كامل الشناوي ... شاعر الليل (15) ... رسائل الحب والحياة

نشر في 02-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 02-07-2015 | 00:01
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا بالأمس فقط... كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.
 {جرأتي راحت

... ولا أعرف أين

بسمتي ضاعت

... ودمعي بين بين

الهوى خجلان

.... رامي الوجنتين

وحنيني لك

... مكتوف اليدين

أنا لا أشكو

... ففي الشكوى انحناء

وأنا...

نبض عروقي كبرياء}

دخل كامل الشناوي عامه السابع والخمسين كما يدخل الكهل شيخوخته، تكاثرت عليه الأمراض، وساعدها على ذلك بنمط حياته الموغل في الفوضى والسهر والنهم للطعام دون تقدير عواقب، مرة من وعكة كبرى واثنتين، وغادر سريرا في مستشفى ليستقر في سرير من دون جدوى، ليس من العلاج، لكن من سلوكه الذي لم يحتم به جسده الذي كانت الصدمة الكبرى أنه يعاني من {السكر والكبد والالتهاب الرئوي وتسمم الدم}، وكان يقول لأصدقائه:

- {قال لي طبيبي إن نسبة السكر في دمي قد ارتفعت بصورة تدعوني إلى الحيطة والحذر، وأخذت منه قائمة الأدوية، وأحسست وأنا أضعها في جيبي أن رصيدي من الأدوية قد تضخم، وهكذا أصبح لي رصيدان بلغا الضخامة والجسامة أقصى الحدود... رصيدي من الأدوية... ورصيدي من الديون}.

 ورغم ذلك كله ظل يسرف في الممنوعات من طعام وسهر ومجهود يصاحب كل هذا، مع عدم قدرته على الالتزام ببرنامج يحتوي الآثار السلبية لبدانته، ويقلل وزنه. وقبل عيد ميلاده الأخير، غافل أصدقاءه الذين كانوا يجهزون للاحتفال، دخل المستشفى، وتحلق الأصدقاء حول سريره، وكان من بينهم محمد عبد الوهاب وزوجته نهلة القدسي التي وعدت كامل بأن تنظم له سهرة بديعة للاحتفال بعيد ميلاده بعد شفائه، وأن تدعو كل أصدقائه، فرد الشاعر الممد على سرير المرض:

- {هذه المرة سيطول الرقاد}  

نجاة كامل

اختفت صفحته التي كان يحررها في جريدة {الأخبار}، وحلّ محلها تقرير خبري كبير تحت عنوان:

- {نجا كامل الشناوي من الموت بمعجزة... قال المفتي: كان الأمل واحدا في الألف}.

و}المفتي} هو الدكتور أنور المفتي الطبيب الشهير وقتها، ونقلت القصة أن كامل الشناوي يرقد الآن في حجرة بمستشفى {قصر العيني}، بعدما اجتاز مرحلة الخطورة... إنه لا يعلم حتى الآن كيف فتح عينيه، ليجد نفسه محاطا بالأطباء وأحدث الأجهزة العلمية، ثم يسأل: أين أنا؟ ثم يستنتج أنه في المستشفى، ثم يسأل لماذا جاء إلى {قصر العيني؟} وكيف جاء؟

يجد حوله أصدقاءه من كبار نجوم الغناء والموسيقى والشعر والأدب والصحافة، مصطفى أمين لا يطلب من المحررين خبراً جديداً، لكنه يطلب منهم البحث عن أنبوبة أوكسجين... الدكتور أنور المفتي الذي يعرف حالة الشناوي جيدا هو الذي طلب ذلك، وإحسان عبد القدوس لا يعرف ماذا يفعل، وعبد الحليم حافظ يقف مرتبكاً، ومحمد حسنين هيكل لا يرفع يده عن إدارة قرص التليفون لتوصيله بكل المسؤولين، وبعدها يذهب إلى المستشفى، وعندما يرى الشناوييبكي من شدة التأثر... وهو بين حين وآخر يتحدث وكأنه يسارع بتأكيد معنى لحياته:

- {أنا لا أخشى آخرتي... لأنني أتصورها أكثر جمالاً وفناً وخيراً وحقاً من الدنيا، لقد كنت في شبابي أتهيب لقاء الله، لأنه لم يكن عندي من مؤهلات اللقاء ما يشجعني على أن ألقاه، كان إيماني شعوراً فقط، وقد أصبحت بحمد الله جديراً بأن ألقى ربي في كل لحظة، فأنا أؤمن به بفهم... وأفهمه بإيمان}.

