المشاغب المظلوم

نشر في 27-04-2016 | 00:00
آخر تحديث 27-04-2016 | 00:00
سعيد صالح... سلطان الضحك وأشهر المشاغبين في المسرح المصري (الحلقة الثالثة)

بحث عن شخصية تميزه عن الآخرين معتمداً على موهبته
نجح سلطان الضحك و"شلة المشاغبين" في تحقيق نجاح كبير، كما رأينا مع المسرحية الخالدة بتراث المسرح العربي "مدرسة المشاغبين"، إلا أن هذا النجاح لم يؤهله لتثبيت مكانته على الساحة لاحقاً، أسوة برفيق دربه الفني والإنساني الزعيم عادل إمام، فهل الحظ والنصيب هما السبب أم القدرة على إدارة الموهبة؟ أم لعلها اختياراتنا الحياتية هي التي تصل بنا إلى نتائج أحياناً مأساوية كما حدث مع مرسي الزناتي أول وربما آخر فنان يدخل السجن، بسبب خروجه على النص المسرحي؟ هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها السطور المقبلة من سيرة ملك الكوميديا وسلطان الضحك الفنان سعيد صالح.

"الدنيا حظوظ... حظوظ الدنيا"، هكذا غنى مرسي الزناتي في "مدرسة المشاغبين"، فهل كان يدرك أنها تنطبق عليه أكثر مما تنطبق على الزناتي، الشخصية التي لعبها باقتدار؟

كان سعيد، رحمه الله، يرفض دوما الارتكان للحظ، بل كان يؤكد دوما "أنا كويس، وراض بحالي"، غير أنه وفي آخر حواراته الصحافية قال بأسى: "بكرة تعرفوا قيمتي"، في إشارة ليس فقط لموهبته الفياضة، بل لألحانه التي لم تقدر كما ينبغي.

الغريب أن مسرحية "مدرسة المشاغبين"، بعيدا عن أنها نقطة تحول في المسرح المصري، وفي مصير أبطالها "شلة المشاغبين"، إلا أن مصائرهم واقعيا تلامست مع أدوارهم التي قدموها على الخشبة.

فمثلا يونس شلبي التلميذ الأبله "اللي مش بيجمع" ظل أسيرا لهذا الدور حتى رحيله، وهادي الجيار "السائر في الركاب" دون بصمة خاصة تميزه عن أقرانه ظل على نفس الدرب، أما الشاعر الرومانسي الفقير أحمد زكي، الذي ظل يجاهد في الابتعاد عن "مشاغباتهم" ليكون له مشروعه الخاص، نجح فعليا في التحرر من قبضة "المشاغبين"، وقدم مشوارا سينمائيا حافلا بالأعمال الجادة والمتميزة، حتى الأباصيري العقل المخطط والمدبر لكل الكوارث والمصائب هو الآخر نجح في إدارة موهبته وقدراته، وحقق أحلامه في التربع على القمة.

الحظ أم الموهبة؟ سؤال المصير الذي طالما شغل البعض، ولكن سلطان الضحك كان حاسما، دوما يقول: "بصدق لم أرتكن على الحظ، وكنت أؤمن دوما بأن لكل عمل ظروفه الخاصة، لذا قررت ومنذ البداية أن تكون لي شخصيتي الفنية المتميزة، وأسلوبي المختلف، ولم أقلد أحدا".

وواصل: "كنت مدركا لضرورة أن أبدو مختلفا عما قدمه آبائي وأجدادي، ممن سبقوني لعرش الكوميديا، نجيب الريحاني وعلي الكسار وفؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولي وغيرهم، كنت واعيا لضرورة أن تكون لي رؤية وفكر مختلف ومستقل، أيضا طبيعة المسرح نفسه اختلفت معنا، فقبل تقديم عروضهم المسرحية كان المسرح يدور في دائرة مغلقة، دوما البطل الأوحد فيما بقية الممثلين بيخدموا عليه، حتى مضمون الروايات –معظمها– لم يحلق بعيدا عن السائد منذ زمن بعيد، لكن جيل المشاغبين أتى بفكر جديد يعبر برؤية ساخرة عما نعيشه من مشاكل، لذا كانت عروضهم المسرحية نقلة كبيرة ومهمة من حيث المضمون، إضافة للتغيير في الشكل المعتاد، إذ أصبحت العروض تعتمد على البطولات الجماعية بعكس ما سبقها".

وقال صالح: "للأسف رغم النجاح الذي حققته عروضنا فإن البعض انتقدها بشدة، واتهمها بإفساد أجيال من الطلبة، وفي تصوري أن الناس دي مش فاهمة حاجة، إحنا كنا بنقول الحقيقة فقط، نعرض ما يحدث في المدارس وعلى أرض الواقع، ثم الفنان مش دوره بس يرفه عن الناس ويضحكهم، لا، دوره الأهم أن يكشف الحقيقة ويقول رأيه في اللي بيحصل حوله".

