بلداننا وبلدانهم!

نشر في 02-09-2015
آخر تحديث 02-09-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي حملتني إجازة الصيف في رحلة بحرية عائلية "Cruise" على متن سفينة تشبه إلى حدٍ ما مدينة عائمة، فقد احتضنت قرابة 3000 مسافر من شتى بقاع الأرض، وحوت أحد عشر دوراً تضم: المطاعم والمسارح ودور السينما وقاعات المحاضرات والمعارض الفنية والأسواق، إلى جانب النوادي الصحية والمسابح والمستشفى. وكانت تلك السفينة تسير متهادية ليلاً، ليستيقظ الركاب في كل صباح وهم في مدينة جديدة.

تنقّلت السفينة بين عدة بلدان في إيطاليا وفرنسا وكرواتيا والجبل الأسود، وقد لفت نظري مجموعة من الأمور وثيقة الصلة بالحياة والثقافة أذكر منها.

الإنسان الغربي عموماً والأميركي على وجه الخصوص يرى في عمر السبعين عمراً يانعاً، ويرى في صاحبه، امرأة كان أو رجل، النضج والقدرة على تقييم الأمور بهدوء وروية، وهو أقدر من غيره على معايشة المتع الدنيوية الراقية كالصداقة والآثار والقراءة والطبيعة والموسيقى.

إن الإعاقة الجسدية، لا تشكل بأي حال من الأحوال عائقاً أمام صاحبها لممارسة الحياة اليومية كأي إنسان آخر. صحيح أنها تحدّ من حركته، لكنها أعجز بكثير من أن تقف حجر عثرة في سبيل تمتعه بكل ما يمكن أن يتمتع به الإنسان المعافى، فلقد لفت نظري أن عدداً كبيراً من كبار السن، وهذا مفهوم شرقي يختلف تماماً في دلالته عن المفهوم الغربي، يكونون دائماً جاهزين وفي الصفوف الأولى عند انطلاق أي رحلة، وأنهم لا يبالون بإعاقتهم الجسدية بل إنهم في تحدٍ دائم لإثبات قدرتهم على معايشة الحياة والتمتع بمباهجها وعلى الوجه الأجمل.

كشفت لي الرحلة، عن طريق الملاحظة اليومية، أن ما يتناقله الوعي الشعبي العربي من تعلق الإنسان الغربي بالنظام والدقة، وحرصه الدائم على تطبيقهما ليس صحيحاً في عمومه، بل وجدت أن تدافع بعض الغربيين يسبق تدافعنا، وأنهم لا يتوانون عن زج أنفسهم في مصعد يكاد يغصّ بمن فيه، بل يصل الأمر إلى تحزّب واضح ضد الآخر حين تدعو الحاجة.

في جميع المرافئ والمدن التي توقفنا فيها، وفي جميع الرحلات التي تنظمها السفينة وبوجود مرشد سياحي، كان التركيز الأول يدور حول المناطق الأثرية. سواء كانت دور عبادة أو مدنا قديمة أو أي تراث إنساني استطاع البقاء شاهداً على حضارة سابقة.

وكان واضحاً أن المناطق الأثرية هي مقصد السياحة الأول، مما يضطر السائح إلى الوقوف في طوابير لساعات كي يتمكن من رؤية المرفق السياحي والاستماع إلى شرح عن تاريخه.

كنت أتنقل بين الأماكن التاريخية كل يوم، بعد أن أكون قد تابعت الأخبار عن أحوال بلداننا العربية، وكيف أن الآخر يسعى الى تكريس هويته التاريخية عبر الآثار والمتاحف ودور العبادة، أياً كانت، وكيف أننا، بشكل يدعو للريبة، ندمر كل الآثار المدرجة على قائمة التراث العالمي حسب تصنيف اليونسكو، سواء في العراق أو سورية أو مصر أو اليمن أو ليبيا، بعد أن يتم تهريب والمتاجرة بأهم قطعها إلى متاحف وصالات الدول الغربية. وبما يثير التساؤل البريء: هل يسعى الآخر إلى تكريس هيمنته على التاريخ والحضارة في بلدانه، مدركاً ضرورة تفريغ هذه المنطقة من هويتها وتراثها الحضاري والإنساني الأهم؟

مشاهد الرحلة كثيرة حياتياً وأدبياً وثقافياً، لكنها في النهاية تقول حقيقة واضحة إن الآخر، وبتفاوت مستواه المعيشي والحضاري، يعيش في عالم غير عالمنا، وأنه بالعموم لا يعلم عما يجري في بلداننا من اقتتال بشع ووحشي.

ويبدو أن هناك من يخطط لكل ما يدور من تدمير ممنهج للبشر والحجر كفائدة تصب في مصلحته، حتى لو تم استبعاد نظرية المؤامرة، والنظر إلى الأمور بمنظور حسن النية.

back to top