اندلاع الحروب والمعارك...أسباب واختبارات معلِّلة

نشر في 26-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 26-07-2015 | 00:01
في مقطورة ثابتة في شمال العراق، بالقرب من جبهة القتال التي واجه فيها الأكراد قوات «داعش» المتقدمة، جلس المقاتلون على الأرض خلال الربيع الماضي وتحدثوا مع ليديا ويلسون بشأن الحرب. قال أحدهم: «هنا (وهو يشير إلى عنقه) تعرّضتُ لإصابة وهنا وهنا أيضاً».

• توقف رجل آخر عن سرد قصته الأصلية وبدأ يخبرها عن الحروب التي خاضها والده وجدّه دفاعاً عن هويتهما العرقية. أشاد آخرون بفاعلية حلفائهم الفرنسيين في تنفيذ الضربات الجوية: يقولون إن الأميركيين تأخروا كثيراً في الوصول وأبكروا كثيراً في المغادرة. ثم تساءل البعض عن احتمال وصول الانتحاريين في شاحنات مدجّجة بالمتفجرات إلى موقعهم مع حلول الليل. يوفر لهم ضوء النهار بعض الراحة والهدوء في المقطورة. لكن عند حلول الليل، يعرفون أن تنظيم «داعش» سيعود.

لطالما كانت الحرب موضوعاً تاريخياً وفلسفياً وشاعرياً. لكن قد يكشف العلم الآن حقيقة صعبة عن السبب الذي يدفع الناس إلى القتال وعن العوامل التي يمكن أن تجعلهم يوقفون القتال.  التحقيق التالي بقلم ديفيد بيربي من {سايكولوجي توداي}...

ليديا ويلسون باحثة إنكليزية حيوية تعمل في {مركز حل النزاعات المستعصية} في جامعة أكسفورد.  جلست بالقرب من الرجال وطرحت عليهم الأسئلة وأصغت إليهم بإمعان ودوّنت المعلومات في مذكّرتها. في مراحل معينة، ركزت انتباهها على رجلَين تحديداً. فقد سيقا إلى المقطورة وهما مكبّلان ولم يرفعا نظرهما عن الأرض ولم يتفوّها بالكثير في البداية. ثم أخبرها الأكراد بأن هذين الرجلين كانا عميلَين متخفيَين لصالح {داعش}، فكانا يفخخان السيارات ويخططان للاغتيالات. سبق وخضعا للمحاكمة في الموصل وسيُعدَمان قريباً. بالنسبة إلى ويلسون، سيكون التحدث معهما فرصة ممتازة للحصول على معلومات قيّمة من أجل دراستها التي تتمحور حول دوافع الشباب للقتل أو الموت في الحرب.

كانت هذه المحادثات مختلفة عن تلك التي أرادت القيام بها حين انتقلت إلى الشرق الأوسط قبل عشر سنوات. وصلت ويلسون إلى دمشق وهي تخطط لتعلم اللغة العربية كجزء من أبحاثها في مجال الفلسفة العربية خلال القرون الوسطى، لكنها اكتشفت سريعاً أن أحداً لا يستطيع منع نفسه من الانغماس في عالم السياسة حين يعيش في هذه المنطقة. خلال أحد المؤتمرات، قابلت عالم الأنثروبولوجيا سكوت أتران الذي عمل على تحليل الأشخاص الذين يشاركون في أعمال العنف لصالح جماعة أو قضية معينة طوال 20 سنة. وحين عرض أتران على ويلسون التعاون معه، استغلت الفرصة فوراً.

منذ ذلك الحين، عملت ويلسون في مناطق صراع عدة من الشرق الأوسط وقد تعلّمت أموراً كثيرة، منها التوفيق بين تقنيتها البحثية والتقاليد المحلية. بشكل عام، يطلب علماء النفس من الأفراد أن يقيّموا مشاعرهم على مقياس 1 إلى 10، لكنّ طريقة القياس هذه ليست معروفة بأي شكل في الشرق الأوسط للإجابة على الأسئلة: {هم ينظرون إليك ويقولون عبارات مثل {دعني أخبرك قصة...}}. لذا ما عدنا نطرح الأسئلة وفق مقاييس محددة. سنستعمل صور المقاتلين أو نطرح سؤالاً، وحين يجيبون بـ}نعم} أو {لا}، سنقول لهم: {نعم بكل اقتناع؟ أو نعم إلى حدٍّ ما؟} أو أنك {لست متأكداً من الجواب؟}.

