جولات في الشرق 12: صوفيا لين بول في منزل {شبرا} المسكون

نشر في 29-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 29-06-2015 | 00:02
تستكمل الكاتبة البريطانية صوفيا لين بول شقيقة المستشرق الإنكليزي المهموم بالشأن المصري، إدوارد وليم لين، قراءتها لعوالم المصريات، منتصف القرن التاسع عشر، وتكتب في كتابها «حريم محمد علي باشا» قصصهن من وجهة نظر غربية، وتتأمل المفارقات الكبيرة والمدهشة التي كانت نساء مصر يعشنها قبل نحو مئتي عام من الآن.
الكاتبة ـ التي زارت القاهرة عام 1842 ـ تمكنت من رؤية عالم الحريم، حيث لا تمنع التقاليد الشرقية المرأة الأجنبية من دخول جناح الحريم، أو معرفة ما يمكن معرفته عن عالم النساء في مصر، بين عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر.
 تغوص الكاتبة البريطانية صوفيا لين بول بقدميها في حكايات القاهرة وحواديت ناسها، حتى أعمق نقطة ممكنة وهي البريطانية التي جاءت في رحلة إلى الشرق استجابة لضغوط من أخيها الراغب في معرفة كل شيء عن الواقع المصري، وكانت هي وسيلته الوحيدة، لمعرفة أسرار الحريم في مصر، سواء كن حريم النبلاء أو حريم البسطاء.

الزيارة تمت نحو عام 1842، خلال فترة حكم محمد علي لمصر، وبينما ركزت في الحلقتين السابقتين على وصف رحلتها من الإسكندرية إلى القاهرة، لكنها في هذه الحلقة تركز في فترة الإقامة الأولى في القاهرة، حيث سكنت مع الأسرة، في بيت بشبرا قبل أن تنتقل إلى منزل آخر قالت إنه منزل جيد، لكن واجهت فيه الأسرة البريطانية الكثير من المتاعب، مستخدمة المثل الشعبي المصري الذي يقول :{الحلو مايكملش».

تقول الكاتبة إنها رأت بشراً كثيرين في «مالطا» و{الإسكندرية» وظنت في البداية أنها لن تجد شيئاً مختلفاً في مصر، ثم تعود وتكتب في رسالتها إلى صديقتها الإنكليزية، قائلة : «لقد كنت مخطئة، لأن غرائب هذا المكان «تقصد القاهرة» وسكانه فاقت كل توقعاتي، إن طريق شبرا يمر على مرأى من نوافذ المنزل الذي أقمنا فيه، ويحلو لي مشاهدة المواكب المتعددة التي تأخذ طريقها من المدينة وإليها». 

رأت من نافذة هذا البيت مواكب عرس وجنائز، كانت تمر أمام البيت فتنظر إليها من النافذة، وكانت مواكب العرس تثير ضحكها أكثر من أي شيء آخر نظراً إلى ما فيها من مفارقات رأت أنها مثيرة للضحك، تقول: «يضحكني موكب العرس الذي تسير فيه العروس المنقبة الملتفة بشال عريض تحت قطعة من الحرير، وتقف بجانبيها امرأتان، وأفراد القبيلة يعبرون عن سعادتهم بأداء حركات بهلوانية أمام «الموعودة»، ناهيك عن أطفال الجيران الذين يشاركون أيضاً في الهرج والمرج في مؤخرة الموكب، وأشفق على العروس التي تكاد تختنق دون ريب، وهي تسير لمسافة قد تطول أحياناً على قدميها تحت وهج شمس الظهيرة المحرقة، في حالة تشبه الإغماء من شدة الإعياء، تسير العروس وحولها بعض 

«الآلاتية»، يدقون الطبول وينفخون المزامير حادة الصوت، فتنبثق أصوات يظنونها أنغاماً موسيقية، وفي الوقت نفسه تطلق النساء المرافقات الزغاريد النشاز التي تصم الآذان». 

وتتوقف أمام المواكب الجنائزية، فتقول إنها كانت تصيبها بالحزن، إذ تحمل جثة الرجل المتوفي في نعش مفتوح، لا غطاء عليه سوى شال يظهر من تحته شكل جسد الميت بوضوح، أما جثة المرأة فكانت لحسن الحظ تحمل في نعش مقفل يغطيه أيضا شال، تقول: «كما يغطي شال آخر قطعة قائمة من الخشب، يعلوها بعض ما تزين به المرأة غطاء رأسها، وجثث الأطفال تحمل على مثل هذا النوع من النعوش». 

