زيارة إلى إسطنبول مع أورهان باموق

نشر في 07-02-2016
آخر تحديث 07-02-2016 | 00:01
يتحدّث الكاتب أورهان باموق الفائز بجائزة نوبل عن نجاح أحدث كتاب له،A Strangeness in My Mind {غرابة في عقلي}، حيث يناقش وضع السياسة التركية {المشلولة} والاعتداء الإرهابي الذي هزّ اسطنبول في يناير الماضي وسمع صوته من شقته. يقول أورهان باموق وهو يضع يديه على طاولة خشبية صغيرة ومستديرة أمام النافذة: {كنت أجلس هنا. كان ذلك اليوم هادئاً وقد أنهيتُ للتو روايتي الجديدة وبدأتُ أكتب مقالة... وفجأةً سمعتُ دويّ الانفجار! عرفتُ فوراً أنّ قنبلة انفجرت! كانت هذه الحوادث تقع يومياً خلال سبعينيات القرن الماضي، لذا أستطيع التعرف إلى صوت القنابل حين تنفجر}.

حدث ذلك يوم الخميس 14 يناير. قبل يومين، مات 11 شخصاً في اعتداء بالقرب من المسجد الأزرق. تقع شقة الكاتب التركي أورهان باموق الفائز بجائزة نوبل في الأدب في منطقة جيهانغير، على بُعد بضعة كيلومترات من موقع الاعتداء.

يُعتبر المنظر الذي تطلّ عليه النافذة في شقة باموق شهيراً بقدر الكاتب نفسه. يحمل أحد كتبه عنوان The View From My Window ({المنظر من نافذتي}).

يطلّ المكان على البوسفور، وتقع آسيا على يساره وأوروبا على يمينه، وتتوزع السفن في وسطه، ويظهر المسجد أمام الشرفة مباشرةً، ويُسمَع هناك مواء القطط وصياح النوارس ويمكن الشعور بالهواء الشتوي البارد. يبدو المنظر مناسباً لرجلٍ يصفه الناس دوماً بباني الجسور بين الشرق والغرب وبين آسيا وأوروبا. يكره باموق صفة {باني الجسور} لأنه يحاول بكل بساطة كتابة روايات جيدة: تكون رواياته مترسخة في الثقافة التركية والعثمانية، لكنها تعكس أيضاً حب باموق للحياة الغربية والأدب الغربي.

قبل بدء محادثتنا، اقترح باموق مجموعة من المواضيع فقال: {ابدأ بالشأن السياسي رجاءً كي يتسنى لنا بعدها أن نناقش شؤون الأدب}. ثم أخرج مذكرة وقرأ منها لاحقاً بعض السطور وكأنه يتلو بياناً.

في بداية الحديث، تكلم عن الاعتداء وكيف جلس أمام حاسوبه للتأكد من مخاوفه بعد عشر دقائق على سماع الانفجار وإدراك ما حصل. بعد عشرين دقيقة، بدأ يتلقى رسائل إلكترونية من صحف عالمية في بلدان مثل إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة وطُلِب منه إصدار بيان. لكن لم تصل إليه أي رسائل إلكترونية من تركيا.

يقول باموق: {القنابل عادية بالنسبة إلينا}. لكن حتى لو كان هذا الحدث عادياً بالنسبة إليه، ما الذي يُفترض أن يكتبه من مكتبه في اسطنبول؟ أنه يرفض الإرهاب؟ أنّ التنظيم الذي يسمي نفسه {الدولة الإسلامية} مشين؟ سأل باموق: {هل تريدونني أن أصف {الدولة الإسلامية}؟ إنه تنظيم مشين وهمجي وغير إنساني. لكن هل تعلمون السبب؟ تبالغ التقارير الإعلامية في الترويج له، ما يؤدي إلى تأجيج مشاعر الهستيريا والهلع التي تُعتبر جزءاً من المشكلة. يُسَرّ عناصر التنظيم بالهلع الذي ينشرونه. بحسب رأيي، تفتقر تلك التقارير إلى التحليل والأفكار الذكية. تخدم هذه المعطيات كلها {الدولة الإسلامية}. إنها الرسالة الأساسية التي أريد توجيهها}.

