كاتبة {أن تقرأ لوليتا في طهران} آزار نفيسي: الكتابة تتجاوز حدود الزمان والمكان!

نشر في 02-08-2015 | 00:01
آخر تحديث 02-08-2015 | 00:01
حرصت آزار نفيسي، كاتبة {جمهورية الخيال} (The Republic of Imagination)، على تعليم المؤلفات الممنوعة من الأدب الغربي حين كانت أستاذة في طهران. وبعدما طُردت لأنها لم تكن ترتدي الحجاب الإلزامي، ترأست نادي كتاب للنساء وناقشت بعض الأعمال غير القانونية سراً (بدءاً من جين أوستن وصولاً إلى نابوكوف)، وراء الأبواب المغلقة. كتبت نفيسي في مذكراتها التي حققت أعلى المبيعات، «أن تقرأ لوليتا في طهران» (Reading Lolita in Tehran)، أنّ تلك الكتب «أساسية في حياتنا، فهي ليست من الكماليات بل من الضروريات».

في كتاب «جمهورية الخيال: أميركا في ثلاثة كتب»، تعتبر نفيسي أن القصص الخيالية لا تقل أهمية عن غيرها (علماً أن الدستور يحمي حريتنا الفكرية ولا يُجبَر الأميركيون على تهريب النسخ الممنوعة في ملابسهم!). في دراستها الممتعة التي شملت ثلاث روايات («مغامرات هكلبيري فين» (Adventures of Huckleberry Finn) لمارك توين، «بابيت» (Babbitt) لسنكلير لويس، {القلب صياد وحيد} (The Heart is a Lonely Hunter) لكارسون ماكالرز)، تكشف نفيسي كيف تشدد هذه الأعمال على الجوانب الأساسية من الوعي الأميركي. على نطاق أوسع، هي تثبت كيف يمكن الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان، جزئياً، من خلال الأدب.

في محادثاتها عن هذه السلسلة من الكتب، لجأت نفيسي إلى جيمس بالدوين، وهو الكاتب الذي تناقش أعماله في خاتمة الكتاب. من خلال استعمال جملة من مقابلة بالدوين في عام 1961 مع ستادز تيركل، استكشفت نفيسي مسؤوليتنا تجاه الفنون وأهمية الكتب القيّمة بالنسبة إلى الشباب والقوة الهائلة التي تتمتع بها القصص الخيالية لتخفيف شعورنا بالوحدة.

تعلّم آزار نفيسي في {كلية الدراسات الدولية المتقدمة} التابعة لمعهد السياسة الخارجية في جامعة جونز هوبكنز. حقق كتاب {أن تقرأ لوليتا في طهران} أعلى المبيعات على لائحة صحيفة {نيويورك تايمز} لأكثر من 115 أسبوعاً.

آزار نفيسي: حين عدتُ إلى الولايات المتحدة من إيران، في عام 1997، لم أكن قد جئتُ إلى هذا البلد منذ 18 سنة، حين كنت طالبة جامعية خلال السبعينيات. ما أحبه في الولايات المتحدة هو التالي: أينما أذهب، إلى الولايات الجمهورية أو الديمقراطية، يشعر الأميركيون العاديون بالشغف تجاه القراءة واكتشاف المعاني والتواصل مع الآخرين.

لكني لاحظتُ هنا أمراً يزعجني: ثمة نوع من الازدراء بالخيال في الأماكن العامة. للنزعة التي أتحدث عنها أوجهاً عدة، لكنها شائعة في كل مكان. بدءاً من صانعي السياسة الذين لا يقدّرون أهمية الفن أو الموسيقى أو الشعر في مجال التعليم الديمقراطي، وصولاً إلى الجامعات والمدارس حيث يُطلَب من الطلاب أن ينتقدوا الكتب قبل أن يتسنى لهم التواصل معها، نسمع دوماً أن تمارين التخيّل ليست مهمة.

من الشائع طبعاً أن نسمع الناس وهم يدافعون عن الكتب في البلدان التي تفتقر إلى الحرية. لكن حين بدأتُ بإعداد كتاب {جمهورية الخيال: أميركا في ثلاثة كتب}، لاحظتُ أن الناس لا يقدّرون على ما يبدو العلاقة القائمة بين الكتب والحرية في الأنظمة الديمقراطية الفاعلة. في المقابل، يبدو أن الطغاة في أي بلد، من الجمهورية الإسلامية والاتحاد السوفياتي إلى أي مكان في العالم، يفهمون حقيقة أعدائهم: يتمثل العدو الأكبر بحرية التفكير وحرية التخيّل.

