فك رموز لغة الدماغ مبادرة جديدة لفهم طريقة تواصل الخلايا الدماغية

نشر في 10-02-2016
آخر تحديث 10-02-2016 | 00:01
No Image Caption
يُعتبر فهم طريقة عمل الدماغ أحد أعظم التحديات العلمية المعاصرة. لكن رغم الانطباع المعاكس الذي تكوّنه الصحافة أحياناً، لا يزال الطريق طويلاً أمام الباحثين قبل أن يرفعوا مستوى فهمهم للدماغ. يعكس مشروع موّلته حديثاً مبادرة «الدماغ» (BRAIN) التي أطلقتها إدارة أوباما إحدى المقاربات التي تنذر بطرح أفكار جديدة عبر تطوير أدوات مستحدثة تشمل المزج بين تكنولوجيا النانو وعلم البصريات.
يحتوي الدماغ البشري على مئة مليار خلية عصبية تقريباً. يعرف الباحثون معلومات كثيرة عن سلوك تلك الخلايا الفردية بفضل {الفيزيولوجيا الكهربية} التي تقضي بدسّ خمسة أقطاب كهربائية داخل الخلايا لتسجيل نشاطها الكهربائي. نعرف أيضاً معلومات مقبولة عن طريقة تنظيم الدماغ عموماً داخل مناطق تشريحية متخصصة جزئياً بفضل التقنيات التي تسمح بتصوير الدماغ كله مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي الذي يقيس مدى تغيّر مستويات الأكسجين في الدم حين تطلب المناطق التي تبذل جهوداً إضافية المزيد من الأكسجين لتنشيط عملية الأيض. لكننا لا نعلم الكثير في المقابل عن طريقة تجزئة الدماغ في {الدوائر} المسؤولة عن قدرات مثل التذكّر والإدراك. وتتراجع المعلومات المتاحة، إذا وُجدت أصلاً، عن طريقة توزيع الخلايا داخل {معالِجات موضعية} قد تكون بمثابة مكوّنات لتلك الشبكات.

تفاعل ورموز

نفتقر أيضاً إلى المعلومات حول «الرمز» الذي تستعمله أعداد كبيرة من الخلايا للتواصل والتفاعل. يُعتبر هذا العامل أساسياً لأن الظاهرة العقلية تشتق على الأرجح من نشاط متزامن بين آلاف أو حتى ملايين الخلايا العصبية التي تتفاعل في ما بينها. بعبارة أخرى، يجب أن يفك علماء الأعصاب رموز «لغة» الدماغ. يقول عالِم الفيزياء مايكل روكيس من «معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا»، وهو أحد المشرفين على بحثٍ بعنوان «خارطة نشاط الدماغ» نُشر في مجلة «Neuron} في عام 2012 واستوحت منه مبادرة {الدماغ} مشروعها: {تقضي الخطوة الأولى بمعرفة لغة الدماغ الطبيعية. إذا كان مستوى الدقة [وفق كاشف اللغة الافتراضي] ضعيفاً جداً، يعني ذلك أن أداءك متوسط في التعامل مع المقاطع أو الفصول ولا تستطيع سماع الكلمات الفردية أو التمييز بين الأحرف. بعد هذه الخطوة، يمكن التواصل مع الدماغ بعبارات كاملة}.

تحاول مبادرة {الدماغ} سدّ هذه الثغرة. انطلقت المبادرة في عام 2014 بتمويلٍ أولي فاق المئة مليون دولار للتشجيع على تطوير تقنيات جديدة للتفاعل مع أعداد متزايدة من الخلايا العصبية بما يفوق ما كان ممكناً في السابق. يأمل الباحثون أن يفهموا طريقة عمل الدماغ (عبر تفاصيل مرتبطة بالخلايا شرط أن تشمل الدماغ كله) كي يكوّنوا فكرة وافية عن الأمراض العصبية التنكسية مثل الزهايمر والاضطرابات النفسية مثل انفصام الشخصية أو الاكتئاب.