تتوقف الكاتبة لأنها امرأة أمام بكاء أم نائحة على ولدها الميت، في إحدى هذه الجنائز، تقول: «سمعت مرة صوتاً لن أنساه أبداً عند اقتراب موكب جنائزي، كان صراخ حزن عميق، عبرة من قلب جريح متميزة بين «ولولة» النائحات المأجورات اللاتي يصاحبن الجوقة الجنائزية، هرعنا إلى النوافذ ورأينا رجلاً يتقدم موكباً من النساء، ويحمل بين ذراعيه جثمان طفل صغير ملفوف بشال، ينقله هكذا إلى مثواه الأخير، لا شك في أن صرخة الألم المبرح عصرت من قلب أم ثكلى يوشك أن ينفطر، هناك حقيقة أؤكدها دائماً، وهي أنه لا يوجد حب يفوق في قوته وعمقه، حب الأم لولدها والولد لأمه». 

«المز» و{الخُف»

 

في بداية إقامتها في القاهرة، تقول الكاتبة إنها اكتشفت أنها لن تتمكن من زيارة «حريم النبلاء» إلا بعد أن تتقن اللغة العربية، فقررت بعد تفكير عميق تأجيل زياراتها المعتزمة لحريم النبلاء إلى أن تتقن إلى حد ما اللغة العربية، على الرغم من أن اللغة التركية هي المستعملة عادة في هذه الأماكن، لكنها تقرر أن الجميع هنا يفهم العربية، وحيث إنها اللغة السائدة في مصر، قالت إنها لابد أن تتعلمها بداية لتتمكن من تحقيق الهدف المنشود. 

وعلى الرغم من ذلك، لم يتمكن شقيقها من الحصول على مسكن ملائم لعائلته التي تتكون من زوجته وشقيقته «الكاتبة» وولديها. تقول في إحدى رسائلها: «لقد وجد أخي صعوبة شديدة في الحصول على مسكن ملائم رغم المساعدات الكريمة من أصدقائنا، الذين شملونا برعايتهم، كما أنني اكتسبت بعض الخبرة عن عادات وتقاليد الحريم من سيدتين سوريتين، عرضتا بكل لطف أن تكونا عونا لنا بشتى الطرق، وأخيراً وبعد طول البحث على مدى شهر بأكمله وجدنا ضالتنا، منزلاً مناسباً جداً، نقطن فيه الآن، ولكن الحلو لا يكتمل، وبسبب مشكلة غاية في الغرابة، نجد أنفسنا مضطرين للبحث عن سكن آخر في أقرب فرصة ممكنة، المنزل في الواقع ممتاز، وهو تجديد لبناء قديم، ولهذا سوف أصفه لك ليكون لديك فكرة عن المساكن الراقية في القاهرة، كما أن تصميمه الداخلي سوف يوضح لك سبب المتاعب التي تعرضنا لها». 

وأخذت الكاتبة في وصف المسكن، الذي يعتبر نموذجاً للبيت التقليدي في مصر، خلال القرنين الماضيين: «الدور الأرضي مكون من فناء مفتوح للسماء، تحيط به حجرات ترتفع لعدة طوابق، وبه خمس حجرات، الكبرى منها لاستقبال الضيوف من الرجال، تسمى «المندرة» في وسطها نافورة ماء، ثم غرفة الشتاء، وأخرى صغيرة للنوم، ينزل بها الضيوف من الرجال، بعد ذلك مطبخ وغرفة صغيرة للخدم، على يمين باب الشارع تماماً مدخل الحريم الذي يقود إلى درجات، تؤدي إلى حجرات النساء، وباستثناء حجرات الدور الأرضي يعتبر البيت بأكمله «الحريم» في الطابق الأول غرفة مرصوفة بالرخام، سقفها مفتوح من جهة الشمال، وبه ميل إلى أعلى مما يساعد على دخول نسمة عليلة إلى المكان، هناك أيضاً خمس حجرات أخرى بهذا الطابق، اثنتان رئيسيتان، تنقسم الأرض في كل منهما إلى قسمين، الجزء الأكبر أي حوالي ثلاثة أرباع المساحة يرتفع بنحو خمس أو ست بوصات، أما الجزء المنخفض فمرصوف بالرخام، ويترك فيه «الخف» الخارجي ـ حذاء ـ ليظل الجزء المرتفع المغطى بالبسط طاهراً غير مدنس، ويلبس في القدم بالإضافة إلى الجورب نوع من «الخف الداخلي» يصنع كله من الجلد المراكشي الأصفر اللون الناعم ويسمى «المز»، أما الخف الخارجي الذي لا كعب له فيطلق عليه «البابوج»، وكثيراً ما ينزلق هذا البابوج من قدمي وسوف يظل ينزلق لأنني لن أتعود أبداً مهما حاولت على طريقة السير بجر القدمين كما تفعل نساء هذا البلد، وعند ارتداء ملابس الخروج أو الركوب يبدل «المز» بجوارب عالية من الجلد المراكشي وفوقها «البابوج» كالمعتاد ولونها دائماً أصفر فاتح». 