 يهاجم الطغاة هذه المفاهيم أولاً، إلى جانب حقوق المرأة وحقوق الأقليات. لذا أشعر بصدمة فعلية حين يتساءل أي شخص يعيش في بلد ديمقراطي: {ما أهمية القراءة؟ ما أهمية التخيل والتفكير؟}.

مارك توين

بدأتُ أحضّر كتاب {جمهورية الخيال} لاستكشاف ما يجعل الخيال الأدبي قوة أساسية داخل الأنظمة الديمقراطية. اتخذ الكتاب أشكالاً مختلفة كما يحصل مع جميع الكتب. في مرحلة معينة، قررتُ أن أخصص فصول الكتاب لأربع وعشرين كاتباً مختلفاً من جميع أنحاء العالم. احتجتُ إلى وقت طويل كي أختار أربعة كتّاب أميركيين فقط. كان مارك توين خياري الأول، منذ البداية تقريباً.

أرى في توين رغبةً واضحة في ضمّ أصوات وآراء متعددة وإسماع أصوات الجميع، بدل التركيز حصراً على المميزين أو النافذين أو المسيطرين ثقافياً. كان مشروعه كله يعارض مفهوم الحقيقة التوتاليتارية الواحدة. في بعض النصائح المكتوبة، أصرَّ توين على ضرورة أن نعيد للناس أصواتهم ونسمح لهم بالتكلم وبالتعبير عن آرائهم ومشاعرهم وندعهم يرفعون الصوت.

يتمحور جوهر رواية توين الكلاسيكية، {مغامرات هكلبيري فين}، حول هذه الفكرة تحديداً. تشمل الشخصيات الرئيسة طفلاً متشرداً أبيض وعبداً أسود: يتعرض الاثنان للقمع، بطرق مختلفة، من مجتمع {محترم}، فيجدان دوماً من يمنعهما من التعبير عن آرائهما.  لكن سرعان ما يتعلّمان الاتكال على بعضهما البعض للصمود. من خلال هذه التجربة، يرتفع مستوى التعاطف بين الطفلين المنبوذين، ويبدآن بالتعامل مع بعضهما بطابع إنساني بحت.

يمكن مشاهدة مدى التزام توين بهذه الفكرة في خطاب لاذع ومشين ألقاه في جمعية {ماي فلاور}، وهي مجموعة من الناس الذين يجتمعون للاحتفال بمكانتهم كأحفاد ركّاب السفينة الأولى.

 بدأ توين يسخر من أوائل {الحجّاج}، معتبراً أنهم {دمّروا أسلاف جميع الفئات الأخرى}. ثم راح يناقش مفهوم الإرث {النقي}. فقال لهم: {أنا أتمتع بأخلاق ميزوري وثقافة كونيتيكت}، قبل أن يدّعي أن أسلافه الحقيقيين هم الأميركيون الأصليون وجمعية الأصدقاء الدينية وضحايا محاكمات السحر في سالم وأخيراً العبيد.

أضاف توين: {أول عبد ساقه أسلافكم إلى نيو إنغلاند من إفريقيا كان أحد أجدادي، لأنني من سلالة مختلطة وهجينة}. من خلال جعل طفلَين منبوذَين الشخصيتين الرئيستين في قصته، أعطى توين صبغة درامية لفكرة الهوية الوطنية المختلطة والمتعددة الوجوه التي صاغها والت ويتمان: {هل أناقض نفسي؟ / حسناً إذاً، أنا أناقض نفسي/ أنا واسع الأفق وفي داخلي تناقضات كثيرة}.

وفق الروايات الشائعة، قد يتميز الأدب الأميركي بشخصيات مثل {العمة سالي} و}القاضي ثاتشر}، لكن يجب أن يشمل أيضاً قصة يتيم متشرد وعبد خانع. لقد خطف هذا المشهد أنفاسي. ظننتُ أنه المعنى الحقيقي للهوية الأميركية: أن يكون الشخص مدهشاً وهجيناً.

جيمس بالدوين

 في رواية {جمهورية الخيال}، أناقش هذه الفكرة من خلال الكاتبين سنكلير لويس وكارسون ماكالرز. وانطلاقاً من هذه النقطة، كان يسهل أن ألتقي بجيمس بالدوين، الكاتب الذي أناقش أسلوبه في خاتمة الكتاب.

كانت هذه الفكرة عن الأصل المختلط محورية بالنسبة إلى بالدوين الذي اعتبر نفسه {ابناً غير شرعي من الغرب}. لقد تم اقتلاعه وحرمانه من جميع أسلافه بالقوة. حين قال له العنصريون: {أنت لست واحداً منا، أنت لا تشبهنا، أنت لست أميركياً»، أجابهم بالدوين: «غير صحيح أيها الأوغاد. لقد أخذتم مني كل شيء. لا يمكن أن أعود إلى إفريقيا. لست إفريقياً ولكنكم لا تسمحون لي بأن أكون أميركياً. سأصبح أميركياً إفريقياً».