تتعلق أبرز تقنية متطورة اليوم بالتصوير البصري الذي يستعمل بشكل أساسي مؤشرات الكالسيوم، أي البروتينات الفلورية المدسوسة داخل الخلايا عبر تعديلات وراثية تبث الضوء رداً على التغيرات في مستوى الكالسيوم بعد تنشيط الخلايا العصبية. تُسجَّل هذه الإشارات عبر استعمال مجاهر خاصة لإنتاج الضوء لأن المؤشرات يجب أن تمتص الفوتونات كي تبث لاحقاً هذه الجزيئات الضوئية. يمكن تطبيق هذه العملية تزامناً مع استعمال علم البصريات الوراثي، أي التقنية التي تغير الخلايا وراثياً كي تنشط عبر استعمال الضوء، ما يسمح للباحثين بمراقبة النشاط العصبي والتحكم به.

تتخذ مجموعات بحثية متعددة الاختصاصات، بقيادة روكيس، مقاربة بديلة. بتمويلٍ من هبة حديثة قدمتها مبادرة {الدماغ}، يخطط فريقه للجمع بين الوسائل البصرية وتكنولوجيا النانو بهدف إنتاج مواد نانوية مزروعة يتم دسّها في الدماغ لكنها تتفاعل مع الخلايا بصرياً على عمقٍ لا يستطيع الضوء بلوغه بطريقة أخرى. يقول روكيس: {من خلال استعمال التقنيات البصرية في المناطق التي يستهدفها الاستشعار، يتراجع مستوى الدقة عند الغوص على مستويات أعمق. يتعلق معيار آخر بزرع المواد في الدماغ. يمكن زرع أسلاك رفيعة جداً ببطء طالما لا تتحرك أنسجة كثيرة من مكانها}.

تُسمى هذه التقنية {الفوتونات العصبية المتكاملة}. تكون الإبر مزودة بباعث للضوء أو بكسلات {كاشفة}، وتضيء الموجّهات الموجية البصرية (ألياف بصرية ضئيلة) الضوء أمام الأجهزة الباعثة التي تستعمل انحراف الضوء لإرسال نور بحجم الخلية إلى الدماغ. يوضع جهاز التصوير البصري داخل الدماغ. يقول روكيس: {يسمح دمج وسائل مختلفة بتطبيق تقنية الرقاقة الفوتونية على التصوير الوظيفي للدماغ. من الممتع أن نفكر بطريقة استعمال هذه الوسائل كلها لابتكار بنية كاملة وغير مسبوقة}.

يهدف جزء من المشروع إلى تسجيل نشاط كل خلية عصبية في نسيجٍ بحجم ميليمتر مكعب واحد. يوضح روكيس: {لا يمكن أن نفهم الدماغ كله دفعةً واحدة، بل يجب أن نتجاوز بعض المشاكل العالقة أولاً: هل يمكن أن نحدد شكلاً من المعالِجات الموضعية في الدماغ ونتوصل إلى فهمه بعمق خلال السنوات العشر المقبلة؟}. تشمل القشرة الدماغية هياكل صغيرة اسمها {أعمدة قشرية} وتكون روابطها الداخلية كثيفة وروابطها الخارجية متناثرة، ما يجعلها مرشّحة محتملة لتكون معالِجات موضعية. لدى الفئران، يبلغ عرض تلك الروابط ميليمتراً واحداً، ويحتوي كل ميليمتر مكعب منها على مئة ألف خلية تقريباً. بعبارة أخرى، تُعتبر هذه المنطقة هدفاً مثالياً في أولى مراحل الدراسة.

طاقات وتجارب

يسعى فريق روكيس أيضاً إلى استعمال مسابر كهربائية تقليدية واستنزاف أقصى طاقتها، ويعمل على بناء مسابر نانوية مزودة بإبر بعرض الخلايا (حوالى 20 ميكرومتر) وبأقطاب نانوية تخترق المساحة بين الخلايا. لكن بما أن المسافة التي تستطيع فيها الأقطاب الكهربائية رصد الإشارات من الخلايا الفردية وسط النشاط العشوائي تكون محدودة، يسمح كل قطب كهربائي للباحثين بتسجيل النشاط من خلية أو خليتين.

