فوضى اللاجئين في مقدونيا

نشر في 28-08-2015
آخر تحديث 28-08-2015 | 00:01
تَشَكّل عنق زجاج خطير في بلدة غيفغيليا المقدونية الحدودية، التي تمثل محوراً مهماً بالنسبة إلى اللاجئين المسافرين إلى أوروبا الغربية. يواجه مَن يحاولون بلوغ القطارات في هذه البلدة حشوداً خطيرة وتنمر رجال الشرطة.

يوم الاثنين الماضي، شهد الطريق إلى مقدونيا عملية هجرة جماعية بكل معنى الكلمة، مع انتقال نحو 200 شخص على طريق البلقان متجهين إلى أوروبا الغربية. قدم هؤلاء من حلب، وحمص، وكوباني، وطرطوس، وحماة، ودمشق. فيبدو أن جزءاً كبيراً من الشعب السوري يحاول الهرب في الآونة الأخيرة، محاولاً بلوغ بر الأمان. بحسب {شبيغل}، سارت هذه المجموعة على طول سكة الحديد التي تربط قرية إيدوميني اليونانية ببلدة غيفغيليا المقدونية. صاحت عائلة من دمشق عندما مرت قرب مجموعة من الأكراد السوريين: «بالتوفيق كوباني!». فردوا: «بالتوفيق دمشق!». إلا أنهم لم يستطيعوا اجتياز مسافة كبيرة. سرعان ما اصطدموا بخمسة رجال شرطة مقدونيين يقفون على الأرض الترابية المتعرجة على طول السكة. فطلبوا من الناس الانتظار من دون أن يبلغوهم السبب أو كم ستطول فترة انتظارهم. فخلع السوريون حقائب ظهرهم ووضعوها أرضاً، وبحثت النساء والأولاد عن مكان يستظلون فيه. وخلال الساعات الخمس التالية، تنامى عدد المنتظرين ليبلغ الأربعمئة.

لم يكونوا كلهم من السوريين. فقد ضم الحشد أيضاً عراقيين. لكن بعضهم يدّعون اليوم أنهم سوريون لأن ذلك يمنحهم فرص نجاح أكبر في طلب اللجوء ويسرّع الإجراءات. يشير رجل سوري إلى ثمانية رجال ونساء من إفريقيا، ويقول مقطباً وجهه: «بات الجميع هنا من سورية اليوم، حتى أولئك».

يملك كل المحتشدين في هذا المكان قاسماً مشتركاً واحداً على الأقل: وصلوا إلى أوروبا في الأيام الأخيرة عبر إحدى الجزر اليونانية الواقعة قرب الحدود التركية (كوس، ليسبوس، أو كيوس). تستقبل هذه الجزر كل يوم نحو ألف إلى 1500 شخص، علماً أن هذه الأعداد الأكبر على الإطلاق. ويريدون معظمهم التوجه إلى أوروبا الغربية بأسرع وقت ممكن. لكن تدفق الأعداد الكبيرة من اللاجئين ولّد عنق زجاجة خطيراً على الطريق الرئيسة عبر البلقان.

عند طرف الساحة، نُصب كشكان يونانيان لبيع مأكولات سريعة، مثلجات، وماء للاجئين. صحيح أنك تشعر بأن معظم مَن يعيشون في المناطق الحدودية يودون التخلص من ضيوفهم المتطفلين، إلا أنهم يتوقون إلى جني بعض المال قبل السماح لهم بتابعة  طريقهم.

بعد أربع ساعات من الانتظار، يوضح شرطي مقدوني أخيراً الوضع باللغة الإنكليزية. يقول: {ثمة زحمة أناس هناك. المكان ممتلئ بالكامل. الوضع خطير، وقد يهدد حياة النساء والأولاد}. وهكذا تشكّل عنق زجاج خطير في بلدة غيفغيليا المقدونية الحدودية. تنطلق من هذه البلدة ثلاثة قطارات يومياً فقط، متجهة إلى الحدود الصربية في الشمال. وتكون محملة بآلاف اللاجئين الذين يتنافسون على المقاعد في كل رحلة.

تشدد قواعد لجوء الاتحاد الأوروبي الحالية على ضرورة بقاء مقدمي الطلبات في اليونان، بما أنه البلد الأوروبي الأول الذي وصلوا إليه. لكن أصدرت محكمة أخيراً أمراً يقضي بأن الدول الأعضاء الأخرى لا تستطيع إرغام اللاجئين على العودة إلى اليونان. فقد أخذت هذه المحكمة في الاعتبار أن الأوضاع في هذا البلد الرازح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية صعبة جداً بالنسبة إلى اللاجئين.

تقدّم مقدونيا وصربيا الوثائق التي تسمح للاجئين بالبقاء في البلد  مدة 72 ساعة، وتتوقع السلطات منهم خلال هذه الفترة التسجيل وتقديم طلب اللجوء. لكن فترة الأيام الثلاثة هذه تُعتبر وقتاً كافياً يسمح لهم ببلوغ أوروبا الغربية. لذلك يتابع معظمهم الرحلة.

مرت أربع ساعات في الحر الخانق. فقدمت مزارعة يونانية وبدأت ببيع التفاح مقابل 1.50 يورو للكيلو الواحد. راحت تنادي باليونانية: {فيتامين! فيتامين!}.

قال فراس، رجل من دمشق، قبل أن يضحك: {المال هو الفيتامين}. كان هذا الرجل حليق الذقن، بعدما أمضى الليل مع عائلته في فندق. تأتي هذه العائلة من أحد أحياء دمشق يضم دبلوماسيين وأثرياء. تحاول هذه العائلة عدم الاختلاط بالآخرين.