مع مقاتلي {داعش} الذين أُلقي القبض عليهم، أطلقت ويلسون تجربتها عبر أسئلة غريبة وصور على بطاقات تعليمية. اعتاد الرجال على سماع إخوتهم المؤمنين وهم يقولون إن نشوء دولة الخلافة الإسلامية هو عمل الله. لكنهم اعتادوا أن يسمعوا من أعدائهم عكس ذلك، أي أنّ {داعش} تنظيم سيئ. نجحت ويلسون في حثهم على الكلام عبر إقناعهم بأنها لا تتوقع أياً من الأجوبة التقليدية: لن نأتي ونسألهم {كيف هي الحياة تحت حكم {داعش}؟ ولن نطرح أي أسئلة اعتادوا على سماعها. نحن نطرح أسئلة تفاجئهم وتجعلهم يتخلون عن الأجوبة الجاهزة التي اعتادوا عليها. كان تقييم مشاعرهم الحقيقية بشأن قوة مختلف الجماعات في المنطقة أول خطوة في هذه التجربة. ثم ستُستعمَل اختبارات أخرى لقياس درجة التشابه بين المقاتلين والجماعات التي ينتمون إليها وقيمها. رغم طبيعة الأسئلة الغريبة التي طرحتها ويلسون، اكتشفت الأخيرة أنها لفتت انتباه الرجال وسرعان ما أجابوا عن الأسئلة بكل حرية.

طوال آلاف السنين، قدم الفلاسفة والشعراء والمؤرخون وخبراء الاقتصاد السياسي تفسيرات عدة عن السبب الذي يدفع الناس إلى القتال، وقد ارتكزت نظرياتهم في المقام الأول على الخطابات أو الإيديولوجيا أو العاطفة. لكن كان أتران وويلسون من بين عدد متزايد من الباحثين الذين يستعملون أدوات العلم لدراسة مفهوم الصراع. قد تبدو هذه الطريقة عادية، لكنها مقاربة ثورية لفهم أهوال الحروب القديمة والإبادات الجماعية وغيرها من مظاهر الكره والعنف بين الجماعات. من خلال استعمال وسائل البحث المنهجية، يدرس هؤلاء العلماء الرائدون مسببات الحرب بالطريقة التي يدرس فيها علماء الأحياء مسببات الأمراض. يأملون أن يكتشفوا على الأقل أصل الصراع وأن يجدوا في نهاية المطاف أساليب جديدة لكبحه.

تفاهة الشر

يساهم استعمال الوسائل العلمية لمعرفة سبب قتال البشر في استبعاد المفاهيم الخاطئة، أي الأفكار التي أصبحت {شائعة} عن الصراع مع أنها لم تخضع يوماً للاختبار، وعند اختبارها يتبين أنها خاطئة. وفق أحد المفاهيم الخاطئة الأكثر شيوعاً بين المحاربين في جميع الصراعات وبين الأشخاص الذين يدعمون المقاتلين عن بُعد، يكون المنتمون إلى {المعسكر الآخر} غير طبيعيين، بمعنى أنهم متوهمون ومتوحشون أو حتى مجانين. في مقابلة حديثة مثلاً، قال جون برينان، مدير {وكالة الاستخبارات المركزية} الأميركية، عن مقاتلي {داعش}: {هم إرهابيون ومجرمون ومضطربون عقلياً: إنهم قتلة يستعملون مفهوماً دينياً ويختبئون وراء تلك الحجج الدينية}.

لكن استنتج الباحثون أن صورة {العدو المجنون} ليست دقيقة، بل إنها تعكس تحيز الأفراد غير المنتمين إلى الجماعة: إنها واحدة من أقدم وأقوى النتائج الواردة في حوليات علم النفس الاجتماعي. هي تثبت أننا نفضّل الأشخاص الذين نعتبرهم جزءاً من جماعتنا وننحاز ضد كل من هم خارج جماعتنا. حين تتقاتل الجماعات، يترسخ التحيز الطبيعي ضد كل من هو خارج الجماعة بدافع الخوف والغضب.

