الألم... كيف يغيّرنا؟

نشر في 13-02-2016 | 00:01
آخر تحديث 13-02-2016 | 00:01
No Image Caption
الألم تجربة مشتركة بين الناس لكنّه يتخذ طابعاً فردياً في كلّ حالة. تغير مشاعر الخوف والغضب والرفض والألم علاقتنا مع العالم والآخرين. حتى إنها قد تصبح مصدراً لاكتشاف الذات.
يصاب الجميع بألم من وقت لآخر نتيجة صداع نصفي أو وجع في الأسنان أو أي سبب مختلف. لكن كيف يمكن تقييم قوة الألم في هذه الظروف؟

لا يسهل التعامل مع الألم لأنه قد يتخذ منحىً حاداً ويترافق مع نبضات مزعجة ويتوسع كي يشمل أعضاء مختلفة من الجسم. يستعمل الأطباء مصطلحات متنوعة لتحديد طبيعته فيحاولون بذلك تقييم مستوى الألم على مقياس دقيق (من واحد إلى عشرة) يُستعمل في المستشفيات وقد تطلّب ابتكاره سنوات من العمل قبل بلوغ حد أدنى من المعايير المشتركة. حتى المشاعر يمكن أن تختلف بين شخص وآخر وقد تصبح المعاناة ضخمة أو تبقى بسيطة حتى لو كانت تشتق من السبب نفسه. كذلك، تختلف الظروف النفسية وطريقة التعامل مع الحالة بحسب العمر والثقافة. خلال الستينات، أثبتت دراسة أميركية أن الإيرلنديين والإيطاليين لا يعيشون المعاناة بالطريقة نفسها. عبّر الإيطاليون مثلاً عن معاناة تفوق تلك التي يعيشها الإيرلنديون بعد جراحة في العين.

بعيداً عن الاختلافات الثقافية، لا يكون شعور الألم مشابهاً بين شخص وآخر أو بين الرجال والنساء. خلال تجارب كان فيها الألم مفتعلاً، لوحظ أنه يبدأ بوتيرة أسرع لدى المرأة وتعجز هذه الأخيرة عن تحمّله. ولا ننسى تأثير تفاعلنا مع الألم منذ الطفولة وطريقة تعامل الراشدين مع تجاربنا المؤلمة.

الألم سبب للعزلة

في ظل هذه الظروف، لا عجب في أن يعزلنا الألم “المشترك” و”المختلف” عن محيطنا ويحبسنا في عالم داخلي يمنع تواصلنا مع الآخرين. عدا الانغلاق على الذات، قد يؤدي الألم إلى تأجيج مشاعر الغضب والعدائية التي تعزز سوء التفاهم أحياناً وتجعلنا نرفض الأشخاص المقربين منا. ويؤدي غياب التواصل إلى زيادة المعاناة في البيئة المحيطة بنا.

يعترف أهالي الأولاد المرضى بعجزهم عن تخفيف ألم صغارهم أو مشاركتهم المعاناة. قد تشعر الأم مثلاً بانفصالها الفعلي عن طفلها الموجوع إذا عجزت عن مواساته، فيقطع الألم في هذه الحالة الصلة بين البشر. لا يمكن أن تحتمل الأم انقطاع هذه الصلة لأنها تضطر بذلك إلى إنهاء علاقة الانصهار التي تجمعها بطفلها منذ ولادته. يجدد الألم الذي يشعر به الطفل شعور الذنب لدى الأم التي تدرك أنها مضطرة لإطلاقه كي يواجه العالم وحده.

