جولات في الشرق 11: صوفيا لين بول: القاهرة مدينة تسكنها {العناكب}

نشر في 28-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 28-06-2015 | 00:02
تغوص الكاتبة البريطانية صوفيا لين بول، شقيقة المستشرق الإنكليزي المهموم بالشأن المصري إدوارد وليم لين، في عالم النساء المصريات منتصف القرن التاسع عشر، وتكتب في كتابها «حريم محمد علي باشا» قصة النساء المصريات من وجهة نظر غربية، حريصة على تأمل المفارقات الكبيرة والمدهشة التي كانت تعيشها نساء مصر قبل نحو 200 عام.

وتمكنت الكاتبة، التي زارت القاهرة عام 1842، من رؤية عالم الحريم، حيث لا تمنع التقاليد الشرقية المرأة الأجنبية من دخول جناح الحريم، أو معرفة ما يمكن معرفته عن عالم النساء في مصر، بين عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر.

وقلنا في الحلقة السابقة إن المستشرق الإنكليزي إدوارد لين استطاع أن يقنع شقيقته صوفيا بأن تأتي بصحبة ولديها إلى القاهرة، لترى بعينيها عالم الحريم في مصر، وتكتبه على هيئة رسائل إلى صديقتها المقيمة في إنكلترا، والذي صدر عدة مرات تحت عنوان «حريم محمد علي باشا – رسائل من القاهرة (1842 – 1846)»، وهو ترجمة ودراسة د. عزة كرارة.

وامتازت عائلة لين بول بالاهتمام المباشر بالقاهرة والشرق عموما، حيث أنجبت إلى جوار إدوارد وصوفيا ستانلي لين بول، صاحب الكتب المهمة عن مصر وأبرزها «سيرة القاهرة»، و«مصر في القرن التاسع عشر» وغيرها.

في الحلقة السابقة، قالت الكاتبة في رسالتها الأولى إلى صديقتها الإنكليزية، إنها شاهدت في رحلتها من الإسكندرية إلى القاهرة مصريات كثيرات يمشين برشاقة ويحملن «الجرار» فوق رؤوسهن، على شواطئ النيل، وكثير من المصريات يغسلن «الصحون» والملابس على الترع والشواطئ التي مرت عليها سفينتهم التي يستقلونها.

وبينما لاتزال الكاتبة تُبحر مع القافلة في النيل، بالاتجاه إلى القاهرة، تقول في رسالتها الثانية إنها مرت بقرية كفر الزيات، التي كان يسودها هرج ومرج بسبب كثرة مريدي مولد الشيخ الصوفي الشهير السيد البدوي، ومقره مدينة طنطا (شمال القاهرة)، وهم يرسون بها في طريقهم إلى طنطا. 

وذكرت أنهم رسوا في بلد صغير قرب كفر الزيات، وظلوا هناك طوال الليل، وفي الصباح وجدوا أنفسهم محاصرين بعدد كبير من «الجواميس»، تقف في الماء، إذ إن النيل ضحل جدا في هذه المنطقة، كما تنتشر فيه الكتل الرملية المتحركة التي تسبب جنوح الزوارق بصفة متكررة.

وتعود الكاتبة إلى مديح الملاحين المصريين، الذين ينزلون في الماء ويبعدون السفينة الجانحة والزوارق التي تعطلت بسبب التصاقها بالطين أو بمناطق قاحلة، تصف الكاتبة كيف يدفعون المركب بظهورهم وأكتافهم، وحين تسكن الريح، يقوم الملاحون بسحب السفينة.

وتقول إن هذا حدث عدة مرات، أثناء رحلتهم: «حيث كان الملاحون العشرة، الذين يتكون منهم طاقم سفينتنا ينزلون إلى الشاطئ يجرونها بالحبال، ولا يبقى معنا على ظهر المركب سوى الريس، ومن المدهش حقاً أن نرى حسن إنجازهم لهذا العمل الشاق في قيظ شهر يوليو، ولا يتوقفون للراحة إلا نادراً ولفترات وجيزة، ومن عادة الملاحين أن يغنوا أثناء سير السفينة بمصاحبة الموسيقى البدائية للدربكة والمزمار، ولقد وجدت شيئا مريحاً جدا للنفس في هذه الأغاني مع غرابتها بالنسبة لنا، فهي تنم عن سعادة دفينة، تتجلى في نبرات أصوات المغنين، وهذا شعور ينعكس على من يسمعهم ويؤثر فيه».