على عكس النظرة التي نحملها عن الإرهابيين والمتمردين ومرتكبي أعمال القتل الجماعية، تبين أن معظم هؤلاء الأشخاص الذين خضعوا لاختبارات علمية يشبهون بقية الناس. لا يعني ذلك أن التورط في إبادة جماعية أو تفجير الذات وسط سوق مكتظ هو أمر طبيعي، لكن لا يدل هذا السلوك على اضطراب في الشخصية أو أي أمراض نفسية خطيرة أخرى. بل إنها حالة عقلية تكيفية يمكن أن يتبناها الأشخاص الأصحاء أيضاً. في ما يخص الجماعات الإرهابية الإسلامية، يقول أتران إن {معظم المتطوعين والداعمين الأجانب يدخلون في خانة ما يعتبره علماء الاجتماع التوزيع الطبيعي للصفات مثل التعاطف والتفهم والمثالية والرغبة في تقديم المساعدة بدل إيذاء الآخرين}. إنه إثبات على ما سمّته صاحبة النظريات السياسية هانا أرندت في منتصف القرن العشرين {تفاهة الشر} حين حللت الشخصية الطبيعية ظاهرياً للنازيين الذين ارتكبوا أعمالاً وحشية مريعة خلال الحرب العالمية الثانية.

يقول حمد الشيخ، عالم نفس في الكلية الجديدة للبحث الاجتماعي وأحد معاوني أتران وويلسون: {مقاربتنا هي مقاربة {تفاهة الشر}}. بدأ الشيخ يهتمّ شخصياً بالأصل النفسي للعنف الجماعي خلال نشوئه في ألمانيا: {لم أستطع أن أصدّق أن النازيين كانوا هؤلاء الأشرار الذين اجتاحوا البلد. دعم ملايين الناس العاديين هتلر وقد قابلتُهم. كانوا متعصّبين لانتمائهم. لكن خلال طفولتي، كانوا أشخاصاً مسنين ولطفاء وكانوا يصافحونني ويعطونني الشوكولاتة}.

لم يكن مرتكبو الجرائم خلال الصراعات مرضى نفسيين أعصابهم باردة كما كان الجميع يصوّرهم، بل إنهم كانوا يتمتعون بدرجة عالية وغير مألوفة من التعاطف. أجرى إيميل برونو، عالم أعصاب معرفي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، دراسات عن الآليات العصبية التي تنتج الأحكام المسبقة والتعاطف، واكتشف أن بعض الإرهابيين يسجلون مستويات تعاطف أعلى من المعدل. لكن يكون تعاطفهم القوي محصوراً بأعضاء جماعتهم. يوضح برونو: {لا تتعلق المشكلة بافتقارهم إلى التعاطف، إذ يرتفع منسوب التعاطف لديهم. لكنهم لا يوزعون ذلك التعاطف بشكل منصف}.

لماذا يتقاتل البشر؟

إذا لم يكن الإرهابيون ومرتكبو الإبادات الجماعية مجانين أو أشراراً بطبيعتهم، فلا يعني ذلك بالضرورة أنهم عقلانيون. إنه الخطأ الذي يرتكبه الجميع عند تحليل أعمال العنف الجماعية. يفترض قادة الدول المعاصرة أن خصومهم يسعون إلى توسيع مكاسبهم المادية وتقليص مشاكلهم. يقال إنهم يتجاوبون مع الحوافز ({سنقدم لكم الغذاء ومساعدات أخرى}) ويتجنبون العوامل المحبِطة ({سنفجركم!}). لكن لاحظ أتران الذي تحدث مع عدد كبير من الإرهابيين وتلقى على الأرجح تهديدات بالقتل أكثر من أي عالم اجتماع آخر أن هذا النوع من المساومات هو أشبه بلعنة بالنسبة إلى الناس في مناطق الصراع.

بل إنها لعنة بالنسبة إلى معظم الناس، لأن الأشخاص المنتمين إلى جميع الثقافات يحملون {قيماً مقدسة}، أي تلك المبادئ التي تكون أهم من أن تصبح محط تفاوض. قد تتخلى مثلاً عن يوم من عطلة نهاية الأسبوع للعمل مقابل جني المال. لكن إذا كان دينك يمنعك من العمل يوم السبت، كما عند اليهود، فلا يمكن أن يدفعك أي مبلغ من المال للقيام بذلك. يمكن اعتبار أي مفهوم مقدس (وطن، موقع ديني، وضع قانوني) لدرجة أن يُعتبَر الدفاع عنه بمثابة الاختيار بين الخير والشر بدل أن يتعلق بالتكاليف والفوائد.

