أصفر بلون الزعفران

نشر في 10-10-2015
آخر تحديث 10-10-2015 | 00:01
No Image Caption
عاد من لندن إلى منزله في ذلك المساء. وفي وقت متأخر من الليل، فتح الحقيبة التي أحضرها معه، مفترضاً أنها له، ووجد أنها لشخص آخر. وبالرغم من تقليبه المحتويات باهتمام هاجسيّ بلغ حدّ الانحراف، لم يتمكن من العثور على أية علامة أو إلماعة تشير إلى هوية المالك.

لقد أظهرت المحتويات بوضوح أن الحقيبة تعود لشابة. فالملابس العادية عالية الجودة (...): قميصان أحدهما أسود والآخر أبيض، عدد قليل من الجوارب الطويلة، لِفاع حريريّ رماديّ وزهريّ اللون، حِزام، تنورة سوداء قصيرة، حذاء أسود كلاسيكي منخفض الكَعبين – قياس 38 – في علبة أحذية مبطَّنة... وأشار السروال إلى أن طول قامة مالكة الحقيبة يبلغ نحو 1.7 متر. أما مستحضرات التجميل في علبة التبرُّج الصغيرة فباهظة الثمن وذات جودة عالية، والحُلي الفضّية في الكيس المخملي جميلة. وهناك خاتمان ذهبيان عريضان رائعان؛ أحدهما يحتوي على ياقوتة، والآخر على زمرّدة.

عندما وضع الحُليّ على سريره، لاحظ وجود قِطع إضافية تصلصل في الكيس. وأثناء إفراغه الكيس على غطاء السرير، سقطت بضع قطع نقدية معدنية قديمة؛ ست عشرة قطعة نقود فضية...

هل الأمر مفاجئ؟ لم يكن فولكان واثقاً. ولكن باستطاعته التخمين أن الخاتمَين وقِطع النقود قيّمة جداً. فهو لم يرَ أشياء مماثلة لهذه القِطع إلا في المتاحف؛ بين المصنوعات اليدوية القديمة. وحقيبة الملابس ليست مثالية بالتأكيد لنقل أغراض مماثلة.

بالرغم من ذلك، ربما تكون زائفة. ولكن، إذا كانت ذات قيمة تاريخية، فهي تشير – ولا سيما قِطع النقود – إلى قيامها برحلة معاكسة للطريق المعتادة. فهي ربما أُخرجت من البلد لتُباع ثم أعيدت لسبب ما. وربما ذهبت صاحبتها بعدد أكبر وعادت بعدد أقل. مهما كان السبب، من الجرأة تقريباً إبقاؤها في حقيبة ملابس. ومن جهة ثانية، قد تكون الحقيبة أقل لَفتاً للأنظار، وعمليةً أكثر من حقيبة سفر يدوية. لم يكن فولكان يملك أية خبرة في هذه المسائل.

وتساءل عن تلك المرأة شاردة الذِّهن التي لا تَعي حقيقة كنزها المخبَّأ. أيٌّ من النساء هي؟

كان على الدوام يحتفظ ببطاقة تعريف وورقة تحمل ترويسة الشركة في الجَيب الخارجي لحقيبة ملابسه كعمل احترازي في حال مواجهته مثل هذه الإرباكات. لذا، من الأفضل الانتظار أياماً قليلة قبل إبلاغ شركة النقل الجوّي عن فقدانه أغراضه، فربما ستتصل به المرأة؛ ولم يتمكن من اتخاذ قرار نهائي. قد تَثبت خطورة الاحتفاظ بالحقيبة، ولا حاجة للبحث عن متاعب والتعرض للخطر.

شعر بأنه ينتظر بداية قصة بوليسية على وشك أن تُكتب. كان بمفرده في غرفة المطالعة الخاصة به. وبخلاف الصَّخَب الاعتيادي، شهدت فترة بعد ظهر هدوءاً. فالقاعة المزخرَفة بحُسن ذَوق، والتي تشبه غرفة جلوس ضخمة، تقع في الطابق الخامس، ومحميّة بعناية من العالم الخارجي. عندما وقف قرب النافذة، تمكن من رؤية السيارات والناس ومواقف الحافلات وملتقى الطرق وأضواء حركة المرور المسبِّبة للدُّوار في الأسفل. إنه يُصاب بالذُّعر أحياناً، ويشعر بالرغبة في النزول إلى الشارع في أسرع وقت ممكن والاختلاط بالحشد. ولكنّ ما كان يشعر به في هذه الغرفة هو الامتياز والنفوذ؛ قوة فعلية فوق جَمهرة الناس الذين يبدون كنِمال في الأسفل!