مسرح تنويري

وعن فكرة المسرح السياسي وهل كانت حاضرة في ذهنه، ذكر صالح: أنا معرفش المسميات والتقسيمات دي، المسرح بالنسبة لي واحد، لازم يتناول كل مشاكلنا، السياسية والاجتماعية و... و...، لازم يقدم القضايا اللي بتهم الناس، مهم كمان انهم يتفاعلون مع اللي بيتفرجوا عليه، وميبقاش مجرد تنفيس عن وجعهم بشوية ضحك".

وزاد: "كل المسرحيات اللي شاركت فيها كانت موجهة، بتعبر عن فكر، فمثلا في (مدرسة المشاغبين) قدمنا مشاكل حقيقية عن المدارس والطلبة وأحلامهم وإحباطاتهم، وفي (قصة الحي الغربي) اتكلمنا عن مشاكل الشباب برضه اللي بيتصدم بالواقع، وفي (أولادنا في لندن) ناقشنا سفر الشباب للخارج أسبابه وجوانبه السلبية والإيجابية أيضا، حتى (العيال كبرت) عبرت عن مشكلة اجتماعية موجودة في بيوت كتير، علشان كده المسرح اللي قدمناه تنويري، هدفه خدمة المجتمع وطرح مشاكله علشان نعالجها بشكل بسيط".

والتقط صالح أنفاسه قبل أن يواصل فتح "صندوقه الأسود" قائلا: "لما عرضنا مدرسة المشاغبين في لبنان كان الجمهور اللبناني مندهشا جدا، لدرجة أن أحدهم سألني إزاي بتقدموا المسرح الجميل ده، واللي بيضحك طوب الأرض وأنتم مهزومون (بسبب نكسة 67)".

وتابع: "ورغم كل النجاح اللي حققته مدرسة المشاغبين إلا أنه في رأيي (قصة الحي الغربي) و(أولادنا في لندن) أهم بكتير من (مدرسة المشاغبين)، بس للأسف ظروف البلد وقتها حالت دون تسجيلهما تلفزيونيا".

والتقط صالح ريموت التلفزيون، وظل يقلب بين الفضائيات بحثا عن فيلم أو مسلسل أو... فإذا به يجد "مدرسة المشاغبين" معروضة على إحدى القنوات، ابتسم وتذكر حينما رأى الأباصيري انه كان من المفترض أن يلعب هذا الدور، إلا أن صديقه الفنان عادل إمام طلب منه أن يتبادلا أدوارهما، ومن جانبه لم يمانع خصوصا أن شخصية مرسي الزناتي كانت تعجبه أيضا، فمن المهم أن يشعر الفنان بالحماس لدوره، وأن يكون مقتنعا به، ويشعر أن لديه ما يقدمه من خلاله.

"مرسي ابن المعلم الزناتي اتهزم يا منز بالإنجليزي"، دوت ضحكات المشاهدين فابتسم مجددا وهمس قائلا: "المسرحية دي الناس كانت بتسجلها على شرايط كاسيت، وكان بيتم توزيعها على امتداد الوطن العربي، أما العيال كبرت فرغم نجاحها إلا أنها لم تنل ما تستحقه من نجاح مقارنة بالمشاغبين".

وفور أن تذكر "العيال كبرت" انتابته حالة من الغضب يقول: "هذه المسرحية لم تعرض كاملة من دون قطع، مش فاهم ايه مفهومهم عن الرقابة، مش قادرين يفهموا إن الفنان رقيب نفسه، ومحدش فينا ممكن يقدم قلة أدب أو حاجة خارج المألوف أو العرف والتقاليد".

السجن للجدعان

كان سعيد صالح أول وربما آخر فنان يتم سجنه بسبب خروجه على النص.

يقول: "كانت تلكيكة وظلم، واللي حصل مكنش خروج على النص، كان دخول فيه، تعميق للشخصية، فأنا طول عمري ضد إيذاء مشاعر المشاهدين، ومؤمن بأن الممثل عليه مراعاة الآداب العامة، ولازم يبتعد عن الإفيهات التي تخدش الحياء وتؤذي مشاعر الجمهور، واللي حصل كان بسبب انتقاداتي السياسية، رغم أني مواطن في النهاية ومن حقي أقول رأيي، ولما أنتقد أوضاعا مش عجباني الرقابة مش من حقها تعترض".

وواصل: "ثم أنا مش أول ولا آخر واحد يخرج عن النص، كل النجوم تقريبا عملوا ده وحيعملوه".