سيؤدي التفاوض مع الأشخاص الذين يتصرفون بدافع أخلاقي إلى إثارة غضب الطرف الآخر بكل بساطة. في هذا السياق، كتب جيريمي جينغز، عالم نفس في الكلية الجديدة للبحث الاجتماعي، في دراسة نُشرت في السنة الماضية: {بغض النظر عن موضوع التفاوض (سواء كان يتعلق بحماية غابة مطيرة قديمة أو مدينة {مقدسة} أو حدود وطنية)، تبدو القيم المقدسة كافة مبنية على المحرمات التي تمنع المقايضات المادية}.

صحيح أن التمييز البشري بين القيم والتكاليف له طابع عالمي، لكن تختلف الصفات التي يمكن أن ننسبها لكل فئة. قد يستحق مفهوم معين احتراماً شديداً بالنسبة إلى أحد طرفَي الخلاف لكنه يكون بلا معنى بالنسبة إلى الطرف الآخر، ما يفسح المجال أمام وقوع سوء تفاهم أو تقديم عروض تزيد الخلاف سوءاً بدل تحسين الوضع. منذ بضع سنوات، أجرى أتران وزملاؤه دراسة شملت نحو 1400 إيراني، فكشفت أن 14% منهم يعتبرون حماية برنامج بلدهم النووي حقاً مقدساً.

الأسوأ من ذلك أن الطرفين قد يعتبران المفهوم نفسه مقدساً، ما يمهد لمواجهة مأزق جدي. هذا ما يحصل في عدد من المواجهات الشائكة حول العالم: تقاتل الهند وباكستان على كشمير، وتقاتل روسيا والحلفاء الغرب على أوكرانيا، والمثال الأوضح هو صراع إسرائيل والفلسطينيين على الأراضي المتنازع عليها. وفق دراسة أجراها الشيخ وجينغز وأتران في عام 2013، تبين أن 86% من الفلسطينيين يعتبرون {حماية حق الفلسطينيين بالقدس} قيمة أساسية بقدر {حماية العائلة} تقريباً وهي تساوي بأهميتها قيمة {الإنصاف مع الآخرين}. واعتُبر {حق العودة} (أي مطلب الفلسطينيين بالعودة إلى أراضي أجدادهم التي هربت منها عائلاتهم عند نشوء إسرائيل في عام 1948) مقدساً بحسب رأي 78% منهم.    

قد تبدو هذه النتائج محبِطة، لكن يعتبر الباحثون أن الاعتراف بالقيم المقدسة بالنسبة إلى الخصوم (حتى لو كانت تتعارض مع قيمنا الذاتية) قد يرفع نسبة نجاح المفاوضات لأن هذا الموقف يسمح للمفاوضين بتجنب المساومة على موضوع غير قابل للتفاوض، وغالباً ما يتجاوب الناس مع كل من يعترف بقيمهم المقدسة، حتى لو جاء ذلك الاعتراف على شكل مبادرة لا تُحدِث أي فرق ملموس. كتب أتران والعالِم السياسي روبرت أكسلرود منذ بضع سنوات: من خلال القيام {بتنازلات رمزية} ليس لها أي منفعة عملية (مثل الاعتذار عن خطأ سابق أو الاعتراف بحق الطرف الآخر بالتمسك بموقفه)، {قد يفتح المفاوضون المجال أمام حل الصراعات التي تبدو مستعصية}. في بعض الحالات، تكون قيمة الاعتذار أهم من أكبر المبالغ المالية.

من خلال التعمق بطبيعة القيم المترسخة، يمكن تجنب إهدار الوقت وإطلاق المواقف العشوائية. في النهاية، يدّعي كل طرف من أي خلاف سياسي أنه يناضل من أجل قضية جوهرية، سواء كانت تتعلق بأكل لحم الحوت في اليابان أو التجول بلا ملابس في سان فرانسيسكو. يمكن أن تميّز الدراسات الدقيقة حول مواقف الناس بين صدام القيم الحقيقي وبين موقفٍ يتبادل فيه القادة الخطابات النارية.

ومن خلال تقييم مدى قداسة قيمة معينة، يمكن تسليط الضوء على السلوك الذي كان يُعتبر تقليدياً غير قابل للتوقع أو القياس. هذا هو هدف ويلسون في دراستها الأخيرة في العراق، فقد كانت ترمي إلى اختبار طريقةٍ تستطيع توقّع {مدى الاستعداد للقتال}، أي روح التضحية بالذات والسعي الحثيث إلى تحقيق النصر، وهي النزعات التي تجعل مقاتلي {داعش} مثلاً مصمّمين لهذه الدرجة. يظن مسؤولون أميركيون أن هذا النوع من النزعات {يستحيل تقييمه}، كما قال الرئيس أوباما في السنة الماضية.