الحب والحياة

وقبل أن يكتمل العام 1965، كان يلقى ربه، تاركاً تجربة عريضة وواسعة كشاعر وصحافي وفنان ومفكر وفيلسوف وإنسان، تراثه وثروته في كلماته ورسائله وأسئلته عن الوجود والحب والحياة.

قال كامل الشناوي:

- لماذا استشعر الكآبة دائماً... لماذا أحس احتراقاً يلهبني ويكويني، كلما فكرت وحدي، وما أكثر ما أفكر وحدي، لقد ظننت أن سر ما أعانيه هو هذا الصراع الطبيعي القائم في كياننا نحن البشر، الصراع بين الجسد والروح. الجسد يحاول أن يقهر الروح، والروح تحاول أن تقهر الجسد، وكل الناس مثلي في هذا الصراع، ولعلي في ذلك أسعد حظاً من غيري، فقد استطعت بحكم السن والمرض ودمامة الشكل، أن أعقد هدنة بين جسدي وروحي، وما أقل الذين استطاعوا ذلك.

- الناس جميعاً يتمنون أن تطول أعمارهم، هذه هي القاعدة، وقد يشذ عنها بعض المفكرين والفلاسفة وهواة الانتحار، ولست والحمد لله واحداً من هؤلاء، ومع ذلك فإني كثيرا ما أتساءل: هل طول العمر نعمة أم عقوبة؟ الموت ليس مشكلة... الحياة هي المشكلة.

- إنني أحب الجمال ولو تحول إلى خنجر يسكن ضلوعي، يجول فيها، ويتلوى ويقفز، أحبه في فكرة، كلمة، لوحة، نظرة، إشارة، شروق، ضباب، حقيقة، خيال، بحر هائج، رياح عنيفة، نسيم ضعيف، نغمة تنساب من حنجرة، آلة موسيقية، أو... كعب حذاء.

- أحياناً تنتابني حيرة لا أستطيع معها أن أحزن أو أفرح... لأن الأيام التي تنقضي من عمري تزيد من سني، وتجربتي، وثقافتي، وانفعالي بالجمال، فكيف أحزن على النقص، ولا أفرح بالزيادة... إنني دائماً زائد وناقص.

- هل ألعنها أو ألعن الزمن؟ كانت تتخاطفها الأعين فصارت تتخاطفها الأيدي، إنها كالدنيا... لا تبقى ولا تتجدد إلا إذا خرج من حياتها ناس، ما أكثر الذين شهدتهم وهم يغادرون، وما أكثر المواليد الذين رأيتهم وهم يطرقون بابها.

- افهميني على حقيقتي، إنني لا أجري وراءك، ولكني أجرى وراء دموعي، وأنفاسي، وخلجات نفسي، أريد أن أستردها بعد ما خسرته على مائدة الحب. تماماً كما يفعل المقامر الذي يخسر أمواله، ويبرر خسارته بسوء الحظ، ولا يخطر بباله أن من يلعب معهم لصوص، وأنهم كلما لاعبوه تضاعفت خسارته، العبي مرة ولن أبالي سوء حظي... ولكن لا تسرقيني.

- لماذا تحاولين أن تدمري يأسي منك، بعدما تبدد أملي، إنك لا تريدين لي أن أستريح، لقد أصبح التنكيل بطمأنينتي هواية تمارسينها بخفة وبراعة.

أي خاطر شقي أغراك بأن توقظي تليفوني من غفوته التي استمرت ثلاثة أشهر، لقد أحسست وأنا أستمع إلى صوتك في التليفون، إنك تحرقينني بنبراتك التي تشعل النار في مشاعري كلما سمعتها أو تذكرتها... ولكنك لن تستطيعي أن تحرقي قلبي، فلقد احترق ولم يبق منه إلا الرماد.