كانت المرة الأولى التي سجن فيها صالح في ديسمبر 1981، أثناء تقديمه مسرحية بعنوان "لعبة اسمها الفلوس"، أي بعد تولي الرئيس المخلوع حسني مبارك الحكم بشهر ونصف، ما ينفي أنه سجن "اضطهادا" بسبب انتقاده مبارك كما أشيع، وهو ما أكده أيضا الكاتب والسيناريست بلال فضل في مقالاته التي دونها عن صالح بعد رحيله والمعنونة بـ"الموهوبون في الأرض".

أيضا ووفقا لما نشره الكاتب الصحافي رشاد كامل في كتابه "نجوم وراء القضبان"، فإن قضية سجن سعيد صالح بتهمة الخروج عن النص والتي قضى فيها 17 يوما في سجن الحضرة بالإسكندرية، كانت قد بدأت بسبب تقرير كتبه مفتش الرقابة العامة على المصنفات الفنية، والذي اعترض على قيام سعيد صالح وشريكه الممثل سعيد طرابيك بالخروج عن النص في عدة مواضع، والتي لا تختلف عما يرد بأفلامنا منذ سنين، بل وأصبحنا نراه في مسلسلات رمضان، إذ وصف سعيد صالح نفسه في مشهد بأنه "ابن العبيطة وأن أمه هبلة"، وفي موضع آخر يسأل زميله في العرض الفنان الراحل سعيد طرابيك الممسك بسنارة صيد "بتصطاد ايه؟"، فيرد طرابيك "باصطاد نسوان"، وغيرها من التجاوزات التي دونها الرقيب.

ليتم بعدها تحرير محضر –والعهدة على الكاتب- أحيل بسببه السعيدان صالح وطرابيك ومدير المسرح إلى المحكمة التي فاجأت الجميع بحكمها بحبس سعيد صالح 6 أشهر مع الشغل والنفاذ وتغريمه 50 جنيها، كذلك غرمت سعيد طرابيك ومدير المسرح خمسين جنيها لكل منهما، وعندما طعن سعيد صالح على الحكم قبلت محكمة النقض الطعن وألغي الحكم، وأحيلت الدعوى لدائرة أخرى لنظرها من جديد، وانتهت القضية ببراءة المتهمين، واعتبر الكثيرون، وعلى رأسهم سعيد صالح ورفاقه، أن الأمر كان شطحة قضائية انتهت ولن تعود.

غير أن الأمر تجدد مع انتقال العرض للإسكندرية، إذ تكررت ملحوظات الرقيب وتحرر بها محضر آخر لتتحرك ضده قضية تم نظرها في الإسكندرية، واتهم فيها صالح بالخروج عن النص والآداب بل وتعرضه للقيم الدينية، وكانت المفاجأة أن حكم عليه بالسجن ليكون أول فنان يحبس على ذمة قضية الخروج عن النص، وعليه تحولت المسألة لقضية رأي عام.

وتذكر صالح تلك الأيام وكيف بكى من شدة الظلم لدرجة أنه كتب خطابا للكاتب الراحل مصطفى أمين قال له فيه: "لقد صدقتك في كل ما قلته عن الحب والتعذيب والاعتقال والتفاؤل، لكني لم أصدق ما كنت تحكيه عن الظلم، الآن فقط صدقت بعدما وقع علي ظلم كالجبل".

قضية الخروج عن النص لم تكن الأخيرة التي يستضيف فيها السجن سعيد صالح، ففي عام 1991 ألقي القبض عليه مرة أخرى بتهمة تعاطي المخدرات كما أعلن وقتها، وقد تم الإفراج عنه بعد عدة أيام لعدم كفاية الأدلة، حيث وجهت له النيابة تهمة "حيازة المخدرات" في جيب بنطاله، ومن جانبه نفى صالح التهمة مستندا الى أن بنطاله ليس فيه جيوب، وبالفعل عندما قامت النيابة بالمعاينة اكتشفت أن الجيوب الداخلية للبنطال منزوعة، ومن ثم تم الإفراج عنه، وأشيع وقتها أن انتقاداته السياسية المتكررة في عروضه المسرحية هي السبب في هذا التربص، بدليل تكرار الملاحقة بعد عدة سنوات، وتم ثبوت الاتهام عليه وقضى في السجن عاما تنفيذا للحكم القضائي.

دموع

تذكر صالح أيامه داخل جدران السجن، والمرة الوحيدة التي بكى فيها طوال 367 يوما قضاها بين جدرانه.

يقول: "قد يتصور البعض أنني بكيت أول يوم لي في السجن، ولكن ورغم صعوبة هذا اليوم وأنت بتشوف حياتك بتتبدل من حال لحال، من البراح لغرفة ضيقة، لمجهول متعرفوش، ظلم وإحباط وقهر متقدرش تهرب منه مهما كبرت وعملت فيها جامد، فخلاص مهما عملت محدش حيسمعك غير ربنا وبس، رغم كل ده وأكتر إلا أنني مبكتش، كنت عمال أقول لنفسي اجمد يا واد، أوعى حد يحس انك ضعيف، الناس منتظرة تشوفك حتتكسر استرجل".

