فؤاد المهندس... أستاذ الكوميديا ومهندس الضحك (3)

نشر في 05-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 05-07-2015 | 00:01
لعبة الموت تتكرّر وتؤجل حلمه
يوماً تلو الآخر كان الريحاني يتيقن من موهبة فؤاد المهندس، وأنه يستحق عن جدارة بطولة العرض المسرحي الجامعي الذي تطوع لإخراجه. من جانبه، بذل فؤاد كل ما لديه من جهد سواء في حفظ الدور أو المداومة على حضور التمارين، وكان أول الحضور للمسرح وآخر المنصرفين منه.

وفي المنزل كان فؤاد يواصل التدريب على دوره منفرداً في غرفته أو أمام أفراد عائلته، خصوصاً والدته التي ألزمها المرض الفراش، وكان فؤاد يحاول التخفيف عنها، مرات بتمثيله لدوره الضاحك، وأخرى عبر {قفشاته الضاحكة} أو بتقليده الريحاني، أحب النجوم إلى قلبه.

فؤاد: مش تشدي حيلك بقى يا نينة لازم تخفي بسرعة علشان تشوفيني على المسرح.

الأم: إن شاء الله يا ابني.

فؤاد: بس اوعي توقفي المسرحية تاني والنبي.

الأم: ياه يا فؤاد أنت لسه فاكر.

فؤاد: أنا أقدر أنسى، لسه فاكر طبعاً كأنه إمبارح.

الأم: أنت على كده بقى لسه شايل جواك وزعلان.

فؤاد: يا خبر يا نينة وهو أنا أقدر أزعل منك، ده أنت رضاك عليَّ بالدنيا كلها، أنا بس نفسي تيجي تشوفيني على المسرح وتسمعي الناس وهي بتسقف لي، ده الأستاذ نجيب مبسوط مني جدا، وبيقولي قدامك مستقبل كبير.

الأم: ربنا يوفقك يا ابني وينجح مقاصدك.

فؤاد: يعني حتيجي يا نينة تتفرجى عليَّ.

الأم: بمشيئة الله يا ابني.. ربنا يحينا بس.

وكأن أم فؤاد كان {مكشوفاً عنها الحجاب} وتدرك أن أيامها أو ربما لحظاتها بالدنيا تكاد أن تكون معدودة. فبعد أيام عدة اشتد عليها المرض حتى غيبها الموت في أهم يوم في حياة فؤاد، يوم تتويجه بطلاً على خشبه المسرح، اليوم الذي طالما حلم به ورسم ملامحه في خياله.

لحظات تفصل بين الحياة والموت، وهي نفسها التي انتظرها فؤاد طويلاً قبل أن ينتزع من الجميع اعترافاً بموهبته ونجوميته، وفي مقدمهم والدته التي حاولت مراراً إبعاده عن هذا الطريق قبل أن تستسلم في النهاية وترفع {الراية البيضا}، إلا أن اللحظات نفسها تلك هي التي أضاعت حلمه أو بتوصيف أدق أجلته. ففي صبيحة يوم التتويج تدهورت الحالة الصحية لوالدته، وبعد دقائق فاضت روحها إلى بارئها.

لعبة الموت

شلَّت الصدمة والحزن تفكير فؤاد، لم يتذكر إلا والدته وغرق في حزنه عليها ونسى تماماً العرض المسرحي، والذي كان سيبدأ بعد ساعات قليلة. وعلى الجانب الآخر، كان الريحاني يراجع بنفسه مجمل التفاصيل الخاصة بالعرض قبل افتتاحه رسمياً من موسيقى وإضاءة وخلافهما، متعجباً من عدم حضور فؤاد والذي كان دوماً يسبقه إلى الحضور.

الريحاني متعجباً لمساعديه: غريبة؟ مش بعادة فؤاد يتأخر كده، ده كان أول واحد بيجي؟ يا ترى في إيه؟ أكيد في حاجة شديدة أخرته.

وما هي لحظات حتى فوجئ الريحاني بأحد أعضاء الفريق وكان يسكن إلى جوار فؤاد، يدخل عليه المسرح ويخبره بما حدث.

