زرّاع نبوءة

نشر في 25-11-2015
آخر تحديث 25-11-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي يتمثل مأزق الحياة الأكبر في أن الإنسان يولد بعمر مكتمل، ومع لحظة استنشاقه نَفَسه الأول تبدأ رحلة نقصان عمره. يبدأ خطواته على طريق يختفي خلف اللحظة القادمة. كل لحظة تحترق وتصير رماداً لحظة يمشي فوق ثوانيها. الاحتراق المر ثمن لعيش اللحظة. لا مجال لأن يكون اليوم أكثر من يوم، ولا الساعة أكثر من ساعة، ولا الدقيقة أكثر من ستين ثانية. هو المأزق متى ما عبرت بلحظة لا يمكنك بأي شكل من الأشكال الرجوع إليها. اللحظة تنفجر متبخرة بمجرد مرورك بها. تبخر لحظات عمرك، قد يكون مصبوغاً بشيء من البهجة أو القتامة، وقد يكون بلا لون، حين تتبخر لحظات عمرك بلا طعم ومن دون ثمن، سوى أنها تأكل من رصيد عمرك الفقير.

كلنا يسير لحتفه، كلنا يأكل من لحم عمره الحي، ويلفظ كل قطعة بمجرد أن يلوكها. كلنا نسير دروب أعمارنا بلهفة مجنونة ناسين أو متناسين أننا نسعى إلى بلوغ حفرة الموت. ونسعى بجنون إلى أن تنتهي اللحظة التي نعيش، وتأتي لحظة أخرى ننتظر وصولها. أبداً نحن لا ننتبه إلى أن انتظار لحظة قادمة يأتي على حساب قتل اللحظة الماثلة. وأن الرخص باللحظة الراهنة بانتظار الأجمل المؤمل هو سحق للحظات حياتنا القليلة. كلنا ينتظر الخلاص دون أن يدرك أن الخلاص يعني الموت. فكل الأمور تموت لحظة اكتمالها.

كيف للإنسان أن يوقف تقدم عمره؟ كيف له أن يتمسك باللحظة كي تكون أطول زمناً مما هي عليه؟ كيف لضعيف هزيل أن يقف بوجه عجلة عملاقة مخيفة تدوس وتسحق كل من يحاول الوقوف بوجهها؟

إن حسبت لحظات عمرك أكلك حسابك، وأن تركتها تمر من دون مبالاة أكلك سهو مرورها. عمرك مأكول رضيت أو أبيت! عمرك إلى زوال حضرت أو غبت! عمرك يسير بك دون أن يلتفت إليك، ودون أن يعمل حساباً لصحتك أو مرضك، أو سرورك أو حزنك. كائن خرافي أعمى وأصم وأبكم، يسير بخطو ثابت وهو يسحبك بحبل الزمن خلفه. لا يوقفه ليل ولا نهار، ولا يصده برد أو حر، وليس يوقفه إلا السقوط بك في حفرة الموت.

الآن وبعد ما يزيد على الثلاثة عقود من الكتابة بقيت أسير خلالها على نصل سكين اللحظة، أشعر أن الكاتب وحده يحتاج إلى عمر أطول من عمره. الكاتب وحده يصد عن متع الحياة الصاخبة ليكتب حياة فنية مخايلة، يبادل حياته الغالية بحياةٍ يمنحها لآخر لا يعرفه ولزمن آت قد لا يدركه. الكاتب يبتدع حياة لا يكتب لها أن ترى الوجود إلا عبوراً على نبض لحظات عمره. حياة لا يمكن للآخر/القارئ أن يمسك بها إلا بعد أن تحرق لحظات خالقها. حياة لن ترى النور إلا حين تحول لحظات كاتبها إلى ظلام.

كلٌّ يعمل بدرجة أو بأخرى لنفسه، لكن عمل الكاتب وبالرغم من أنه اختيار شخصي فهو يحمل شيئاً من القدرية. تجعله يترك مباهج الحياة لمباهج عطاء لا يعرف إلى أين سينتهي. فحصيلته أياً كانت ستذهب إلى الآخر المتلقي. هناك أعمال تخلّد أصحابها وتبقي على ذكرهم حتى بعد رحيلهم، وهناك أعمال تذهب إلى سلة القمامة، بعد أن تكون قد أكلت عمر الكاتب.

هي الرحلة القاتلة، رحلة لا مجال لرجوع مركبها إلى ميناء انطلاقه، وإذا كانت أيام البشر، معظم البشر، تخصهم في حزنها وسرورها. ويبقى ثمرها في أحضانهم. فأيام الكاتب تأتي بثمر للبشر الذين يحيطون به. وحدهم يقيّمون طيبة هذا الثمر ويقبلون عليه أو يرفضونه. قد تتأخر أحكامهم وقد تكون قاسية وجاحدة بحقه.

الكاتب ارتضى لنفسه أن يكون زرّاع ورد وشجر ونبوءة على جانبي طريق الحياة، تاركاً للزمن وحده أن يسقيها ويعتني باخضرارها. وقد يكتب له العيش في ظلها وقد تزهر قرب قبره.

back to top