على غنائه، فأثار فضول إسماعيل هذا الثناء والإعجاب، وتعرف إلى الشاب الذي اتضح أنه من عائلة قدري باشا التي كان أفرادها يحضرون الفرح، فأبدوا إعجابهم بإسماعيل ووجدوا فيه {شيئاً} طريفاً جديداً، ثم طلبوا منه أن يزورهم في القاهرة، فقد وجدوا فيه وجهاً جديداً لم يشاهدوه في أمثاله من المطربين من أبناء القاهرة، وخفّة ظل و}نكات وقفشات} يستطيع من خلالها إدخال البهجة والسرور إلى قلوبهم. وبدوره وجد اسماعيل فيهم إصراراً على أن يحيي لهم ليالي {السمر} بنكاته وطريقة تقليده المطربين الجدد.

عودة الروح

ناوله الشاب الوسيم بطاقة تعريف، فيها الاسم والمهنة والعنوان. اندهش إسماعيل عندما لم يجد شيئاً في البطاقة، مجرد أحد الأثرياء، فماذا سيفعل عنده؟ لكن ما من مانع، فقد تكون البداية من هنا.

رأى أصدقاء إسماعيل أن هذه {الدعوة الفرصة} هي {القشة} التي ينتظرها الغريق لتحمله إلى بر الأمان في القاهرة، وأن الفرصة أصبحت مواتية له ليعيد التفكير في تحقيق طموحاته وأحلامه التي وضعها جانباً منذ عودته من القاهرة، فقرروا التكاتف في ما بينهم، وتذليل عقبة المصاريف الأولى اللازمة لبداية الرحلة. جمعوا مبلغاً من المال، ربما لا يتعدى المبلغ نفسه الذي بدأ اسماعيل به رحلته السابقة، الجنيهات الستة التي بقيت عالقة في ذهنه وربما لم ينسَها طوال حياته.

شعر والد اسماعيل بالوحدة والعجز، وعارض سفر ابنه معارضة العاجز الذي لا يقدر على المساعدة أو المنع، لكنه لم يجد بداً من أن يوافق على سفره، فربما فُتحت له أبواب مغلقة، واستطاع أن يعيد الأسرة إلى سيرتها الأولى.

سافر إسماعيل إلى القاهرة ورغبته في الانتصار عارمة، فهذه المرة ليست كما الأولى، لأنه يسافر الآن على هدى، يعرف أين يذهب، ومن المؤكد أن القاهرة ستفتح له ذراعيها مجدداً.

{مصر من تاني}

لم تستقبل القاهرة إسماعيل هذه المرة بقسوة، كما فعلت أول مرة. توجه فور وصوله إلى قصر قدري باشا، وكما توقع وربما أكثر كان الاستقبال حافلاً، واستطاع خلال ساعات قليلة أمضاها في القصر أن يكسب ثقة جميع من يعيش فيه، من نساء ورجال، تحديداً الأطفال، فقد روى لهم بظلّه الخفيف النكات والحكايات، فسُعدوا به وبدأوا يعاملونه بطريقة طيبة. بعد أيام قليلة أصبح كأحد أفراد الأسرة، فاختاره الشاب الذي استدعاه ليكون سكرتيراً خاصاً له: يأكل ويشرب وينام ويلبس على نفقته، إضافة إلى راتب يعطيه له في نهاية الشهر.

كانت مهمة اسماعيل مرافقة هذا الشاب في كل مكان يذهب إليه، والغناء له في سهراته الخاصة، ومسامرته في جلساته ورواية نكات تثير ضحكاته كلما تجهّم وجهه، أو غضب من شيء:

- اسمع يا سمعه... أنت مش مطلوب منك أي شيء غير أنك تخليني أضحك على طول.

- بس كده سيادتك تأمر... أنا مفيش حاجة ورايا غير كده.

- أيوه، أنا عندي هموم كتير، حسابات وأطيان وبورصة.

- طب والغنا، مش هغني؟

- تغني ترقص تقول نكت، إعمل أي حاجة تبسطني.

وكان هذا الرجل أعطى اسماعيل مفتاح السعادة، فقد كانت أسعد أوقاته خلال الأيام التي كان مخدومه يمضيها مساءً بين المسارح والملاهي الليلية ودور السينما، ولم يكن هذا يحدث كلما سمحت الظروف، بل يومياً، فلم يكن لدى هذا الشاب ما يشغله، وتحديداً مساء، سوى ساعات الحظ فهو ابن ذوات، ولا بد من أن يجد ما يقتل به الوقت كل ليلة، ويسعد نفسه.