دعي تليفوني... إنك لا تديرين أرقاماً، ولكنك تديرين رأسي وتلهبينه... هل تريدين بعدما أحرقت قلبي، أن تحرقي رأسي أيضاً؟

ترفقي يا طفلتي... يا حبيبتي... يا حريقي.   

- حبيبتي... اغفري لي هذه الحماقات... اغفري لي حبي ووفائي، واصفحي عن قلبي المسكين، فقد أحب بلا قصد ولا عمد ولا سبق إصرار، وانسي كل التفاهات الكثيرة التي طالما خدشت بها أذنيك معبراً عن ألمي وغيرتي. فما كان لي أن أتألم، ولا أن أغار، وما كان لي أن أدع شعوري بالألم والغيرة يطرق سمعك الرقيق الذي ما تعود غير كلمات الرياء والثناء الخادع.

لا تظني بي السوء، فما كنت سيئاً ولا شريراً... كل ما هنالك إني أردت أن أرفع روحي إلى سمائك فوجدتني في الهاوية، ولست أدري هل أخطأت الطريق إلى السماء فهويت، أم أنك لم تكوني قط في السماء؟

- حبيبتي... إني أكاد أفنى فيك خجلاً وحياء كلما تذكرت كلمات الطهر والبراءة والقداسة التي أتعبتها من طوال ما مرت بشفتي، ولم تستطع الكلمات ولم تستطع شفتاي أن تجعلها تتجاوز فمي إلى أذنيك... لقد كنت أطمع أن أكون في مكان الإعزاز من نفسك، واخجلتاه من هذا الغرور، ولكن يعزيني أنه لم يدم طويلاً، فلقد عرفت في وقت قصير أني لن أكون في هذا المكان، لا لأنه لا يوجد في قلبك، بل لأن قلبك ليس له وجود.

- حبيبتي... ما أكبر حزني، لقد تخيلت أن هذه الابتسامات، وهذا الحنان، وهذه الرقة تخصيني بها وحدي، ولم أدرك أنها صورة معروضة أمام جميع الأنظار، وكتاب منشور للقراء، أنت كالوردة لا تضن بعبيرها على من يزرعها في حديقته، ولا على من يسرقها من حديقة الجيران.

طالما اتهمتك بالدهاء في المعاملة ولباقة التصرف وكياسة السلوك، أبداً لست كذلك... إنما أنت دمية جميلة صنعت هكذا ولا حيلة لها في نفسها، ولا ضير عليك، وإنما الضير على أولئك الذين ظنوك مخلوقاً يحس ويعقل... ولكن كيف لا تكونين دمية؟ وهذا الجمال كله، أيكون من صنع بشر؟ أأنت من صنع إنسان؟

كلا بل خلقك الله كما خلق الشيطان والأفعى... ولقد أحببت من أجلك كل شيطان وأفعى،  ولست آسفاً... والحزن الذي سيطر على نفسي، سأعرف كيف أمسحه بدموعي.

- حبيبتي... لقد أحببتك من قلبي، وكرهتني من قلبك. منحتك دمي ووقتي وعقلي، ثم كشفت لك صدري لأتلقى أوسمة رضاك، فرشقت مكان الأوسمة سهاماً مسمومة... لقد فتحت لك ذراعي لتملئي بوفائك ما بينهما من فراغ، فإذا أنت تملئين هذا الفراغ غدراً وحقدا.

- حبيبتي... كيف بكيت من عتابي؟

لأول مرة في حياتي أرى القسوة تبكي. أذهلني أن أرى الروح الكثيفة تستشف الألم وتتأثر.

لعلك مظلومة، ولكن لماذا تلجئين للصمت وراء الدموع؟

لماذا لا تتكلمين؟ فربما قاومت الأقدار التي كتبت لك الغدر، وكتبت لي الوفاء.

أصارحك بأني ضعفت أمام دموعك... ضعفت أنا وبقيت المشكلة قوية كما هي... بل أقوى.

- حبيبتي... أتعجبين حقاً من أنني أعيد سماعة التليفون إلى مكانها بمجرد الاستماع إلى صوتك...

ألا تعرفين السبب؟

إذن فلأصارحك... فما زلت على خطتك الهابطة وأسلوبك الملتوي... إنني أسمع صوتك فيخيل لي أنك تخاطبين شخصاً آخر، لا صدق ولا عاطفة، بل لا صوت، وإنما هي أصداء حديدية في آلة من حديد.