يتحدث باموق عن {الديمقراطية التركية المشلولة} وعن غياب حرية التعبير في تركيا ويذكر صديقه الصحافي المسجون وكيف فرضت الحكومة الضغوط على رؤساء تحرير الصحف والصحافيين الناقدين. يتذمر أيضاً من غياب مبدأ الفصل بين السلطات في تركيا اليوم فيقول ضاحكاً: {عقائد مونتسكيو ليست شائعة هنا!}. لكنه يضيف بنبرة جدية: {فزتُ بجائزة نوبل كي أتمكن من قول ما أريده}. لكنّ بلده يمر بوضع سيئ جداً لذا يفضل عدم التعليق على جميع الحوادث يومياً.

أنجح كتب باموق

باموق رجل شجاع وكاتب بارع. منذ عشر سنوات تقريباً، اتُّهم بـ}إهانة القومية التركية} بعد التحدث عن الإبادة الأرمنية في إحدى المقابلات. وقد ورد اسمه على لائحة المحكومين بالموت بالنسبة إلى القوميين المتطرفين، وحصل الأمر نفسه مع صديقه الأرمني التركي هرانت دينك الذي قُتل بعد إطلاق النار عليه في اسطنبول في عام 2007. خلال فترة معينة، كلّفت الحكومة التركية ثلاثة حراس شخصيين بحماية باموق. لكنه يكتفي اليوم بحارس يتصل به حين يريد الخروج: {لا تكثر مشاعر الكره تجاهي اليوم، بل كانت الضغوط السياسية أقوى بكثير منذ 10 سنوات}. كان كتابه الأخير A Strangeness in my Mind أنجح عمل له في تركيا.

يروي الكتاب قصة الشاب {ميفلوت} الذي يأتي إلى اسطنبول من قريته في الأناضول في أواخر الستينات ويبدأ العمل كبائع متجول ويبقى كذلك طوال حياته. يبيع مشروب البوزا الذي يحتوي على الدخن ونسبة صغيرة من الكحول (كان يُسمَح به رغم حظر الكحول في تلك الفترة). يتحايل هذا المشروب على القواعد الدينية الصارمة ويستهدف الأشخاص الذين لا يشربون الكحول.

قصة ميفلوت

كان {ميفلوت} شاباً فقيراً حين وصل إلى اسطنبول. لكنه سيبقى فقيراً على عكس معظم الأشخاص الذين جاؤوا معه. يبدو بطل القصة ساذجاً ومتفائلاً ويستطيع التعرف إلى السعادة والتمسك بها حين يجدها. في عرس نسيبه، يقع في حب شابة ويكتب لها الرسائل طوال سنوات ثم يخطفها أخيراً كي يمضي بقية حياته معها. لكنه يتعرض للخداع ويخطف شقيقة حبيبته الكبرى. أعطاه نسيبه المخادع اسماً خاطئاً منذ البداية وأوصل رسائله إلى امرأة مختلفة. لكنه لم يعد يستطيع التراجع بعد خطف شقيقتها.

يكون {ميفلوت} براغماتياً في ما يخص السعادة، فيصطحبها كي تشاهد منزله المتواضع ولكنها تنام فوراً: {صعد {ميفلوت} ليقابل {رايها} بهدوء وراح يتأملها لفترة طويلة وهي ممددة على السرير وكان يعلم أنه لن ينسى هذه اللحظة مطلقاً. تقبّل الوضع لأنه لم يعد وحيداً في العالم. حتى أنها كانت معجبة برسائله}.

يتحدّث باموق عن قصة الحب أثناء وقوفه أمام نافذة كبيرة في شقته. يبدو لي سبب سعادة الثنائي واضحاً جداً: يكون بطل قصة الحب شاعراً. فقد اخترع {ميفلوت} هذه المرأة وهذا الحب عبر رسائله وكلماته. سرعان ما تصبح المرأة الخاطئة مناسبة بفضل قوة كلماته. لكن يقول باموق ضاحكاً: {لا أعلم. أظن أن هذه العلاقة ترتبط بشكل أساسي بالجنس الذي يجمعهما للمرة الأولى، فيشعران بالسعادة. هو شخص ممتنّ ومتواضع. الوضع بهذه البساطة}.