لم يتمالك الجميع أنفسهم من الصدمة التي لحقت بهم، خصوصاً لدرجة أن الريحاني بكى حزناً على تلميذه ومصابه الأليم، لا سيما في اليوم الذي انتظره طويلاً.

كانت عقارب الساعة تقترب من موعد فتح الستار ولا بد من استكمال العرض المسرحي في موعده، خصوصاً أن الفنان يوسف وهبي سيكون من بين الحضور ولا يمكن إلغاء العرض لغياب المهندس. حتى فوجئ نجيب الريحاني بأحد الشباب يتقدم إليه، ويخبره بأنه يحفظ الدور جيداً، وأنه كان يتابع التمرينات، ويتدرب عليها مع نفسه، لأنه كان يتمنى أن يكون بطل المسرحية.

وأسقط في يد الريحاني، فالوقت المتبقي لا يسمح بتدريب آخر، ولا يمكن بالطبع الاستغناء عن دور فؤاد أو حتى تقليص مساحته، لأنه كان بطل العرض والأحداث كلها تدور حوله، وعليه قبل الريحاني اختبار الشاب {المنقذ} الذي حاز في النهاية على قبوله بعدما اجتاز أكثر المشاهد صعوبة وحده، فقرر إسناد الدور إليه، وبدأ تدريبه عليها، ومتابعة التفاصيل الأخرى كافة بعدما كان مهدداً بالإلغاء.

أقيم العرض، ولم يشارك فيه فؤاد المهندس بسبب مصابه الأليم الذي منعه من الوقوف على المسرح، والمشاركة في العرض الذي حاز استحسان الحضور، فيما فاجأ الريحاني الجميع، وفي مقدمتم لجنة التحكيم، برغبته في اختيار المهندس كأفضل ممثل شارحا الظرف الذي منعه من الحضور، وهي التوصية التي لاقت استحسان اللجنة، وقررت بالفعل منح الجائزة للمهندس، فكانت بمثابة نوع من التعويض المعنوي الذي كان في أمس الحاجة إليه. صحيح لا يوجد ما يمكن أن ينسيه حزنه على رحيل أمه وافتقاده إليها، ولكنه اعتبرها محاولة من أستاذه لإدخال السعادة على قلبه.

دراسة عملية

تخرج فؤاد المهندس في الكلية بعد وفاة والدته بعدة أسابيع، وخلال هذه الفترة وما تلاها زاد تعلقه بأستاذه نجيب الريحاني فكان أقرب إلى ظله، يرافقه يومياً في عروضه المسرحية، ويساعده في عمله، بدءاً من التحضير للعمل، انتهاء بخروجه إلى النور، مروراً بالتمرينات وتوجيه الممثلين واختيار الموسيقى المناسبة والإضاءة، وكل ما يتعلَّق بتفاصيل العمل المسرحي. باختصار، كان فؤاد كمن يدرس المسرح دراسة عملية أفادته لاحقاً، خصوصاً أن عمله الصباحي والذي التحق به كموظف في إدارة رعاية الشباب بالجامعة لم يمنعه من الاهتمام بالمسرح أو بالأحرى يجذب انتباهه بعيداً عنه.

أدَّت الظروف دوراً كبيراً في إعداد فؤاد فنياً خصوصاً مسرحياً، فعمله في الجامعة أتاح له أن يعيش وسط الكتب بمكتبة الجامعة، وأن يقرأ كثيراً عن المسرح وتاريخه، وكيف يمكن للمخرج أن يقدم عملاً ناجحاً، فكانت هذه الفترة أقرب لدراسة مكثفة عن المسرح، نظرياً في الصباح من خلال قراءاته المنتظمة عن المسرح وعملياً في المساء عبر مشاركته  ومساعدته في عروضه والاقتراب من عالمه.

على مدار عام كامل، كان فؤاد المهندس غارقاً في المسرح بتفاصيله العملية والنظرية كافة، خصوصاً أن الريحاني قدم في تلك الفترة ثلاث مسرحيات مختلفة، تابع فؤاد تفاصيل خروجها إلى النور، وكيف تم تسكين كل فرد من أفراد الفرقة ليقدم شخصية في المسرحية، أيضاً أضيف لها قيام المهندس بممارسة الإخراج عملياً، ولأول مرة من خلال  عروض جامعية أخرجها في هذه الفترة.