شكل جديد من الوعي

قد تترافق المعاناة مع مشاعر الوحدة لكنها تعكس في الوقت نفسه إدراكاً عميقاً للهوية الذاتية لأن المعاناة تشير إلى حدود كل كائن منا. خلال أقوى نوبات الألم، يُستنزَف الجسم والكيان كله. تروي هدى (60 عاماً) تجربتها مع الألم عند إصابتها بسرطان الثدي قائلة: “تعامل معي جسمي بطريقة وحشية. لم أتمكن من تجاهل “الوحش” الذي كان ينخر جسمي. كنت أشعر بأثر الجراحة التي خضعتُ لها. ورغم اختفاء الألم بعد فترة، لم يختفِ الوعي الذي اكتسبته عن جسمي. لقد تعلمتُ درساً قيّماً وأجيد اليوم الإصغاء إلى نفسي”. يمكن أن يفتح هذا الوعي الذاتي العميق المجال أمام بُعد جديد من وجودنا. من خلال الانفصال عن ذاتنا في مرحلة ما قبل الألم، تضمن لنا المعاناة تحولاً كبيراً أو صغيراً: في أسوأ الأحوال، قد يدمرنا الألم ويدخلنا في دوامة من المعاناة اللامتناهية. وفي أفضل الأحوال، قد يدفعنا لطرح أسئلة مبررة لأنه يعبّر عنا وعن حريتنا: لماذا نشعر بالألم ولماذا لا نتحمله؟ ما الذي يحصل في أعمق كياننا كي نشعر بالشلل أو نتحرر فجأةً ونزداد قوة؟

قد تجعلنا المعاناة الحادة نرغب في الموت، لكنها قد تدفعنا أيضاً إلى تقدير قيمة الحياة والاستمتاع باللحظات التي تخلو من الألم، وتحديداً عند مواجهة الأوجاع المزمنة التي أصبحت أكثر شيوعاً في مجتمعاتنا اليوم. في حالات أقل تطرفاً، قد يصبح الألم تحدياً حقيقياً نظراً إلى ضرورة التعايش معه. صحيح أن الألم يستمر لكن سرعان ما يعتاد المريض عليه ويتكيف مع وضعه ويمتنع عن الخطوات والحركات التي تزيد معاناته وهذا ما يسمح له بتجاوز المرحلة الصعبة مع أن جميع المرضى يفضلون طبعاً استرجاع وضعهم السابق.

اكتشاف معنى الألم لتجاوزه

تعبّر شهادات الأشخاص الذين يواجهون التعذيب أو الترحيل عن حقيقة ما يحصل خلال التجارب المؤلمة: بحسب ميل الضحية إلى إعطاء أهمية للمحنة التي يعيشها، يمكن أن يتجاوزها بدرجة متفاوتة. تنطبق هذه الفكرة أيضاً على الألم الذي يعيشه الرياضيون المحترفون لأنه يُعتبر مقياساً لمستوى التدريب أو على ألم الولادة الذي يكون قوياً لكن تحتمله الأم كي لا تفوّت عليها أي لحظة من هذه التجربة المدهشة. يزداد الموقف سهولة حين نفكر بأن المعاناة ستنتهي في لحظة معينة، وحتى لو كان الألم مزمناً يمكن إعطاؤه معنىً معيناً لتقبله. تتعدد المقاربات التي تساعدنا على إيجاد أفضل طريقة للتعامل مع وضعنا، منها العلاج النفسي واليوغا والسوفرولوجيا. حتى أن بعض المرضى يعترفون بأن المرض والألم يكشفان حقائق كانت خفية بالنسبة لهم. يغير الألم النظرة التي نحملها عن نفسنا ويغير علاقتنا مع العالم، لكنه قد يتحول أيضاً إلى “قوة” بحد ذاتها. لا شك في أن هذه الرحلة المميزة التي تقودنا إلى أعماق الذات وتوصلنا إلى جوانب حميمة من كياننا الداخلي ستغيرنا وتقودنا إلى التعرف على أعمق جزء من هويتنا.

التأمل... مسكّن فاعل؟

يكون ممارسو التأمل أقل حساسية تجاه الألم. قارنت دراسة كندية بين مجموعتين من الناس: مارست المجموعة الأولى التأمل بانتظام على عكس المجموعة الثانية. خضع المشاركون لاختبار مبني على مقاومة الألم. وُضعت ضمادة ساخنة على ربلة ساقهم وزادت الحرارة تدريجاً إلى أن بلغت المستوى الذي يتحمّله كل واحد من المشاركين في الدراسة. لوحظ أن الأشخاص الذين كانوا يمارسون التأمل يستطيعون تحمّل درجة أعلى من الحرارة مقارنةً بالمجموعة الثانية. لقد تمكنوا من تخفيف حدة الألم بنسبة 18% من خلال التحكم بتنفسهم (حوالى 12 حركة تنفسية في الدقيقة). تثبت هذه النتائج أن التأمل يمكن أن ينجح في تسكين الألم.

back to top