- حبيبتي... التي عذبتني سنين وسنين، إنك تفكرين بعقلك، ولا أدري هل أنت ذكية أم غبية، كل ما أدريه أن عقلك كبير وشرير، فهو يريد أن يجعل من القيم والمعاني طريقاً تدوسينه بقدميك الرشيقتين، وتصلين به إلى غايتك.

وما هي هذه الغاية؟ أن يحبك الناس جميعاً... وأن تكرهيهم جميعاً، صدقيني إنني لا أغار إلا من إنسان تخصينه بحبك... وأنت لا تخصين بالحب إلا ذاتك.... فهل أغار منك؟

صدقيني... لا.

- إن الحب مثل القانون، يحمي البرئ ويتعقب المجرم، وقد كان يحميك فأصبح يتعقبك... تعالي... لا تخافي أن تذكريني بالماضي... إنني عندما أراك لا أغوص في أيام ذهبت، ولكني أتسلق ما بقي لي من أيام.

ليس في حياتي ماض وحاضر ومستقبل، حياتنا فترة واحدة هي الماضي، الأمس مضى واليوم يمضي وغداً سيمضي، تعالي ولا تترددي فلم يبق من عمري ما يسمح بأن تترددي.

- إن قلبي لا يطيق أن يتسكع في ضلوعه بلا عمل، ولذلك فهو حريص على ألا يعتزل الحب، حتى لا يتعرض للبطالة... دائماً في مشاعري همس جديد، لذيذ، غامض، أحاول أن أتبينه، فتحجبه عنى ثرثرة التجارب وفضول الذكريات.

- هي كتمثال من ظلال وأحاسيس، وأضواء تفننت الطبيعة في صنعه، وبعدما دارت حوله، واطمأنت إلى روعته، أزاحت عنه الستار، لتفتن الناس بجماله وبالقدرة التي صنعته. ما لهذا التمثال الرقيق لا يكتفي بالوقوف أمام عيني، إنه يتحرك في مشاعري يهزها، ويثيرها فأهيم به، ولكني لا أستطيع أن أوجه إليه كلمة من كلمات الغزل، إن المؤمنين بالله يحبونه ويحبون جميل صنعه، وقد أصبحت في سن لا تسمح لي بغير الإيمان}.  

- تمهلي أيتها الأيام، لا تدفعيني في طريقك بهذه السرعة المجنونة، إنني لا أجري ولا أمشي، ولكني أحفر بخطواتي القبر الذي سيضمني.

- ما أشبه طريق حياتي ببيتي، نصفه مفروش والنصف الآخر خال من الأثاث، أتلفت ورائي فأجد الأيام تغطي طريقي. وأنظر أمامي فأرى الطريق عارياً إلا من يوم أراه ويوم لا أكاد أراه.

يا شقوتي من طريقي... يثير خوفي كلما تقدمت خطوة، ولا أستطيع أن أرجع إلى الوراء فهذا محال.

هل أقف مكاني وأتجمد حتى لا أصل إلى العراء الذي ينتشر كالظلال القاتمة؟ إن الوقوف والتجمد كليهما موت، وأنا لا أخاف الموت لكنني لا أسعى إليه.

- أيها الليل، يا حبيبي... ألم يعد لنا مكان نلتقي فيه إلا غرفة نومي؟ أين الشوارع والملاهي والفنادق؟ أخرجني من بيت كما كنا نفعل أيام الشباب، واسهر معي حتى أرى أصدقاء عمري، السحر والفجر والصباح.

أيها الليل، يا حبيبي... اترك عناء نومي للنهار.

- قفي أيتها الأيام... إنك لا تقطعين طريقاً، ولكن تقطعين عمري، استريحي وأريحيني، فقد ظللنا نجري معاً أكثر من بضعة وخمسين عاماً... ولكن كيف نتوقف عن المشي؟ إن معنى ذلك أن نموت، وأنا أتشبث بحياتي، وهي مهما ترهقني... أحبها، إننا نبكي منها، وإذا هددتنا بالتخلي عنا، بكينا على أنفسنا.

ما أعجب العمر... إنه الشيء الوحيد الذي إذا زاد نقص.