الطريف أن المهندس، ورغم قربه الشديد من الريحاني، فإنه حرص على ألا يستغل علاقته به، ويطلب مشاركته أحد هذه العروض، هو لم {يتمنَّع} وكان يتمنى بالطبع. الأهم أنه كان حريصاً ألا يطلب فرصة لا يستحقها، خصوصاً بعدما اقترب من الريحاني، وعرف جيداً أنه لا يختار ممثلاً في دور لا يستحقه. وفعلاً، كانت الأدوار المهمة كافة لا يصلح فؤاد لها، لذا لم يغضب من أستاذه حتى فوجئ به يقول له:

الريحاني: أنا عارف أنك كل مسرحية بتتوقع مني أرشحك في دور، وبيخيب ظنك لما.

قاطعه فؤاد قائلاً: إطلاقاً يا أستاذنا، أنا يكفيني أني جنبك بتعلم منك، وده عندي أهم من أي دور.

الريحاني: أنا عارف بس كمان عاوزك تعرف إني الفترة اللي فاتت كنت بختارلك رواية كويسة أقدمك من خلالها، لأن كل الروايات اللي فاتت مكنش فيها دور يناسبك.

فؤاد فرحا: بجد يا أستاذ؟

الريحاني بحسم: بجد يا فؤاد، وقريب جدا حنبدأ البروفات بس بديع خيري يخلص كتابتها.

وبات فؤاد يحلم بهذه اللحظة التي يقف فيها على خشة مسرح الريحاني ممثلاً وأحد أعضاء فرقته، لم يكن مهتماً بطبيعة الدور وهل سيكون بطولة أم لا، كان يكفيه أن يشارك أستاذه أحد أعماله المسرحية، لذا راح يعد الأيام والأسابيع وصولاً إلى الحلم المنتظر.

ولكن مرة ثانية يحسم {الموت} مصيره، ويؤجل حلمه، فقد مات أستاذه قبل أن يطلق موهبته في عالم الاحتراف.

تُوفي الريحاني بشكل مفاجئ في الثامن من يونيو عام 1949 بعدما قدم آخر أعماله فيلم {غزل البنات}، فقد أصيب بمرض التيفوئيد الذي كان سبباً في وفاته، وقدم خلال مسيرته الفنية ما يقرب من 40 عرضاً مسرحياً ونحو 10 أفلام و6 أوبريتات.

ليدخل المهندس مجدداً دائرة الحزن، خصوصاً أنه لم يكن من أصحاب العلاقات بالوسط الفني، ولم يختلط كثيراً بزملاء الريحاني، أو أي من أفراد فرقته، رغم  تواجده بينهم يومياً، فعلاقته بالأستاذ كانت تكفيه أو بالأحرى تغنيه عن الجميع.

بكى المهندس على رحيل الريحاني بصدق وظلَّ حزيناً لفترة، لدرجة أنه لم يكن يخرج من منزله لعدة أيام انقطع خلالها حتى عن عمله، وفي المرات التي اضطر فيها إلى الخروج كان يفاجأ بنفسه يقف أمام مسرح الريحاني ما يعيده إلى الأحزان.

وضاع الحلم يا ولدي

خلال إحدى المرات التي ساقته فيها أقدامه إلى مسرح الريحاني، فوجئ بإعلان مذيلاً بتوقيع المسرحي بديع خيري شريك الريحاني ليس في فرقته المسرحية فحسب، ولكن في مشواره الفني أيضاً، لم يكن إعلاناً باستئناف نشاط الفرقة عبر {رواية جديدة} فحسب، ولكنه إعلاناً بميلاد بطل جديد للفرقة هو الفنان الراحل عادل بديع خيري، والذي دفع به والده لبطولة عروض فرقة الريحاني المسرحية

وقد ترك عادل خيري بعد ذلك بصمة مهمة فعلاً في تاريخ المسرح الكوميدي ومن أشهر مسرحياته {إلا خمسة}، والتي شاركته بطولتها الفنانة الكبيرة ماري منيب، التي كانت سبباً في نجاح عروض الفرقة، فتوالت أعماله معها في {30 يوم في السجن}، و{لو كنت حليوة}، و{أحب حماتي}، و{الشايب لما يدلع}، و{كان غيرك أشطر}، و{ياما كان في نفسي وقسمتي}، و{استنى بختك}، و}حسن ومرقص وكوهين}، كذلك أخرج عدداً من مسرحيات الفرقة بالتناوب مع سراج منير وعبد العزيز أحمد، حتى تُوفي في ريعان شبابه في الثانية والثلاثين من عمره وذلك عام 1963.