وزادت الكاتبة انه من أكثر أنواع المراكب شيوعا في مصر، هي تلك التي تعرف باسم «الخنقة»، والتي تستخدم في النقل والنزهة، وهي طويلة وضيقة وبطيئة السير، لها ساريتان وشراعان كبيران مثلثا الشكل ومقصورة منخفضة تنقسم عادة إلى وحدتين أو أكثر بنوافذ صغيرة مربعة، بها ستائر خشبية أو زجاجية وأيضا مصاريع، تنزلق من الداخل. 

وتضيف: «من دواعي القلق الذي كان ينتابنا في سفينتنا، انتشار الحشرات والبق والبراغيث، لقد كنت قلقة حقيقة على ولدي الصغيرين، اللذين قاسيا الأمرين منها، بصبر ومرح، زاد من إشفاقنا عليهما، وكنت بسببهما أتمنى العودة إلى بيتنا المريح، ولا شك في أن استخدام الناموسية أثناء الليل يخفف المتاعب إلى حد ما، لكنها لا تزيلها كلية، إنها ضرورية جدا لمنع هجوم الزواحف الكبيرة أما بالنسبة للبق والبراغيث فلا ينفع معها أي محاولات وقائية». 

لا ترصد الكاتبة في رسائلها لصديقتها الحياة المصرية الفقيرة، أو حياة البسطاء فقط، فهي تستعد لرحلة داخل بلاط باشا مصر، خصوصا في غرف الحريم، لكنها وهي تسير في نهر النيل ترصد مراكب الأتراك الأغنياء في مصر، بنوع من الحسد على مراكب الأغنياء المرفهين، تقول: «تبدو مراكب النبلاء الأتراك غاية في الأُبهة، إذ تزين ألواح أبواب القمرات من الداخل ومن الخارج برسومات تمثل باقات من الزهور بألوان مختلفة، كما يرفرف العلم الأحمر الزاهي بالهلال ونجمة أو ثلاث نجوم بيضاء على مؤخرة السفينة، في حين تبدو المراكب الأخرى أبسط وأقل رونقا، لكن منظرها أيضا رائع». 

 

الطاعون

 

وتكمل الكاتبة رسالتها بالإشارة إلى أنه لا يمكن لأحد أن يتجاهل حالة الهدوء الإنساني التي تتمتع بها الحياة على ضفاف النيل، حيث تبقى مناظر مجموعات «النخيل الشامخة الأنيقة»، لتضفي دائما طابعا مميزا وجميلا على الريف المصري، وهو الطابع الذي لايزال يميز المناطق الريفية التي لم تطلها يد التمدين حتى الآن، و»تبدو القرى غريبة المنظر بأكواخها التي يتوج كل منها برج حمام مخروطي الشكل، أقيم باستخدام العديد من القدور الفخارية، وارتفاع الواحد منها يضاهي غالبا ارتفاع الكوخ نفسه».

وتستمر الكاتبة في الإعجاب بالريف المصري في هذا الزمن البعيد، وبمشاهد مساحات شاسعة من المزروعات تتخللها أشجار النخيل العالية، وهي الصورة الذهنية المحفوظة في الذاكرة الإنسانية حول مصر منذ زمن بعيد، تقول: «لا أستطيع أن أذكر شيئاً عن جمال ضفاف النيل، فهي ترتفع في أغلب الأماكن عمودية، وتحول لذلك دون الرؤية، أما من ناحية الدلتا فالضفة منحدرة تريح العين بخضرتها، لكنها مملة ليس بها أي تنوع، لا تظني أني أريد الاستهانة بالمنظر لكن لابد أنك سمعت أن ضفتي النيل تبدوان في أبهى جمالهما شهرا بعد أن تنحسر مياه الفيضان، تاركا الطمي الخصب يملأ رحاب الوادي، فيغطيهما ببساط سندسي وضاء، كما تتوج الجزر الصغيرة في مجراه بالخضرة المتألفة... لكن رحلتنا صادفت وقت فيضان النهر».

بعد كل هذا الإعجاب، تنتقل الكاتبة إلى رصد ظاهرة مؤسفة في نهر النيل قبل مئتي عام، وهي ظاهرة وجود حيوانات نافقة تطفو على صفحة النهر، وتنتقل إلى الحديث عن طاعون يصيب الماشية، قبل أن ينتقل إلى البشر في وقت لاحق، حيث عانى المصريون على مدار المئتي سنة السابقة من انتشار الأوبئة في المناطق الريفية، تقول: «لاحظنا العديد من جثث الماشية تطفو على سطح الماء أو ملقاة على شاطئ النهر، إذ ينتشر في مصر في الوقت الحاضر نوع من الطاعون الحاد، الذي يصيب الماشية، ولقد دام أكثر من ثلاثة أشهر وذكرنا بالطاعون أيام موسى عليه السلام».