بالنسبة إلى بالدوين، كان الأميركي الأسود مضطراً إلى إدراك طبيعة إرثه المعقد والمختلط، فقال: {حين تعقبتُ ماضيّ لم أجد أصلي في أوروبا بل في إفريقيا}.

{كان ذلك يعني أنني، بطريقة سلسة وعميقة جداً، أضفي نفحة مميزة على شكسبير وباخ ورامبرانت وحجارة باريس وكاتدرائية شارتر ومبنى {إمباير ستيت}. تلك لم تكن ابتكاراتي، فهي لم تتضمن شيئاً من تاريخي. قد أبحث فيها عن أي انعكاس لي لكن من دون جدوى. كنت دخيلاً على ذلك العالم. هذا ليس إرثي. في الوقت نفسه، لم يكن لديّ أي إرث آخر يمكن أن أستعمله: لم أكن مناسباً حتماً لأجواء الأدغال أو القبائل. كان يجب أن أمتلك تلك القرون البيضاء. كان يجب أن أجعلها ملكي}.

استفاد بالدوين من الأمور التي قُدّمت له بأفضل طريقة، ولم تعد الجذور مهمة بالنسبة إليه: أخذ ما أراده من الجاز والبلوز أو شكسبير وباخ. وهذا ما ساهم في توسيع مكتبة أميركا الأدبية.

يجب أن نتذكر أمراً مهماً: أبرز ما يفعله هذا البلد، وهو أمر أكرهه كثيراً، هو تصنيف الناس. حتى لو كنت كاتباً عظيماً، لن تصبح بمصاف الكتّاب العظماء، بل ستُعتبَر كاتباً أميركياً إفريقياً. حين جئتُ إلى هذا البلد، قال لي أحدهم: {أنتِ امرأة وتأتين من بلد مسلم في معظمه. لديك فرصة جيدة للتخصص بالدراسات الإسلامية ودراسات المرأة}. فقلتُ له: {ما رأيك أن تتخصص أنت بالدراسات الإسلامية ودراسات المرأة. أنا أريد التكلم عن الرجال البيض}. هذا ما قاله لي الأكاديميون من دون أن يدركوا أن الأدب يتعلَّق بالطرف {الآخر}.

من المضجر أن تتحدث عن نفسك دوماً! هذه هي رسالة الخيال الأدبي: لا يمكن أن تتكلم عن نفسك حصراً بل يجب أن تفهم الجميع وتسمح لهم بإسماع صوتهم، حتى الأشخاص المختلفين عنك والأشرار. حتى لو كنت تحارب الأشرار، يجب أن تفهمهم أولاً.

خلال الخمسينيات، كسر بالدوين هذا الحاجز. فرفض أن يصفوه بالكاتب الزنجي، ورفض أن يصفوه بالكاتب المثلي. قال ببساطة: «أنا مجرّد كاتب». إنه الموقف الوحيد الذي يستحق الاحترام: أن يقبلنا الناس لما نحن عليه. يجب أن يرفض الكتّاب الرضوخ للتصنيفات المبسّطة، مع أننا ما زلنا نميل في ثقافتنا إلى إلصاق صفة معينة بكل فرد.

كان بالدوين أميناً جداً وشرساً جداً في مقالاته ونشاطاته وفي معركته في سبيل الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، لكنه أصر على أمرٍ أعتبره أساسياً. يجب أن نحترم ونحتفل بالاختلافات والخصوصيات، كما قال، لكن يجب ألا ننسى مطلقاً أن الخصوصيات تكون خطيرة جداً إذا لم تتخذ طابعاً عالمياً.

نعم، نحن مختلفون. وتلك الاختلافات مدهشة وتستحق الاستكشاف. لكن يتقاسم جميع الكتّاب صفة إنسانية مشتركة وهي تتضمن أفضل وأسوأ الجوانب. ما من شعب أو بلد مجرّد من تلك الصفة. أظن أنها مساهمة عظيمة جداً.

تشابه رغم الاختلاف

نحتاج إلى الأدب لتذكيرنا بمدى تشابهنا رغم اختلافاتنا. عبّر بالدوين عن هذه الفكرة بأسلوب جميل:

{أنت تقرأ كتاباً وتظن أن أحداثه حصلت معك وحدك، لكن سرعان ما تكتشف أنها وقعت منذ مئة سنة مع دوستويفسكي. إنها وسيلة ممتازة كي يتحرر كل شخص يعاني ويكافح ويظن أنه وحيد دوماً. لهذا السبب يُعتبر الفن مهماً. ما كان الفن ليتخذ هذه الأهمية لو لم تكن الحياة مهمة، والحياة مهمة طبعاً}.