غاص في كرسيّه المزوَّد بذراعَين، ونظر إلى الشاشة أمامه التي تعرض مخططاً بيانياً لمجالات عمل الشركة القابضة: عمليات مالية، تقديم المَشورة في شؤون البورصة والاعتمادات المالية للشركات متعددة الجنسيات، شراء وبيع وإدارة الأصول والعقارات على نطاق واسع... توسُّط في سوق العقارات الخاصة والعامة التي يُراد خصخصتها... أرباح كبيرة على الدوام... حقائق فظة وظروف سيئة...

كان يتعيّن عليه استكمال صفقة بيع في اليوم التالي، ومراجعة التفاصيل مرة ثانية، وإقناع بعض السادة المحترَمين، وضمان سلامة العملية، ومن ثم مناقشة من يتعيّن رشوته وقيمة الرشوة، وتوقيع المستندات بشكل متبادَل. تلك هي مهمة فولكان التي يقوم بها باسم شخص آخر، موسِّعاً نطاقها باطّراد في السنوات الخمس الأخيرة. لم يفكر قطّ في ما قام به، فهو دائم الانشغال في ما يتعيّن عليه القيام به، وقد جعله ذلك شجاعاً وجريئاً.

عندما كان لا يزال حديث العهد في الشركة، كان يعتبر نفسه ذا قدرات عالية في الرياضيات بعد كل صفقة ناجحة. فهو يجيد التفاوض في شأن تقارير ورسوم بيانية، وابتكار فوائد غير متوقّعة للشركة، وحلّ تقارير العمولة بسرعة. ولكن نجاحه الأكبر يكمن في سلوكه المطمئِن والمُقنِع أثناء تعاطيه مع الناس. ويتمثل الأمر الأكثر أهمية الذي أدى إلى نجاحه السريع في مهنته بكونه ودوداً وجديراً بالثقة، إضافةً إلى خبرته وحدّة ذكائه. ويعتقد فولكان أنه وُلد موهوباً، فهو لا يجد أية مشكلة في الإصغاء إلى الناس بانتباه وتهذيب تامَّين، محافظاً في الوقت نفسه على صبره ورباطة جأشه.

لقد سمع صوت حفارة تهدر في مكان قريب؛ فتتوقف عن العمل أحياناً، ثم تُشغَّل ثانيةً. نهض وتوجّه إلى النافذة، ونظر إلى الأسفل. إن الطقس غير واضح المعالم، ويهطل مطر خريفيّ خفيف، وتتلألأ تحت المطر رؤوس الأشجار في الحديقة عند الجانب الآخر من الطريق. تأمّل الحديقة الأمامية للمبنى المزيَّنة بشُجيرات وصخور طبيعية أشبه بتماثيل. كان يشعر بدُوار، فحاول إفراغ ذهنه وملأه بالمطر، والأشجار، والرياح. ولكن ضجيج الحفارة تواصل. إنهم يحفرون الشوارع مجدداً.

في الليلة السابقة نام قليلاً. إذ لم يعد بإمكانه النوم، بشكل متزايد، بدون مساعدة الحبوب المنوِّمة أو الشراب. أحياناً، عندما يكون على وشك النوم، يقفز مع شعوره بأنه تعثّر وعلى شفير وادٍ عميق ضيّق ومُريع. ومن دون الحبوب المنومة، لا سبيل له لتجنب القلق. ففي منتصفِ الليل، يعود موضوع أو كلمة أو حدث كان قد أمعن النظر فيه خلال اليوم كشبح ليشغل عقله، وتصبح كل التفاصيل والأمور غير الهامة شديدةَ الأهمية، وتزداد حالات الغضب والكره والانفعالات حدّةً.

وحدث الأمر نفسه الليلة. إذ قضى الليلة بكاملها – كما لو أنه يغتنم الفرصة للبقاء مستيقظاً – مفكراً في شخصية تلك المرأة التي تملك تلك الملابس الداخلية المثيرة وذلك العطر الذي استقرّ على الملابس في الحقيبة. قلقاً، بات عقله مفتقراً إلى الوضوح بسبب تقلّبه على السرير في الغرفة المُظلمة، ممّا أصابه بخَبَل تام.

لقد كفّ عن رؤية الكوابيس منذ مدة طويلة. فعندما لا يتناول جرعاتٍ من الدواء أحياناً، يجد المفاوضات مُرهِقة، والعبارات غريبة، ولوحات البورصة معقَّدة. كما يحلم بأنه موجود في غرف فنادق بدون حمّامات، أو حافياً أو عارياً في جادّات مزدحمة، فيما تحفر شظايا ناقلة للجراثيم بشرته... عليه بَذل جهد على الدوام، ويكون على عَجَلة من أمره دائماً، وقلِقاً... لقد حَلُم ذات مرة بأنه مكهرَب فيما كان على وشك اقامة علاقة حميمة مع امرأة لم يكن يعرفها. غير أن ذلك كان أمراً متوقَّعاً لأنه لم يقم بمثل هذا الأمر منذ مدة طويلة.