يمكن أن تسجل تلك المسابر راهناً نشاط ألف خلية عصبية تقريباً. يقول روكيس إن رفع ذلك العدد إلى مئة ألف يطرح مشكلة هندسية ومالية، لكن يجب أن تتوزع العملية على جميع مناطق الدماغ لأن تسجيل نشاط كل خلية في ميليمتر مكعب واحد من النسيج سيتطلب حوالى 70 ألف قطب كهربائي، ومن المتوقع أن يزعج هذا المستوى من التشويش وظيفة الخلايا ويضرّ الأنسجة. لكن يمكن أن تحلّ المسابر الفوتونية هذه المشكلة. يوضح روكيس: {تكون المسافة التي تسمح باستهداف الخلايا العصبية الفردية طويلة في التقنية البصرية أكثر مما عليه في التقنية الكهربائية. يمكن أن نرصد بين 20 و50 خلية عصبية، لذا نحتاج إلى تخفيض عدد المواقع التي يُسجَّل فيها النشاط، ما يعني أننا نستطيع فصل العمليات وتقليص الاضطراب. لذا تبدو هذه المقاربة واعدة جداً}. قد تسمح هذه المقاربة بتسجيل نشاط كل خلية ضمن مساحة ميليمتر مكعب خلال سنتين. وإذا تمكن مسبار واحد من التفاعل مع مئة ألف خلية، قد تتفاعل عشرة مسابر مع مليون خلية: إنه الهدف النهائي للمشروع. يمكن تنفيذ هذه العملية كلها في منطقة أعمق من الدماغ عبر استخدام التقنيات البصرية في المساحات الفارغة (وتسجيل النتائج من خلايا عصبية إضافية) بدل المنظار الذي يُستعمل كأداة نموذجية لدس المجاهر في عمق الأدمغة.

يتطور هذا المشروع كله بالشراكة مع شركة تصنيع لتسهيل إنتاج التقنية على نطاق أوسع وجعلها بمتناول الباحثين. سيحصل الاختبار الأولي على الفئران لكن يقوم أحد علماء الأعصاب المشاركين في المشروع، واسمه أندرياس تولياس من كلية بايلور للطب في هيوستن، باختبارات على رئيسيات غير بشرية ويخطط لإجراء تجارب على القرود في نهاية المطاف.

تعديل وراثي

لكن لن يكون توسيع التجارب كي تشمل البشر أمراً بسيطاً. يقول روكيس: {تتنوع المشاكل التي يمكن مواجهتها عند نقل هذه التجربة إلى البشر. لن يصبح هذا المشروع ممكناً في أي وقت قريب}. أولاً، يتطلب علم البصريات الوراثي إجراء تعديل وراثي ومن الطبيعي أن يتردد الناس في تغيير جيناتهم. ثانياً، يبقى التطابق البيولوجي للمواد المزروعة لدى الثدييات العليا غير مؤكد على المدى الطويل لأن الدماغ يشهد تقلبات مستمرة حين نتحرك ونتنفس. يقول عالِم الفيزياء الحيوية آدم كوهين من جامعة هارفارد: {تتعلق معظم التحديات على الأرجح بإدخال تلك الإبر من دون حصول ردة فعل مناعية حادة أو مزمنة ومن دون التأثير على الدورة الدموية، فقد تمزقت الأوعية الدموية أو ظهرت مشاكل متنوعة لدى الحيوانات حين تحركت}. ثم تبرز مشكلة مسار الجراحة التي تتطلب فتح الجمجمة.

لكن يمكن اللجوء في النهاية إلى خطة بديلة تناسب البشر: {الغبار العصبي}. يفكر المهندس وعالم الأعصاب خوسيه كارمينا وزملاؤه من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، باستعمال أجهزة استشعار نانوية تكون مزودة بتكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية. يقول يوستي: {تقضي هذه الفكرة بصنع أجهزة استشعار صغيرة لتسجيل النشاط في مناطق مجاورة ونقل المعلومات لاسلكياً من عمق الدماغ. لكن لن تُطبَّق هذه الخطة قبل فترة طويلة مستقبلاً}.

تقدّم وإشارات

في غضون ذلك، سيستفيد مجال الفوتونات النانوية من التقدم الحاصل في قطاعات ذات صلة مثل تحسين المؤشرات. يوضح روكيس: {يمكن أن نعرف ما يفعله الدماغ استناداً إلى التفاصيل المرتبطة بتوقيت ذروة النشاط الدماغي الفردي. تكون ناقلات الكالسيوم بطيئة لذا تؤثر على النشاط وتخسر المعلومات}. في المقابل، تبدو مؤشرات الجهد الكهربائي أسرع منها وتسجل الإشارات العصبية التي يهتم بها الباحثون، لكنها تنتج إشارات أضعف وأكثر صخباً. تثبت بعض المؤشرات أيضاً وجود أنواع مختلفة من النشاط (مواد كيماوية أخرى، ناقلات عصبية، وحتى القوة الفيزيائية للأجزاء المتحركة في الخلايا). يقول كوهين الذي يركز في عمله على تطوير تلك الأدوات: {يُعتبر الدماغ نظاماً كيماوياً معقداً ويمكن تطبيق التقنيات الخاصة بالتفاعلات البصرية ضمن مساحات كبيرة على عدد من المؤشرات المختلفة}.