لكن اعتبر أتران وويلسون والشيخ أن الاستعداد للقتال يكون قابلاً للتقييم وحتى التوقع عند معرفة عاملَين: إلى أي حد يشعر الفرد بأن هويته الشخصية متداخلة مع هوية جماعية معينة، وإلى أي حد يظن أن القتال يحصل دفاعاً عن قيم مقدسة.

بفضل خليط من الصور والأسئلة، سألت ويلسون الرجال الذين قابلتهم في المقطورة عن حجم اقتناعهم بمختلف القيم والشعارات الجماعية ({الديمقراطية}، {الانتماء الكردي}، {العراق}، {الإسلام}). ثم طلبت منهم لاحقاً أن يقيّموا مدى استعدادهم للتضحية بالقيم والهويات التي تعني لهم الكثير. هل سيكونون مستعدين للموت، أو لقتل أي شخص، أو لقتل طفل؟ عند فرز هذه البيانات، قد تتوصل الأجوبة على تلك الأسئلة إلى استنتاج حاسم وقابل للقياس بشأن استعداد الشخص لخوض الحرب.

هل من علاج للصراعات؟

يُعتبر فهم طريقة تحول الناس إلى قتلة جماعيين وإرهابيين ومستغلين أو توجّههم إلى دعم الأعمال الهمجية عن بُعد نصف التحدي الحقيقي. أما النصف الآخر، فهو يتعلق طبعاً بفهم ما يدفع الناس إلى الخروج من تلك الخانة. لا ترتبط هذه المشكلة أيضاً بافتقارنا إلى النظريات، بل بوجود تفسيرات مفرطة لم تخضع للاختبار.

منذ بضع سنوات، حلل العالِم السياسي دونالد غرين من جامعة يال وعالمة النفس إليزابيث ليفي بالوك التي تعمل الآن في جامعة برنستون أكثر من ألف دراسة تهدف إلى تخفيف حدة الصراعات واستنتجا أن معظم المشاركين لم يتجاوزوا الاختبار العلمي. فكتبا أنّ {جزءاً صغيراً منهم قدّم أجوبة مقنعة على الأسئلة المرتبطة بالأسباب والظروف التي تضمن نجاح أي نوع من التدخل}، واستنتجا أن {الآثار السببية لعدد كبير من عمليات التدخل الواسعة التي تهدف إلى تقليص الأحكام المسبقة، مثل التدريب على تقبّل التعددية في مكان العمل والحملات الإعلامية، تبقى غير معروفة}.

سعت بالوك إلى تغيير هذا الوضع، فاختبرت في رواندا وشرق الكونغو الحملات المضادة للعنف بطريقة تشبه ما تفعله شركات تصنيع الأدوية لاختبار الأدوية الجديدة، أي عبر تجارب عشوائية وخاضعة للمراقبة. في ما يخص الدواء، يخضع مفعوله للاختبار على مجموعة من المرضى المنتقين عشوائياً قبل مقارنته بمفعول دواء وهمي أو دواء بديل أو من دون مقارنته بشيء، ضمن مجموعة عشوائية أخرى. إذا عاش المرضى الذين أخذوا الدواء التجريبي أكثر من الذين لم يأخذوه بمرتين، من المنطقي أن يشيد الباحثون بمفعول الدواء. لكن يصبح التحكم بالاختبار أكثر تعقيداً طبعاً حين لا يكون العلاج قرصاً ملموساً بل تكتيكاً نفسياً، وحين لا يكون المشاركون مرضى في عيادة تخضع للمراقبة بل أشخاصاً موزعين على مئات الأميال من المساحات الريفية. مع ذلك، أجرت بالوك تجارب لاختبار استراتيجيات التدخل في الصراعات وقد أثبتت بكل وضوح وجود علاقة سببية.