وفق هذا الجانب البراغماتي، للجميع حدوده. ثمة حدود داخل كل شخص منا، وهذه هي الأمور التي تجعلنا مختلفين. نحن نأتي من أوطان مختلفة. لكن حين نقرأ الأدب، ندخل إلى «جمهورية الخيال» التي تتجاوز حدود الزمان والمكان. قد تكون صبياً أميركياً إفريقياً يعيش في مدينة نيويورك وقد تكتشف أنّ أفضل شخص يعبّر عنك هو رجل كان يعيش في روسيا ومات منذ مئة سنة. هذا الأمر يعطيك بصيص أمل ويجعلك تشعر بارتباطك بالآخرين وبوجود أصدقاء لك. إنها واحدة من تلك اللحظات التي تشعر فيها بالسعادة لأنك إنسان. لذا يقول عدد كبير من الناس إن كتاباً واحداً غيّر حياتهم كلها. أو يتحدث الكتّاب عن كتاب جعلهم يرغبون في امتهان الكتابة.

يتعلق أحد أعظم الإنجازات التي قام بها والدي بحرصه على قراءة عدد كبير من القصص الفارسية وقصائد شعرائنا العظماء والأساطير الإيرانية، لكنه خلطها مع جميع أنواع المؤلفات. في الوقت نفسه، كنت أفكر بإيران وتعرُّفتُ إلى إيطاليا عبر {بينوكيو} أو الدنمارك عبر هانز كريستيان أندرسون. رسّخ فينا جانباً كونياً شاملاً. ولكنه لم يفعل ذلك عبر اصطحابنا إلى الخارج، بل عبر جلب تلك الكتب إلى منزلنا. لم أنسَ ذلك يوماً. لذا أدركتُ، حين جئتُ إلى هنا، ضرورة التحدث عن كتب أشخاص آخرين، مع أن كثيرين كانوا سيتّهمونني بتبني الثقافة الغربية وخيانة ثقافتي الأصلية لو فعلتُ ذلك.

الخيال أولا

حين نعلّم أي قصة من الخيال الأدبي، يجب ألا نلحقها بالتجارب الماضية التي رافقتها. فلا يجب أن نملأ عقول الطلاب بمعلومات عن خلفية القصة. من الأفضل أن ندع الطلاب يتواصلون مع الكتاب أولاً. حتى لو كان ذلك التواصل سلبياً وحتى لو كرهوا الكتاب، تكون ردة فعلهم ملكاً لهم. بعد أن يتواصلوا مع الكتاب ويشكّلوا انطباعهم عنه، من المثير للاهتمام أن يقرأوا عن ما فعله مارك توين لاكتساب هذه المعلومات كلها عن الأميركيين من أصل إفريقي، وكيف أثرت طفولته بعلاقته مع العبيد. ماذا يقول الآخرون عن مارك توين وما هي النقاط المثيرة للجدل بشأنه؟ يجب تحليل هذه التفاصيل كلها بعد التعرّف على الكتاب.

إذا أحببتُ كتاباً معيناً، يجب أن يدخل إلى قلبي أولاً. ثم يحين دور العقل، فأبدأ بتحليل ما أحببته فيه. تكون التجربتان ممتعتين لكن لا بد من إقامة ذلك الرابط العاطفي الأولي. لذا لا أحب النظريات التي تعتبر النقد أول طريقة للتعامل مع الكتب. الأمر أشبه بأن تمتنع «أليس» عن ملاحقة الأرنب الأبيض وعن القفز في الحفرة، وأن تتساءل أولاً: ما الذي يجعل هذا الأرنب أبيض اللون؟ لماذا يركض بهذه السرعة؟ هل يجب أن أتبعه؟

بهذه الطريقة، ما كانت {أليس} لتصل يوماً إلى بلاد العجائب!

الروايات الخيالية والمؤلفات الأدبية وجميع أنواع الفنون تصلنا بماضينا وتشرح حاضرنا وتتوقع مستقبلنا. من دون هذه السمة الشاملة، كنا لنتعامل بوحشية تامة في ما بيننا. حتى إننا قد نصبح أكثر وحشية مما نحن عليه اليوم. لذا يزداد الوضع خطورة حين تستعمل النخب في بلادنا سياسة التعليم لحرمان أولادنا من القراءة عبر تقليص دور الأدب.

 يجب أن نعطي أولادنا فرصة قراءة كتب مثل {الأمير الصغير} (The Little Prince) في القرن الواحد والعشرين كي يتعرفوا إلى ذلك الرجل الفرنسي الذي رحل منذ فترة بعيدة جداً. لهذه التجربة قوة عاطفية هائلة وهي جميلة بكل معنى الكلمة!

back to top