وكان من عادة الأسر الثرية آنذاك إقامة سهرات تتضمن الغناء والرقص كنوع من الترفيه، إذ لم تكن ثمة وسائل ترفيهية سوى {الفونوغراف} أو العزف على {البيانو} وكانت كل أسرة تحتضن مغنياً أو راقصة كضيف دائم لإحياء هذه الليالي.

بدأ اسماعيل، من خلال تلك السهرات التي كان يحضرها برفقة ذلك الشاب في المسارح والملاهي والحفلات الخاصة، التعرّف الى نجوم فن {المونولوغ} في القاهرة آنذاك، من أمثال حسين المليجي وسيد سليم، ومصطفى صالح وحسين إبراهيم وغيرهم. وبتردّده على تلك الأماكن والسهرات بدأ يحفظ مونولوغاتهم ويردّدها في السهرات الخاصة التي يحضرها مع مخدومه.

من هنا عادت أحلام الفن تراود إسماعيل، فآهات الاستحسان والتصفيق اللذين كان يتلقاهما جعلت أفكاره تمنيه بأن يصبح مطرباً حقيقياً مثل عبد الوهاب، وليس مجرد {مسلياتي} لمخدومه ومجموعة أصدقائه، غير أنه بعد السهرات والليالي الملاح، وحفظه الكثير من المونولوغات، بدأ يجد في نفسه ميلاً شديداً إلى فن {المونولوغ الفكاهي} بل إنه اختبر نفسه في ذلك الفن من خلال جلساته مع مخدومه التي كان يقلِّد فيها الذين يقدِّمون المونولوغ في الملاهي.

عشق المونولوغ

غرق إسماعيل تماماً في حب المونولوغ وحفظ أعمال سيد سليمان، وحين كان يردّدها في السهرات الخاصة كان الجميع يشجعه ويصفق له ويطلب منه المزيد. من هنا اتخذ إسماعيل القرار الأهم في حياته وهو احتراف فن {المونولوغ}، وتخلّى لأول مرة عن حلمه بأن يصبح مطرباً كبيراً مثل محمد عبد الوهاب. وشجّعه على ذلك أحد أبناء الذوات من أصدقاء مخدومه، الذي كان بدوره يهوى التلحين والمونولوغ، فتعرّف إليه إسماعيل وتقترّب منه، وعرف أنه خليل حمدي المحامي، وكانت تلك الصدفة بمثابة {طاقة القدر} التي فُتحت له، فقد كان ذلك المحامي مغرماً بالغناء والرقص والموسيقى ومحباً لجلسات اللهو والمرح، وكان دائم التردد على المسارح والصالات.

كان على اسماعيل أن يتخذ قراراً بشأن مستقبله، وبقاؤه لدى أسرة قدري باشا ليس بالأمر السيئ، لكنه هكذا سيظلّ على حاله، بل سينتهي به الأمر كما بدأ، وليس هذا ما يتمناه، وإذا كان تخلى عن أحلامه وطموحاته الفنية، فذلك موقتاً حتى تسير الأمور وتضحك له الدنيا ويتخلى عن أيام الفقر والبؤس، لكن لن يقبل بأية حال أن يكون هذا دوره في الحياة، ومنتهى طموحه. وقبل أن يتخذ قراره راح يعاتب نفسه:

- لكن يا سمعه مش لما تتخلى عن أسرة قدري باشا تبقى {قلة أصل} منك؟

- وإيه قلة الأصل في كده؟

- الناس أكرموك وفتحوا لك بيتهم كأنك واحد منهم وبعدين تسيبهم أول ما تلاقي غيرهم؟

- وبعدين انت عارف كويس... إنهم لو زهقوا منك ممكن بسهولة يرموك ويشوفوا حد غيرك برضه علشان يسليهم ويضحكهم.

- يعني فكرك اسيبهم واشتغل عند المحامي ده؟

- مفيش غير كده... لازم تفكر بقى في مستقبلك.

- تقصد إيه؟

- أقصد اللي أنا وأنت فاهمينه.

- إيه يا أخويا اللخبطة دي... ما هو أنا أنت وأنت أنا.

- أنا عارف بقى... أنا قلتلك وخلاص... سلامو عليكو.

قرر إسماعيل الانتقال الى العمل لدى المحامي، لكن قبل ذلك استأذن أسرة قدري باشا، وجاء الرد بسيطاً وسهلاً:

- إحنا موافقين بس بشرط... أوعى تنسانا... ونحب نشوفك دايماً ولما نحتاجك متقولش لأ.

- بس كده... من عنيا الجوز.

لم يستغرق الأمر طويلاً حتى انتقل إسماعيل ياسين من العمل لدى أسرة قدري باشا إلى العمل لدى المحامي الثري.

back to top