لنحلل عملها في رواندا حيث أقدم أعضاء من قبيلة الهوتو في عام 1994 على ذبح مئات آلاف الأشخاص من جيرانهم المنتمين إلى قبيلة التوتسي، فضلاً عن قتل أعضاء من قبيلة الهوتو لأنهم كانوا معتدلين أكثر من اللزوم. استعمل مقاتلو الهوتو الذين نفذوا الإبادة الجماعية الراديو (لأن جميع سكان رواندا كان يسمعونه) لبث رسالة مفادها أن جميع أعضاء قبيلة الهوتو من واجبهم أن يقتلوا عناصر التوتسي. لم تكتفِ الرسائل بنشر تعليمات مفصلة عن توقيت ومكان المذبحة وهوية الأشخاص الذين يستحقون القتل، بل إنها أعطت الذبح طابعاً عادياً. حصل ذلك جزئياً لأن سكان رواندا اعتادوا على سماع الراديو ضمن جماعات، لذا يتردد صدى أي رسالة يتم بثها وتزداد قوتها بسبب موافقة الشعب عليها. توضح بالوك: {إنها الظروف التي تعطينا لمحة فورية عن رأي الناس بمختلف المعايير}.

علاج ناجح

قد يكون إيجاد طريقة ناجحة مع 10% من السكان فقط أفضل سيناريو يمكن توقّعه. لا يظن برونو ولا بالوك ولا أي باحث آخر أن إيجاد علاج شامل لجميع الصراعات هو أمر ممكن. تقدم أبحاث بالوك حكاية تحذر من إمكانية تكرار علاج ناجح في ظروف مختلفة. في شرق الكونغو، حيث قُتل نحو 5.4 ملايين شخص منذ عام 1998، أطلقت بالوك تجربة مشابهة لتلك التي نجحت في رواندا ولكنها أعطت أثراً معاكساً هناك، فقد زاد غضب الناس وكرههم للأجانب. هي تبرر هذه النتيجة معتبرةً أن {إطلاق نقاش في ظل استمرار الصراع يختلف عن التناقش في حقبة ما بعد انتهاء الصراع}. لكنّ أهم درس توصلت إليه هو أنّ البحث عن طرق عامة للتلاعب بسلوك البشر لن يوصل الباحثين إلى أي نتيجة: {يفكر علماء الاجتماع مثل واضعي النظريات من حيث تعميم النتائج. لكن يجب أن يكون علماء النفس الذين يريدون معالجة المسائل الواقعية أقرب إلى تفكير المهندسين}.

يبدو احتمال إبعاد الناس عن أحكامهم المسبقة ودوافعهم الطبيعية أشبه بمهمة شاقة في قصص الخيال العلمي. من المدهش أن نتخيل سيناريو حيث يمكن تحديد وحذف أسباب الرغبة الانتحارية في القتال، وحيث يمكن قمع الحملات الترويجية التي تشجع على العنف الجماعي بفضل علاج مضاد تم اختباره بدقة، وحيث تساهم المواصفات النفسية في تصميم رسالة مثالية ومضادة للصراعات تستهدف مختلف المواقف المتحيزة لدى كل شخص. لا يزال الطريق طويلاً في هذا المجال ولا يتوهّم أي باحث بأنه سيكتشف حلاً سحرياً. لكن حتى الآن، يبدو أن تحليل هذه الاحتمالات عبر البحث العلمي سيقودنا نحو مستقبل أفضل من الناحية الإنسانية.

تجربة رواندا

وفق أحد المفاهيم الخاطئة والشائعة بشأن العنف الجماعي، يُقال إن ذلك العنف يتوسع لأن قناعات الناس تتغير: في هذه الحالة، يمكن اعتبار أن البث الإذاعي دفع أعضاء قبيلة الهوتو إلى تغيير رأيهم بشأن المسائل السياسية. لكن تفترض بالوك أن القناعات المتبدلة ليست المحرك الرئيس الذي يدفع الناس للمشاركة في الإبادات الجماعية. أدى البث الإذاعي إلى تغيير المعايير سريعاً، بمعنى أن المستمعين فهموا أنّ أبناء الهوتو الصالحين من واجبهم أن يقتلوا أعضاء التوتسي وحلفاءهم المزعومين.

بدل الاكتفاء بكتابة النظرية، قررت بالوك اختبارها على أرض الواقع. إذا كان الراديو قادراً على إعطاء هذا المفعول السريع لتشجيع الناس على ارتكاب إبادة جماعية، يعني ذلك أن الراديو نفسه يمكن أن يروّج للقيم الإنسانية مثل التسامح والمصالحة أيضاً. تقول بالوك: {في الأساس، فكرنا أننا نستطيع استعمال الراديو لعكس مسار تلك العملية}.