طوال 44 سنة وعلى مدى 575 صفحة، نرافق {ميفلوت} في يومياته كبائع متجول. خلال هذه الفترة، يزيد سكان اسطنبول بعشرة ملايين نسمة. تهلك المدينة القديمة وتنشأ مدينة جديدة فتُبنى أحياء حديثة ويصنع البشر فرصاً وافرة. تكون الفرص متاحة بالنسبة إلى «ميفلوت» أيضاً لكنه لا يقتنصها.

إنها المرة الأولى التي يكتب فيها باموق المنتمي إلى عائلة ثرية عن رجل من الطبقة الدنيا. لهذا السبب على الأرجح جذب الكتاب هذا الكم من القراء الأتراك: «ميفلوت» واحد منهم. لا يتعامل معه باموق بفوقية بل يصفه بكل حب وإنسانية. لا يكون بطل القصة شخصية سياسية لكنه يضطر دوماً إلى خوض نقاشات سياسية أثناء بيع المشروبات من دون أن يسمح لنفسه بالانحياز لأي طرف. يبدو أشبه بالنسخة التركية من هانز كاستورب، بطل Magic Mountain ({الجبل السحري}) للروائي توماس مان، بمعنى أنه يؤمن بضرورة الإصغاء إلى جميع الآراء. يقول باموق إن بائع مشروب البوزا لا يستطيع أن يحمل أي آراء سياسية لأنها ستبعد العملاء المحتملين.

مع ذلك، تُعتبر رواية A Strangeness in My Mind سياسية أيضاً كونها تصف الفساد والمعارك السياسية والحرب ضد الأكراد وتجديد الأحياء الشعبية وضحايا الدمار وإعادة الإعمار.

رواية قصيرة في الأساس

عمل باموق على A Strangeness in My Mind طوال ست سنوات، وتُعتبر هذه المدة أطول من الوقت الذي احتاج إليه لكتابة أي عمل سابق. لقد قام بأبحاث كثيرة وطلب من أشخاص آخرين القيام بأبحاث له. عاونه عدد من المساعدين والأصدقاء والطلاب الذين يعرفهم فأجروا محادثات ومقابلات بطلبٍ منه. كانت مجموعة صغيرة من ستة طلاب تجتمع في شقته مرة في الشهر، فيأكلون ويناقشون مسائل متنوعة مثل التنمية الحضرية والتخطيط المدني وتجديد الأحياء الشعبية.

يوضح باموق: {قابلتُ شباناً فتحوا لي آفاقاً جديدة واستكشفوا مواضيع مختلفة. لكني قمتُ بمعظم المقابلات بنفسي مع جميع أنواع الأشخاص. كان عدد كبير منهم متحفظاً ومتردداً بينما شعر آخرون بالحماسة لأنهم سيتمكنون من سرد قصصهم أمامي. كانوا يتصلون بي ويقولون: {لدي نسيب أيضاً ويجب أن تقابله! لن تصدق الكلام الذي سيقوله}. أملك الآن ما يكفي من المواد لإصدار بعض الكتب الإضافية. كان يفترض أن تكون هذه الرواية قصيرة، لكن بدت التفاصيل التي يجب سردها كثيرة. هذا ما حصل مع جيمس جويس حين كتب رواية Ulysses ({يوليسيس})، فقد أراد في البداية أن تكون القصة قصيرة أيضاً}.

من الممتع أن نشاهد باموق وهو يزداد حماسة حين يتكلم عن الكتابة وعن عنوان الكتاب بالنسخة الإنكليزية ويعترف بأن زملاءه في المدرسة كانوا يتحدثون عن طريقته الغريبة في الكلام والتفكير. خلال محادثتنا، كرر باموق باللغة الإنكليزية ما كان زملاء المدرسة يقولونه: {لديك عقل غريب يا أورهان}! وحين اكتشف عبارة {غرابة في العقل} في كتاب The Prelude ({المقدمة}) للشاعر ويليام وردزورث منذ بضع سنوات، عرف فوراً أنه سيستعملها يوماً كعنوان لأحد كتبه.