وتحدثت الكاتبة أيضاً عن ظاهرة السراب، المرتبطة بالأجواء الصحراوية، وتأسفت على هؤلاء الذين راحوا في متاهة الصحراء بسبب هذه الظاهرة، تقول في رسالتها: «لمحنا السراب عدة مرات أثناء رحلتنا، وكاد صفاء مائه المضلل يبدد الوهم، فالنيل عادة عكر خصوصا في هذا الوقت، فبأي شطط من الخيال يمكن تصور وجود بحيرة صافية المياه بالقرب من هذا النهر، لقد كانت فعلا ظاهرة غريبة ومثيرة، تحرك المشاعر الأليمة حينما نفكر في العديدين من الذين هاموا في الصحراء، وذاقوا مرارة خيبة الأمل من جراء هذا الخداع».

بدأت لهجة الكاتبة في التغير كلما اقتربت نسبيا من القاهرة، حيث يفترض أن تقيم في مسكن مريح، تتخلص فيه وأسرتها من أعباء السفرة الطويلة في مراكب النيل، وسط الحشرات الطائرة والزاحفة والأجواء غير النظيفة للريف المصري.

تقول إنهم ما إن اقتربوا من القاهرة حتى بدأوا يهنئون أنفسهم، على سلامة الوصول، استعدادا لرحلة على ظهر حمار للانتقال إلى بيت قاهري، تقول في رسالتها الثانية لصديقتها: «في صباح اليوم التالي، أمكننا أن نلمح الأهرامات الجليلة التي لم تكن واضحة بسبب موجات الهواء الساخن المتراكمة على سطح المنبسط، الذي يفصلنا، كانت على بعد ثلاثة فراسخ، وقد وصلنا بعد قليل إلى ميناء بولاق، هو الميناء الرئيسي بالقاهرة، وعند وصولنا اضطررت أنا وزوجة أخي أن نرتدي الملابس الشرقية، وقد وجدنا هذا التبديل صعباً جدا، وعند إتمامه شعرنا باختناق لا يمكن أن ننساه، تخيّلي أن الوجه يُسدل عليه بإحكام خمار من الموسلين، المزدوج في الجزء الأعلى منه، ولا يظهر إلا العينين، وفوق رداء حرير ملون غطاء من الحرير الأسود، يحيطني من كل جهة، كنت مكبلة تماما باستثناء عيني اللتين نظرتا بفزع إلى العتبة العالية التي يجب أن أتسلقها وإلى الحمار الواقف فوقها الذي يجب أن أمتطيه، لا يوجد إطلاقا رداء ركوب أقل ملاءمة وأكثر عرقلة من هذا الرداء، ولو كان باستطاعتي الوصول إلى بغيتي دون لبسه لكنت فعلت، ولكنه من المستحيل أن أقتحم حريم النساء بملابس أفرنجية، علاوة على علمي أن المسلم يعتقد أن اللعنة تحل على «الرائي والمرئي»، لهذا أنا حريصة على ألا أعرض أي مار في الطريق لما يعتبره خطيئة، أو أعرض أنفسنا للقذف واللعنات». 

فلاحة البساتين

تنتقل الكاتبة إلى بعد آخر من أبعاد ملاحظاتها الثاقبة، وهي شكل شوارع القاهرة وحالة بساتينها التي لم تكن في هذا الزمن -منتصف القرن التاسع عشر- يمكن مقارنتها ببساتين بلادها «إنكلترا» وإن كانت ترى أن الحالة العامة لشوارع القاهرة يمكن أن تتحسن لو تم الاهتمام بشوارعها وبالبساتين التي يمكن أن تغير شكل المدينة.