وأضاف: "الحمد لله ربنا قدرني وصبرني وهونها علي، بكيت فقط في اليوم الذي زارتني ابنتي الوحيدة هند، ولأنه مكنش يوم مخصص للزيارة لذا منعوها من رؤيتي، يومها فقط شعرت بمعنى السجن الحقيقي لأنني لم أستطع رؤيتها".

ولم يفق من هذه الذكريات الكئيبة إلا على صوت المقدمة الغنائية لمسلسل "ليالي الحلمية"، فابتسم "سلطان الضحك" حينما تذكر أنه كان مرشحا لدور سليمان غانم.

ذكر: "كان المفروض ألعب هذا الدور، والراحل أسامة أنور عكاشة والمخرج إسماعيل عبدالحافظ كانا مصرين علي، وحاولا أن يقنعاني أوافق بس في الفترة دي كنت مشغولا بمسرحية كعبلون، وكان عندي كمان ارتباطات سينمائية فاعتذرت، بس صديق عمري صلاح السعدني أدى الدور ببراعة وإتقان وحصد إعجاب الناس كلها".

وواصل: "عمري ما ندمت على أي قرار في حياتي أو دور اعتذرت عنه، خصوصا أنني مؤمن بأن كل شيء نصيب، مؤكدا أنه كان أيضا مرشحا لدور عباس الأبيض في اليوم الأسود، اللي لعبه باقتدار، ومعلمة الفنان يحيى الفخراني"، مؤكدا أن المسرح كان دوما السبب وراء اعتذاره عن هذه الأعمال، فالمسرح وعلى حد توصيفه بالنسبة له أهم وأبقى، ومن أجله يمكن أن يضحي "بأي حاجة"، فهو "الترمومتر اللي بيقيس لياقة وحيوية الفنان، كمان بتاخدي جايزتك مباشرة وفوري من الجمهور، المسرح متعة مفيش حاجة أبدا أكبر منها بالنسبة لي على الأقل".

المؤكد أيضا أن صالح مثلما قدم عروضا مسرحية ناجحة، فإنه لعب بطولة أعمال تلفزيونية متميزة، أهمها مسلسل "السقوط في بئر سبع.

عن هذا العمل يتذكر صالح قائلا: "هذا المسلسل قدمته تخليص حق، إذ سبق ان عرضه علي مخرجه نور الدمرداش أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أرفض رغم حبي للدمرداش واعتزازي به، فالشخصية بالنسبة لي كانت كريهة، فهو جاسوس بيخون بلده، لهذا كنت دائم الرفض، غير أنني كنت مدينا بحق إعلانات عن مسرحياتي للتلفزيون، ما اضطرني للموافقة في النهاية وقدمت الدور بشكل جيد وحقق نجاحا، لأنني أول ما أواجه الكاميرا أو أقف على خشبة المسرح لا أتذكر شيئا إلا الدور الذي أجسده، باختصار معرفش أعمل شغل مش مضبوط".

حكاية حلم بألف جنيه

أثناء فترة دراسته الثانوية كان يراهن والده أنه سيمتلك يوما ما ألف جنيه، وكانت وقتها مبلغا ضخما جدا، بينما كان والده يبتسم، مؤكدا على كلماته، محاولا ألا يحبط أحلامه، ومرت الأيام وعلم سلطان الضحك أن والده كان يرغب في السفر لأداء فريضة الحج، لكنه تراجع لأن تكاليف السفر كانت أكبر من إمكاناته، وكان صالح قد حقق نجاحا مع مدرسة المشاغبين، وبدأت العروض تنهال عليه، وعندما علم بذلك أخذ جواز سفر والده، ونجح عبر معارف مؤسس فرقة المتحدين الكاتب والمنتج سمير خفاجي في أن يحصل له على تأشيرة الحج رغم ضيق الوقت، ومنحه ألف جنيه كان قد حصل عليها كعربون عن فيلم "مراهقة من الأرياف"، وكانت أول "ألف جنيه" يحصل عليها في حياته.

الطريف أن منتج الفيلم عندما علم أن سعيد منحها لوالده كي يحج بها ضاعف له أجره، أما والده فلم يتمالك نفسه وأجهش في البكاء عندما شاهد تأشيرة الحج، وعبثا حاول رفض المبلغ الذي منحه له سعيد، إلا أن الأخير أصر عليه، فما كان من والده إلا أنه أصر على رده لابنه بعد عودته دون أن يصرف منه قرشا واحدا.

البقية الحلقة المقبلة

back to top