يستند فراس، الذي يرتدي قميصاً نظيفاً أزرق زاهياً، إلى شجرة، ويروح يتأمل الناس المنتظرين. ويضيف: {أنا أيضاً لم أفكر أبداً في أنني سأسافر ذات يوم مع هذا النوع من الناس}. يعود معظم السوريين المحتشدين هنا إلى خلفيات أكثر بساطة، مقارنة بفراس. وقد عانوا مشقة أكبر لجمع المال من عائلاتهم للقيام بهذه الرحلة إلى أوروبا.

يتحدثون الفرنسية

من المفاجئ غالباً مقدار المعلومات الضئيلة التي يملكها اللاجئون المنتظرون هنا عن البلدان التي يقصدونها. يريد معظمهم الانتقال إلى ألمانيا أو السويد لأن الأوضاع في هذين البلدين جيدة للاجئين. لا شك في أن كل سوري يدخل السويد في الوقت الراهن يُمنح إذن إقامة غير محدد، أو هذه على الأقل السياسة المتبعة راهناً. إلا أننا نسمع في الآونة الأخيرة تذمراً داخل الحكومة ونلاحظ ميلاً إلى تغيير هذه السياسة، نظراً إلى الزيادة القياسية في أعداد طلبات اللجوء. لكن بالنسبة إلى معظم هؤلاء اللاجئين، تشير ألمانيا إلى شركات هذا البلد المشهورة عالمياً. ويعتقد كثيرون أنهم سينجحون في العثور على عمل بسرعة هناك. لكن قلة  تفكر في أن العمل كميكانيكي سيارات في شتوتغارت يختلف كل الاختلاف عن ميكانيكي السيارات في حلب.

بالإضافة إلى ذلك، يطرح اللاجئون الكثير من الأسئلة على الصحافيين الأوروبيين الذين قدموا لإجراء مقابلات معهم: {ما هو البلد الأفضل؟}، {هل يمكنني الحصول على الجنسية بسرعة في ألمانيا؟}، {هل تستطيع عائلتي الانضمام إلي بسرعة في هذا البلد؟}، {هل ألمانيا مكان صعب؟}، {ألا تشكل النمسا جزءاً من ألمانيا؟}، {سمعت أن الطقس بارد في السويد، هل هذا صحيح؟}، و{أريد الذهاب إلى هولندا. يتحدث الهولنديون الفرنسية، أليس كذلك؟}.

بدأت امرأتان حاملان البحث عن مكان تستظلان فيه مع أولادهما. فتوجهتها نحو صف من الأشجار، إلا أن أحد رجال الشرطة المقدونيين لم يرد أن تجلسا هناك. فضرب المرأتان بهراوته. أثارت هذه الحركة غضب اللاجئين، إلا أن الوضع لم يتفاقم. لم يتدخل أحد، وعاود اللاجئون الجلوس. راحوا يقولون في ما بينهم: {يا له من وغد! أهذا ما يدعونه حقوق إنسان؟}.

{أفضل الموت في بغداد}

كان يوماً طويلاً، مضنياً، ومخيفاً. كان معظم المحتشدين هنا يسافرون منذ أيام من دون توقف أو نوم، ولم يتسنَّ لهم تناول الكثير من الطعام. رجع حيد محمد (42 سنة) أدراجه عند الحدود المقدونية. استسلم هذا العراقي: {أمضيت يوماً في مقدونيا. وأفضل الموت في بغداد على أن أبقى في مقدونيا يوماً إضافياً}.

الوضع في غيفغيليا مأساوي بكل ما للكلمة من معنى. ينام اللاجئون على علب كرتونية في الشارع. كذلك يُرى الآلاف وهم ينتظرون في الظل في محطة القطار. بالإضافة إلى السوريين، ثمة الكثير من الباكستانيين والأفغان. يقول أحد باعة بطاقات القطار إن أسعار بطاقات الركاب رُفعت أخيراً بأمر من مدير المحطة. فباتت الرحلة عبر مقدونيا وصولاً إلى الحدود الصربية تكلف اليوم 10 يورو، فضلاً عن أن المحطة لا تفرض أي حدود على عدد البطاقات التي تبيعها، رغم قدرة القطارات المحدودة على استيعاب الركاب. وهكذا يُترك لشراة البطاقات أن يتوصلوا هم بأنفسهم إلى طريقة للحصول على مقعد على متن القطار.

وصل قطار الساعة الخامسة بعد الظهر إلى المحطة، وسرعان ما تدفقت إليه الحشود المنتظرة. لم تتخذ السلطات أي تدابير هنا لضبط الحشود. كذلك ما من خطوط منظمة لمن ينتظرون، ما من اختلاف في فئات البطاقات، وما من مناطق انتظار خاصة للنساء والأولاد. نتيجة لذلك، لا ترى سوى التدافع، التزاحم، والشد. ويبدو أن الشبان يتمتعون بالأفضلية في عملية الصراع لبلوغ القطار هذا.

تمتلئ عربات الركاب بسرعة. ثم تبدأ الشرطة المقدونية بضرب الناس الذين ينتظرون القطار لتبعدهم عن المنصة. تبدأ امرأة سورية بالصياح يأساً بعدما أضاعت ابنتها وسط الحشد. لكنها تعثر بعيد ذلك على طفلتها البالغة من العمر خمس سنوات وتضمها بقوة. تنهمر الدموع على خدي الأم، غير أن هذه التجربة ستمنعها من معاودة الكرة في اليوم التالي.

* رانيا سلوم | Raniah Salloum

back to top