رنّ الهاتف. {تتّصل سيدة في شأن الحقيبتَين المتبادَلتَين».

«حسناً، حولي الاتصال من فضلك».

«فولكان بيك؟ أُدعى مِليك إيدا. لديّ حقيبتك، وآمل أن تكون حقيبتي معك».

«صحيح، ولكنها لا تحمل بطاقة تعريف. كنت أنتظر اتصالك».

«هل أذكر لك الأغراض الموجودة داخلها كي تتأكد من أنها لي؟}. وأطلقت ضحكة ماجنة.

{هل تعتقدين أنه ربما تكون هناك حقيبة ثالثة؟ ألن يشكل ذلك إرباكاً كبيراً؟}.

«أنت مُحِق، سيكون ذلك كثيراً. ولكنني ما زلت راغبة في إخبارك بوجود حُليّ لي في كيس مُخمليّ».

«هذا صحيح. تعيّن عليّ البحث في كيسك كي أعرف لمن تعود الحقيبة».

«كيف سنقوم بعملية التبادل؟ هل تريدني أن أرسل حقيبتك أم تفضل أن نلتقي؟}.

كان صوتها زاخراً بالحياة، ومرِحاً، ومليئاً بالقوة والنشاط، ومغوياً. أيلتقيان؟ أجل، لِمَ لا؟ بإمكان السائق تسوية المسألة، ولكن هناك دعوة سرّية في النبرة الجذلة لهذا الصوت العَذب. لقد حاول تخيُّل المرأة، لكنه لم يتمكن.

“كما تشائين. من الطبيعي أن نتمكن من حلّ المسألة مباشَرةً إذا التقينا. ماذا سنفعل؟».

«قُل لي ما تريد فعله يا فولكان بيك».

«أين أنت؟».

في الجانب الأناضولي، ولكنني أخطط للذهاب إلى الجانب الأوروبي اليوم. سأقوم بزيارة قصيرة وأترك لك الحقيبة. أنت موجود في كوزموس بلازا، أليس كذلك؟ هل ستكون في مكتبك بعد الظهر؟».

«سأكون بانتظارك».

وضع السمّاعة من يده. لقد شعر بالإثارة إلى حدٍّ كبير؛ فصوت المرأة أشبه بتيار قوي غلّفه وغزله وألقى به أرضاً. من الفظاظة الطلب من امرأة القدوم إليه، ولكن الحديث تطوّر في هذا الاتجاه، أم إن المرأة هي التي وضعت الحديث في هذا الاتجاه. إنها مُحقة، فحقيبتها هي المحيِّرة والقيّمة بما يكفي لتقلق في شأنها. هي تسعى لاستعادة كنزها الصغير الذي لم تتمكن من عدم ذِكره. لهذا السبب كان صوتها مليئاً بالحماسة وكَسْب الودّ.

آمل في أن تكون جميلة كصوتها، قال لنفسه، أنا بحاجة إلى امرأة جميلة في حياتي.

كان ذكيًّا في الرياضيات، ولكن عالَم أحلامه مليء بأشكال وصور متغيّرة. فمجرّد إشارةٍ أو صورة واحدة تكفي لتنشيط شبكة أفكاره، وتكون صورة صغيرة واحدة كافية ليحلُم بها. وكلما شعر بأنه في مستهل أمر جديد، انتابه نوع من الفرح الممزوج بالخوف؛ حماسةٌ صِبيانية، أو بهجةٌ غامرة، كما لو أنه يشرع بالإبحار في مياه مجهولة. من جهة ثانية، كان يثق بحَدْسه. فالمرأة التي تحدثت إليه عبر الهاتف فاتنة وجذّابة لا ريب في ذلك. هناك على الدوام إمكانية التعرّض للإحباط، وهذا أمر طبيعي، ولكن الفُرَص متساوية. إنه يملك بيانات هامة وكافية حولها؛ كطول قامتها، وإحصائيات أساسية، لا بل ملابس داخلية أيضاً. وضحك.

كانت حقيبة المرأة في منزله، فأرسل سائقه إلى بيبِك لإحضارها. نظر إلى نفسه في المرآة بجانب الباب، ومرّر أصابعه عبر شعره. كانت عيناه الكبيرتان كهرمانيّتا اللون داكنتَين ونعستين كما لو أنه قد نهض للتوّ من قَيلولة. طالما تركت هذه النظرة أثراً كبيراً في نفوس النساء. صحيح أنه مُفرط الوزن قليلاً، ولكنه ليس أصلع على الأقل، ولديه شعر كَثّ متماوج ذو لون بنّي فاتح.

back to top