 

«عفريت» 

 

تنتقل الكاتبة، بعد وصفها لمزايا البيت، إلى موضوع شديد الأهمية في التراث المصري، وهو موضوع الخرافات التي تسيطر على عقول كثير من بسطاء المصريين، حيث اصطدم وعيها الأوروبي العلمي ـ إلى حد كبير ـ بصورة الخرافات التي تملأ وعي أهل الشرق، على هيئة «عفريت» قال الخدم الذين استأجرهم أخوها، إنه يسكن في حمام المنزل الذي يسكنون فيه، ويريد أن يزعج كل ساكن لهذا البيت.

تقول: «بعد قضاء بضعة أيام هنا، دهشنا حين علمنا أن الخدم لا يستطيعون النوم ليلاً بسبب طرق متواصل وظهور «عفريت» أو روح شريرة أو شبح، في صبيحة يوم، أزعجنا صوت شجار تحت نوافذنا وعندما استفسر أخي عن السبب من أحد الخدم أجابه: «الأمر ليس ذا بال يا أفندي، ولكن الموضوع وما فيه هو أن الحمام يسكنه «عفريت». أردف أخي وهو العليم الخبير بمعتقدات المصريين: «وهل رأيت حماماً في الدنيا لا تسكنه العفاريت؟».

تستكمل الكاتبة الحكاية على لسان الخادم الذي قال إن العفريت يقيم في المنزل منذ زمن بعيد، وأنه لن يسمح لأي ساكن أن يبقى دون أن يزعجه، وأنه لا يسمح ببقاء أحد أكثر من شهر واحد، مشيراً إلى أن الشخص الذي عاش قبلهم في البيت لم يستطع البقاء سوى حوالي تسعة أشهر لأن العفريت كان يؤرق نوم أسرته طول الليل.

تقول الكاتبة إنهم في بداية الأمر كانوا يظنون أن الضجيج الذين يسمعونه ويقلق نومهم، يرجع لمظاهر الابتهاج التي كان يعبر بها جار لهم، عن سعادته بمناسبة عرسه، تقول: «كانت الاحتفالات غاية في الإفراط والإسراف ربما لأن العريس كان كهلاً عجوزاً، وعروسه كانت صبية يافعة»، لكنهم أصيبوا فعلياً بالذعر بعدما سمعوا صوت ثلاث طلقات مدوية من سلاح ناري، رنت في أرجاء المنزل وأثارت فزع الكبير قبل الصغير وأصبحت القضية بحاجة إلى تدخل.

تكتب الكاتبة لصديقتها الإنكليزية عن كارثة «العفريت» قائلة: «بعدما بحثنا في الموضوع، علمنا أن الرجل الذي كان يمتلك هذا البيت في الماضي والذي وافاه الأجل منذ فترة، كان أثناء إقامته هنا قتل بائعاً متجولاً في فناء الدار كما قتل جاريتين، إحداهما كانت زنجية وقضي عليها في الحمام، ليس من المستغرب إذن أن يكون لمثل هذه القصة التي تبدو واقعية أثر فعال في أناس اعتادوا على الإيمان بالخرافات والخزعبلات، مع الأسف إن أخي كان يجهل هذه الحوادث حينما استأجر المنزل، ولو علم بها لأدرك أنه من المستحيل التغلب على المعتقدات خصوصاً لدى الطبقة السفلى، وأنه من المحال أن تظل عندنا خادمة في مثل هذه الظروف».

تروي الكاتبة تطورات الموقف، وتقول إن البواب طلب من أخيها ترك المنزل، لكن أخيها رد عليه قائلاً:{دعنا ننتظر بضع ليال أخر، وإذا ظهر العفريت هذه الليلة، استدعوني في الحال»، تقول إن أخاها هدأ من روع الخادمين ووعدهما بالبحث عن سكن آخر، إن لم تكف المضايقات في منزل شبرا الغريب الأطوار، وتقول: «ليس بالأمر الهين العثور على منزل مناسب خارج وسط المدينة، إذ نرى من الضروري للحفاظ على صحة ولدي أن نسكن في غرب المدينة بالقرب من الضواحي حيث الهواء نقي وصحي، وحيث نفذ أمر إبراهيم باشا بإزالة أكوام القمامة من مساحات واسعة من الأرض وزرعها بأشجار مختلفة مثل الزيتون والنخيل والسرو والسنط وغيرها، وهذه المزارع مفتوحة للجمهور ومناسبة جداً لنزهة الأطفال». 