بكى فؤاد على {حال الدنيا} وحاله أيضا، على حلمه الذي تبدد وقتل في المهد، بينما سيتألق على الخشبة نجم جديد.

لم يعرف فؤاد هل تجاهل بديع ضمه إلى الفرقة عمداً أم سهواً. لم يهتم بالبحث عن إجابات حائرة، وقرر منذ هذه اللحظة غلق ملف {الريحاني} نهائيا وللأبد، فقط يبقى على ذكرياته معه، ومحبته له، وعلمه الذي قرر الانتفاع به في حياته لاحقا.

 انخرط فؤاد في مساعدة فرق التمثيل بالجامعة عبر إخراج عدد من المسرحيات للطلبة كل عام، وبالفعل حقق نجاحا كبيرا خلال تلك الفترة، حتى ذاع صيته كمخرج ناجح وسط الطلبة الذين سعوا لاستقطابه من أجل إخراج أعمالهم المسرحية.

لم يكن فؤاد المهندس يشعر بالسعادة إلا من خلال عمله المسرحي الذي كان يقضي فيه ساعات طويلة، فيما اعتبره الطلاب بمثابة {تميمة الحظ {، حيث كانت تحصد أعماله دوما المراكز الأولى.

انشغل فؤاد بالمسرح الجامعي حتى أخبره زوج شقيقته الإذاعي بابا شارو، أن الإذاعة في حاجة لفنانين جدد يشاركون في البرامج والمسلسلات التي خططت الإدارة لتقديمها، وعليه رشحه للتقدم واجتياز الاختبارات لثقته بموهبته وإيمانه بها.

فعلاً، اجتاز فؤاد الاختبارات بجدارة، وبعد فترة قصيرة تم ترشيحه للعمل ببرنامج {ساعة لقلبك}، الذي تحوَّل في وقت قصير ليكون أشهر برنامج إذاعي كوميدي يقدم عبر الإذاعة المصرية.

كان البرنامج، والذي انطلق عام 1953، نقطة تحول في حياة فؤاد المهندس، أو بتعبير أدق انطلاقه بعالم الفن، فقد ذاع صيته، وحقق انتشاراَ كبيراَ من خلاله، وبدأت العروض الفنية تنهال عليه ليس وحده فقط، ولكن معظم من شاركوا في هذا البرنامج كتبوا من خلاله شهادة ميلادهم الفنية.

والغريب أنه مع نجاح فؤاد المهندس الباهر في {ساعة لقلبك}، حاول بديع خيري استقطابه للعمل في فرقته، إلا أنه رفض الانضمام إليها، رغبة منه في شق طريقه الفني بعيداً عن {جلباب الريحاني}، إذ إن العروض التي تلقاها من خيري كانت إعادة تقديم مسرحيات الريحاني، ما اعتبره المهندس قتلاً مبكراً لموهبته بالدخول في مقارنة محسومة لصالح أستاذه الذي كانت أعماله ما زالت محفورة في وجدان وذاكرة عشاقه.

لكن المهندس ظل لسنوات عدة ومن باب الوفاء لذكرى أستاذه، يقدِّم إحدى مسرحيات الريحاني في ذكرى وفاته لإحياء مسيرته الفنية، وكانت تعرض لليلة واحدة، ودوماً تكون كاملة العدد.

أصبحت شخصية محمود «الزوج الطيب» التي قدمها المهندس من خلال برنامج «ساعة لقلبك»، بمشاركة الفنانة خيرية أحمد الزوجة المناكفة، على كل لسان في المحروسة. لم يعرف الجمهور في تلك الفترة ملامح وجهه، ولكنهم تعرفوا إلى موهبته التي لم تبقَ طويلاً «وراء الستار».

back to top