تبدو التطبيقات المحتملة متعددة وعميقة. يوضح كوهين: {بفضل هذه الأدوات، سنبدأ بفهم طريقة نشوء السلوكيات المعقدة انطلاقاً من أنماط نشاط الخلية الفردية. يمكن استعمالها أيضاً لاستكشاف المناطق المضطربة بسبب الأمراض ورصد تأثير تلك الأنماط على أعراض المرض}. ستستفيد مجالات أخرى أيضاً مثل واجهات آليات الدماغ والأطراف الاصطناعية العصبية. يضيف روكيس: {قد يناسب هذا الخيار الأطراف الاصطناعية البصرية لدى الأشخاص الذين يعجزون عن إجراء عملية زرع في الشبكية بسبب تضرر عصبهم البصري. يمكننا تطبيق مبدأ الاستهداف المباشر والتحفيز النمطي للقشرة البصرية}.

لا أهمية للمقاربة التي ستتفوق على غيرها. من المتوقع أن يرتكز الحل المثالي على دمج مجموعة من تلك المقاربات. يقول يوستي: {ثمة مجموعة واسعة من التقنيات المتاحة وهي ليست متناقضة. لن تفوز مقاربة واحدة على جميع الخيارات الأخرى}.

تحسين المجهر الضوئي

سبق أن أحرز الباحثون تقدماً مدهشاً عبر استعمال هذه الأدوات. في عام 2013، نشر باحثون من {معهد هاورد هيوز الطبي}، بقيادة ميشا أهرينز، دراسة في مجلة {Nature Methods} حيث سجلوا نشاط معظم الخلايا العصبية في أدمغة يرقات أسماك الزرد. تُستعمل يرقات الزرد نظراً إلى سهولة التلاعب بها وراثياً كونها صغيرة وشفافة. حسّن الباحثون تقنية المجهر الضوئي التي تستعمل الليزر لإنتاج مساحات ضوئية كي تضيء مقطعاً عرضياً واحداً من الدماغ في كل مرة. خضعت الأسماك لهندسة وراثية عبر مؤشرات الكالسيوم كي يتمكن الباحثون من إنتاج صور ثنائية الأبعاد للنشاط العصبي قبل أن يحولوها لاحقاً إلى صور ثلاثية الأبعاد، فصوروا بذلك 90% من النشاط الحاصل في مئة ألف خلية دماغية لدى يرقات الزرد.

كان هذا الإنجاز لافتاً لكنه يبقى محدوداً بسبب {المساحات الفارغة} في التقنيات البصرية التي توجّه الضوء الخارجي نحو الدماغ: يكتفي الضوء ببلوغ النسيج غير الشفاف. من خلال استخدام مجهر ثنائي الفوتون يستعمل ضوءاً بطول موجي مرتفع، يقع أعمق نسيج يمكن تصويره على عمق ميليمترين. تكون هذه المناطق الحدودية التي يمكن دراستها لدى الحيوانات حيث تقع البنية الخارجية، أي القشرة الدماغية، أكثر سماكة من العادة. تقضي إحدى الجهود الأساسية في مبادرة {الدماغ} بتجاوز تلك الحدود. يقول عالم الأعصاب رافاييل يوست الذي يعمل في جامعة كولومبيا وكان رائداً في مجال تصوير الكالسيوم وشارك في إعداد {خارطة نشاط الدماغ}: {يمكن أن يستعمل الناس التصوير ثلاثي الفوتون لبلوغ مستويات أعمق}. تستطيع هذه التقنية الآن اختراق النسيج على عمق ثلاثة ميليمترات. (يخترق ضوء الطول الموجي الأعلى مستوى مساحات أعمق، لكن تتراجع طاقته لذا تبرز الحاجة إلى فوتونات إضافية لإضاءة المؤشرات).

* سيمون ماكين

back to top