{لالا زار}

على الرغم من أن الكاتبة تعتبر نفسها في بلد غريب، فإنها كانت من اللحظة الأولى معنية تماماً وإلى أقصى حد بالدخول في تفاصيل الحياة المصرية، التي عاشتها مواطنة إنكليزية تبحث عن إقامة مريحة في القاهرة، لكنها لم تكن تتصور أبداً أن تأتيها المضايقات من كائنات خرافية في هذا البلد الشرقي.

تكتب لصديقتها وقد سيطر عليها الغيظ: {فاتني أن أذكر لك أن الرجل الحقير عديم الضمير، الذي كان في الماضي يمتلك هذا البيت كان – ربما تكفيراً عن جرائمه – قد أوقفه على مسجد، بشرط أن يظل في حوزة مالكته الحالية {لالا زار} طوال حياتها، وهنا يخطر ببالي حادثة لم نكن نفهمها حينذاك، ففي اليوم السابق لانتقالنا هنا، أرسلنا أحد الخدم ليستأجر بعض النسوة لتنظيف البيت تحت إشرافه، وحينما وصل رفضت صاحبة البيت (واسمها لالا زار، أي حوض الزنبق) أن تسمح له بالدخول، قائلة: ارجع إلى الأفندي، وأخبره أنني أخبز بعض {القرص} في فرن المطبخ لأحملها باكراً إلى القرافة، وأوزعها على الفقراء والمساكين عند قبر المرحوم صاحب البيت الأصلي، وهذا عمل خير من أجل سيدك ومن أجلي أنا، وسوف يقدر سيدك هذا.. مسكينة، واضح أنها كانت تأمل أن يكون عمل الخير هذا بمثابة كفارة تمنع بها أي مضايقات لمستأجريها وبالتالي، الخسارة المادية لها}. 

تستمر مضايقات العفريت غير المتوقعة، تقول الكاتبة، فبعد يومين فوجئوا بقصة غاية في الغرابة، حين أخبرهم البواب بصوت مرتجف من الفزع أنه لم يذق طعم النوم إطلاقاً، لأن العفريت كان يطوف طوال الليل في الشرفة الداخلية بالقبقاب ـ حذاء منزلي ذو نعل خشبي ـ وأنه طرق بابه عدة مرات بقطعة من الحجر أو شيء صلب، تقول: {هنا بادرناه بالسؤال، لماذا لم يستدع أخي، كان الرد حاضراً، خوفاً من العفريت الذي كان يتجول في الشرفة ليلاً، يطرق بعنف كل باب يقابله، تكررت هذه الأصوات عدة ليال، وكثيراً ما كانت تبدأ في المساء قبل أن نأوي إلى فراشنا، لم نكتشف الجاني مما جعلني أخاف على ابني، لم أكن أخشى أي أذى جسماني، قدر ما خشيت الضرر النفسي والجنوح إلى الخرافات والخزعبلات التي تفسد العقل البشري أيما إفساد}. 

حادث غريب، يجعل هذا البيت المسكون قصة مثيرة للأسى حقاً، حيث عثروا في صباح عدة أيام متتالية على خمس أو ست قطع من الفحم ملقاة أمام الباب المؤدي إلى غرف النوم، يدل هذا، بحسب المعتقدات السائدة في مصر إلى الآن، على الدعاء بأن يحل الشر علينا، مثل قول {فلتسود وجوهكم}.

تقول الكاتبة: {الشيء الوحيد الذي يريحني في هذه الظروف المزعجة أن ولداي يعتبرانها دعابات، تثير الضحك ويعتقدان أن هناك شخصاً أو عدة أشخاص أشرار أعجبهم المنزل بدرجة جعلتهم يصرون على اقتنائه وطرد أي سكان فيه بواسطة الأصوات المزعجة والمضايقات المختلفة، ولكن الأمر أكثر جدية بالنسبة للمسكينة {لالا زار} فواضح أن تركة المالك السابق لن تكون أبداً ذات فائدة لها أو للمسجد، وسوف تندهشين حين أخبرك أن إيجار هذا المنزل لا يتعدى اثني عشر جنيهاً في السنة، والمنزل فخم، يفوق بكثير سائر المنازل الأخرى مما جعل أهل البلد يطلقون عليه اسم {بيت الأمير}. 

back to top