لا تنسى أن تقول لصديقتها إن بعض الشوارع القاهرية التي مرت بها مع أسرتها كانت «مكتظة بالأهالي»، وانهم حين وصلوا إلى مقر إقامتهم المؤقت اكتشفوا أنه منزل لطيف، تحيط به الحدائق، ورأت بأم عينيها أشجار النخيل الرشيقة، محملة بالثمار، وأشجار السنط والموز والبرتقال والليمون، وأيضا أشجار الرمان والكروم، واعتبرتها تعكس حالة من «التنوع البديع»، على حد وصفها، لكنها سرعان ما اكتشفت أن كل هذه المزروعات لا ينقصها لتصبح رائعة سوى الحاجة الماسة إلى الماء المنعش، تقول: «أوراق النبات مغطاة بطبقة من الغبار، والتربة تسقى بساقية يديرها ثور صبور، يخطو خطواته الوئيدة دون توقف، ولا يبدو عليه الكلل من جراء العمل المضني، الدائم، إن تصميم الحدائق غريب حقا، إذ نجد الأرض مقسمة إلى مماش متوازية طويلة، تحدها على الجانبين قنوات، ثم تقسم ثانية بواسطة تلال من التربة، ارتفاعها حوالي نصف قدم إلى قطع مربعة صغيرة، طول كل ضلع ياردتان تقريباً، ويسمح بدخول الماء إلى هذه المربعات، الواحدة تلو الأخرى، حين أرى هذه القنوات والأحواض التي يكسوها الماء لفترة دون أن تمتصها التربة لا يسعني إلا أن أرجع بذاكرتي إلى حدائقنا الزاهية الجميلة في إنكلترا، وطريقتنا في سقي الأزهار بعناية حتى لا يزداد تشبع التربة بالماء، فيسبب لها الضرر، كما لا يروق للعين، هذه الذكريات تجعلني أجزم بأن فلاحة البساتين في مصر لا جدوى منها، ولا تساوي العناء الذي يبذل فيها وتحتاج إليه، قد يكون مثل هذا القول تحيزا لوطني ولما ألفته من مناظر طبيعية مختلفة كل الاختلاف عما أجده هنا».

الحَبرة

تتوقف الكاتبة طويلا عند ملابس النساء المصريات، لأنها امرأة من ثقافة مغايرة أولا، وكونها تريد أن تنقل العالم العربي من جانبه النسائي ثانيا، وتعتمد على شرح أخيها في كتابه «المصريون المعاصرون عاداتهم وتقاليدهم»، للطريقة التي ترتدي بها نساء مصر «الحبرة»، حيث أوضح أن السيدات التركيات يشبكن «الحبرة» من الأمام ظناً منهن أنه لا يليق أن تبدو السبلة أو القميص الملون الذي تحتها، تقول الكاتبة: «أما رداء المنزل فملائم للطقس وجميل جداً بخلاف ملابس الخروج التي تبدو بشعة وغريبة». 

بعد ذلك، تنتقل الكاتبة لوصف رحلتهم من ميناء بولاق إلى قلب القاهرة، التي تبلغ مسافتها نحو ميلين، تقول: «ركبنا جميعاً الحمير، يتقدمنا أحد الانكشارية (جنود)، وسرنا في بولاق مندهشين من الحالة الخربة التي بدت عليها هذه الضاحية، قيل لنا إن بها بعض المنازل الفخمة، لكن لم يحالفنا الحظ أن نراها، ابتهجنا حينما خرجنا من أزقتها الضيقة إلى ساحة واسعة، لكن سرعان ما شعرنا بضيق مؤلم من جراء الغبار الذي كان يتناثر مع خطوات الحمير الوئيدة، وقتئذ شعرت بميزة الغطاء الذي لا يظهر سوى العينين، وأخيرا دخلنا القاهرة، وزادت دهشتي عشرة أضعاف».

في القاهرة تقول الكاتبة إنها أصيبت بدهشة كبيرة، بسبب ما رأته في بيوتها وشوارعها الضيقة والمساحات الجمالية الشائعة غير المستغلة، وبينما لاحظت من قبل أن شوارع مدينة الإسكندرية الساحلية ضيقة، إلا أنها وبمجرد نزولها القاهرة تأكدت أنها تبدو فسيحة جدا إذا قورنت بشوارع القاهرة، وتلاحظ عين المرأة الأوروبية أيضا في القاهرة «المشربيات» -أي النوافذ العليا البارزة- التي تواجه بعضها بعضاً عبر الطريق، تكاد تتلامس، وكثيراً ما تكون على مدى ذراع فقط، تقول الكاتبة: «لقد كان أول انطباع أحسست به عند دخول هذه المدينة ذائعة الصيت، انني ألج مكانا ظل مهجورا لما يقرب من قرن من الزمن، وفجأة ازدحم بالسكان الذين لم يستطيعوا -لفرط فقرهم أو لأي سبب آخر- أن يصلحوا من شأنه ويزيحوا من فوقه خيوط العنكبوت العتيقة المكدسة، فأنا لم أر من قبل مثل هذا العدد الهائل من خيوط العنكبوت، التي لم يمسسها أو يؤرق ساكنيها بشر، عالقة ومتدلية من فتحات، تقود إلى ظلام دامس، وددت لو أن في استطاعتي أن أقول إني لا أهاب هذه المخلوقات، ولكن بصراحة، لا أظن أنه يوجد في عالم الحشرات من هو أبشع منظرا من العناكب ذوات الأرجل السميكة السوداء». 

 

 

back to top