في رواندا، تبين أنها تستطيع استعمال {علاج} تجريبي جاهز. غداة الإبادة الجماعية، ابتكرت مجموعة من الكتّاب وشركات البث مسلسلاً إذاعياً طويلاً بعنوان {الفجر الجديد} وهو يتمحور حول جماعتين تناضلان للتعايش معاً. رغم عدم استعمال كلمتَي {الهوتو} و}التوتسي} في المسلسل لأن القانون الرواندي يمنع تجسيد الصراعات العرقية، كان يسهل على أي مستمع أن يكشف هوية الجماعتين فوراً. يتنافس أعضاء الجماعتين ويتعاركون في المسلسل، لكنهم يتحاورون أيضاً ويتحدثون ضد القادة الذين يطالبون باللجوء إلى العنف.

لاختبار النظرية القائلة إن الإصغاء إلى البرنامج يغيّر الناس، أقرضت بالوك أجهزة راديو إلى 12 قرية في أنحاء رواندا، وكلّفت كل مجموعة عشوائياً بالإصغاء إلى واحد من برنامجين: {الفجر الجديد} أو برنامج إذاعي {وهمي}. بعد سنة، عاد المسؤولون عن الاختبار إلى كل قرية وهم يحملون هدية (ستيريو محمول يمكن أن يحتفظ به الناس)، وهذا ما جعلهم مضطرين إلى اتخاذ قرار: كيف سيتقاسمون الراديو الجديد؟

كان الاختلاف بين الفئتين صادماً. قام الأشخاص الذين سمعوا البرنامج الوهمي بما كان سكان رواندا يفعلونه تقليدياً، فقالوا {لِنعْطِه لزعيمنا وهو سيتدبر أمره!}. لكن في القرى التي تلقّت {العلاج} (أي برنامج {الفجر الجديد})، حصل نقاش مفتوح. رفع أحد الأشخاص يده ليقول: {لكنّ زعيمنا لا يسمع الراديو}، أو {لِمَ لا نعطيه لإحدى النساء؟}. أظهرت التجربة أن البرنامج أثّر فعلاً بنزعة الناس إلى الرضوخ للسلطة، وهذا ما أدى جزئياً إلى ارتكاب الإبادة الجماعية في عام 1994.

مسوحات دماغية

أطلق برونو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تجربة مختلفة لاختبار فاعلية التدخل في الصراعات من خلال التركيز على العمليات الدماغية التي تنشّط التحيز والتعاطف ومراقبة طريقة تجاوب الناس مع الظروف التي تفرض عليهم التعاطي مع ألم الآخرين. يقول برونو: {إذا رصدنا إشارة عصبية تتطابق مع هذه العمليات، سنتمكن من قياس هذه النزعة بشكلٍ لا يمكن فعله بأي طريقة أخرى، وستسمح لنا هذه المقاربة بتقييم أثر التدخل الذي يهدف إلى تخفيض مستوى التحيز}.

في الماضي، كان برونو قد أجرى مسوحات دماغية لبعض الفلسطينيين والإسرائيليين اليهود، فضلاً عن المهاجرين المكسيكيين والأميركيين البيض في أريزونا. يدقق الآن بالأنماط العصبية لدى الهنغاريين في محاولةٍ لمحاربة أحكامهم المسبقة ضد الغجر. من خلال إنشاء قاعدة أساسية لقياس طريقة تنشيط التعاطف في الدماغ، يمكن أن يوفر علم الأعصاب وسيلة لاختبار مدى فاعلية الاستراتيجية المستعملة لبث التعاطف، كذلك قد يثبت أن الاستراتيجية الفاعلة بالنسبة إلى البعض لا تنجح مع البعض الآخر. ومن خلال معرفة طريقة عمل التعاطف واللامبالاة في أدمغة أشخاص مختلفين، يمكن تصميم عمليات تدخّل استناداً إلى أثر التحيز الفريد من نوعه لدى مختلف الأفراد. يوضح برونو: {في مجال العلوم، غالباً ما نستبعد بعض العوامل نظراً إلى غياب أي أثر قابل للقياس بين السكان. لكن إذا نجحت المقاربة المستعملة مع 10% من السكان، فيعني ذلك أن هؤلاء الأشخاص سيستفيدون من متابعة استعمالها}.

back to top