يتمحور الكتاب حول رأي شخص غريب بالعالم المألوف. يصل {ميفلوت} إلى اسطنبول، تلك المدينة التي تتغير بوتيرة دائمة ومتسارعة. لكنه لا يدخل المدينة يوماً وكأنه الشخص نفسه. في نهاية الرواية، كتب باموق: {لقد فهم حقيقةً كان جزءٌ منه يعرفها منذ البداية: أثناء التجول ليلاً في المدينة، يشعر وكأنه يتجول في عقله الخاص. وكلما تحدث مع الجدران والملصقات الإعلانية والظلال والأشكال الغريبة والغامضة التي لا يستطيع رؤيتها ليلاً، كان يشعر دوماً بأنه يتحدث مع نفسه}.

في مرحلة لاحقة من محادثتنا، خرجنا إلى الشرفة. كان غروب الشمس يعكس لوناً أحمر على المباني الشاهقة في الجهة الآسيوية. قال باموق: {لن تصدق عدد القصائد الموجودة عن ذلك الضوء وهذا المنظر. عددها كبير جداً}. لكن يجب أن نحاول رؤية المشهد بطرق جديدة وغريبة ومختلفة. ينطبق المبدأ نفسه على مدينته التي كتب عنها كثيراً وكانت جزءاً من معظم كتبه، فوصف مبانيها الجديدة ومراحل نموها ودمارها. درس باموق الهندسة المعمارية التي ساعدته كثيراً في مجاله. في بداية كل كتاب، يضع الكاتب خطة معينة. لكنه يضيف وهو يصدر صوتاً ويلوح ذراعه في الهواء: {وحده الفصل الأخير يكون وليدة لحظة إبداعية جارفة، فتسقط حينها جميع الخطط المسبقة}.

عدنا إلى الداخل، فأخرج باموق جرساً قديماً كان يستعمله بائع متجول لجذب العملاء. في الرواية، يعبّر صوت الجرس عن الحزن. في النهاية، لا يبق لميفلوت إلا العملاء الذين يتذكرون اسطنبول القديمة عند سماع جرسه.

جعلني باموق أشاهد مكتبه وسألتُه إذا استعمل الهاتف الموجود على مكتبه لتلقي الاتصال المهم من {لجنة جوائز نوبل} في عام 2006. فأجاب: {لا، حصل ذلك في الولايات المتحدة}. ثم دخلنا في مصعد ضيق وصعدنا طابقين ووصلنا إلى شقة أخرى يملكها هناك وتطل على مناظر تخطف الأنفاس أيضاً. في هذه الفترة، لا تشمل الشقة إلا الكتب الموضّبة في صناديق لا تُعَدّ ولا تُحصى فيما تنتظر الرفوف الفارغة أن تمتلئ مستقبلاً. بحث باموق عن القسم المخصص للمؤلفات الألمانية ووجد صندوقاً كبيراً فيه كتب لتوماس مان: كتاب Royal Highness ({السمو الملكي})، ونسخة عمرها 40 سنة من كتاب Buddenbrooks ({عائلة بودنبروك}). غالباً ما كان يقول إنه يتحدر من عائلة بودنبروك.

كان جده صاحب مصنع يتسم بالحيوية وكان والده شاعراً حساساً لكن غير ناجح، ثم وُلد هو باسم هانو أورهان قبل أن يطلق على نفسه اسم توماس مان ويفوز بجائزة نوبل. كان باموق يسحب مجلداً لماكس فريش من أول صندوق ثم كتاباً لهانس ماغنوس إنتزنسبيرغر حين اعترف بأنه قارن ما قرأه في مؤلفات مان للمرة الأولى بحياته الخاصة.

من الصفحة الثانية حتى الصفحة الأخيرة، كتب باموق ما يلي عن بطله الساذج: {كانت سعادة هؤلاء الناس كافية لإسعاد {ميفلوت}. يولد البشر كي يكونوا سعداء وصادقين ومنفتحين}. قال باموق وهو محاط بصناديق الكتب: {لست شخصاً سعيداً بطبيعتي. لكني لا أظن أننا جئنا إلى هذا العالم كي نكون سعداء. أنا كاتب سعيد لكني متأكد من أنني لن أكون يوماً إنساناً سعيداً}.

* فولكر وايدرمان

back to top