- أصبحت ساعتي مثلي، أصابتها الشيخوخة، فقدت توازنها، تريد أن تسير فنقف، تحولت دقاتها المنتظمة إلى سعال متقطع... كل يوم يبذل الساعاتي معها، ما يبذله الطبيب معي، ولكن الزمن أقوى من الساعاتي... ومن الطبيب.

حاولت التخلص منها، فماذا أصنع بها؟

آه من يوم أرى فيه الناس يحاولون التخلص مني... لأني أصبحت مثل ساعتي.

- إذا كانت الحياة حقيقة، والموت حقيقة، فأين نحن البشر من الحقيقتين؟

هل نحن أحياء ننتظر الموت؟ هل نحن موتى تركنا مرحلة الحياة؟

ولكن... لماذا نسأل عما لا جدوى في أن نجهله أو لا نجهله؟

ليتني أعجز عن استخدام هذه الكلمات {لماذا، كيف، فيم، علام} فإنها شواكيش تطرق رأسي كلما حاولت أن أعرف من أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟

- أفكاري التي تؤرقني تتمنى أن تغفو على وسادة... إننا في حاجة إلى كل الناس، حتى لو كان إنساناً تافهاً أو أحمق، إن الناس هم الأردية التي نلبسها في الحياة، فبينهم رابطة العنق التي تزين الصدر، وبينهم الحذاء الذي يحمي القدمين من الحفاء.

- أمضيت يومي كله وحدي، أردت أن أجرب... هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا ناس، قرأت كتاباً وسمعت أغاني، وموسيقى، ولكني لم أتصل بأحد ولم يتصل بي أحد، خيل إليّ وأنا هكذا وحدي، إني مريض أتولى بنفسي زيارة نفسي، ولم أشأ أن أثقل على المريض بالزيارة الطويلة، فغادرت البيت... واختلطت بالناس.

- إن التجارب علمتني أن المرض مثل العمر، سر غامض، وقد عرفت أناساً كانوا يأكلون بنهم ولم يمرضوا، وأناساً كانوا يأكلون بحذر وظلوا طوال حياتهم مرضى.  وأنا لا أحشى الموت فقد واجهت ما هو أصعب منه... الحياة نفسها.

- ما دام الموت يتعقب حياتنا، وما دمنا لا نعرف من نحن... فإن المجانين وحدهم هم الذين يضحكون للحياة.

ويا لها من بلاهة... أن نطمئن على المريض وهو بين يدي الأطباء، ونخاف عليه إذا أصبح بين يدي الله.

- لا أدري... هل أشعر بالانقباض لأني أعزي في ميت أو لأني أشعر بأن المقعد الذي أجلس عليه لأعزي اليوم، سيجلس عليه غيري غداً ليعزي أهلي في موتي.

الموت

ولكن كيف نفكر في الموت وما زلنا أحياء؟ وهل نستطيع أن نفكر فيه بعد ما نصبح موتى؟

إن العقلاء هم الذين لا يفكرون في الموت... وعبثاً أحاول أن أكون واحداً من العقلاء.

- أحب أن يقرأ الجميع كتاباً ألفته... فما بالك بهذا الكتاب الضخم الفخم الذي ألفه الله وسماه الدنيا... هل يسر الله ألا يقرأه أحد بحجة أنه ناسك أو زاهد أو راهب؟ إن من يظنون ذلك يعانون أمية في الإيمان.

- البشر كالأنبياء... والفرق بينهما أن الأنبياء معصومون من الخطأ... أما البشر فمعصومون من الصواب... والدنيا تتسع لمن يغمضون قلوبهم وعيونهم ويغلقون آذانهم وعقولهم... ولكن الآخرة لن تتسع لهؤلاء أبداً، فما جدوى أن يبعث في العالم الآخر، من لم يحسوا ما في العالم الأول من عظمة وجمال.   

                                          

- أنا ابن هذه الدنيا التي خلقها الله، ولم أغمض عنها عيني لأني أدركت عظمة هذا العمل الفني الإلهي... فإذا اختارني لآخرته، فسأكون جديراً بهذه الآخرة، بعدما دخلت تجربة الدنيا ويا لها من تجربة.

- كل ما كان لم يكن... وأنا لم أعد هنا.

back to top