كامل الشناوي ... شاعر الليل (9) ... يوميات صحافي على سلّم صاحبة الجلالة

نشر في 26-06-2015 | 00:01
آخر تحديث 26-06-2015 | 00:01
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا أمس.

 كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.

ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.

من العمل مصححاً إلى رئيس تحرير، امتدت رحلة كامل الشناوي في بلاط صاحبة الجلالة، بنجاحات وإخفاقات، وبتنقل بين الصحف السيارة وقتئذ، وبمعايشة واقع الصحافة في الفترة الملكية. وبعد تأسيس الجمهورية واستقرار جمال عبد الناصر في الحكم، ومن المسؤوليات التحريرية داخل الصحف، إلى التفرغ للكتابة، مروراً بالعمل محرراً ميدانياً وبرلمانياً وكاتب مقالات سياسية وساخرة.

وإلى جانب الصحافة والشعر الذي تغنى به كبار المطربين، لمعت موهبته كمحدث لبق، ومحاور بارع، وأحد الظرفاء الساخرين المشهورين في زمانه، وصاحب نكتة لا تقف عند حدود من يقولها له، لكنها تسري حتى تضحك من يعرفهم ومن لا يعرفهم حين تتداولها الألسن في كل مكان.

بدأ بصحيفة {كوكب الشرق} لصاحبها حافظ بك عوض، ثم {الوادي} لصاحبها الدكتور طه حسين، ومنها إلى {روزاليوسف} لصاحبتها السيدة فاطمة اليوسف، أشهر صانعة صحف ومجلات في زمانها، ومنها إلى {الأهرام} العريقة. حتى استقر في {أخبار اليوم} التي أسسها الشقيقان مصطفى وعلي أمين وآلت كغيرها من المؤسسات الصحافية لملكية الدولة بعد قرار تأميم الصحف بعد استقرار جمال عبد الناصر في حكم مصر.

أصبح صحافياً مشهوراً، لا  بسبب موهبته في الكتابة فحسب، وإنما بسبب روحه المرحة وذكائه الاجتماعي الذي جعله منذ تلقي الدرس الأول في الصحافة على يد حافظ عوض حين قال له {الصحافة خبر} عضواً في كل {الشلل} الثقافية والفكرية والسياسية في مصر، ومتنقلاً بخفة بين الصالونات والحفلات والمنتديات، مما جعله قريباً بل صديقاً لمعظم صانعي الأخبار، سواء كانوا سياسيين أو مثقفين وأدباء وفنانين وموسيقيين.

كان جليساً لمحمد محمود باشا، زعيم حزب {الأحرار الدستوريين} الذي كان رفيقاً لسعد زغلول في الاعتقال  قبل اندلاع ثورة 1919، وأحد أعضاء الوفد المصري المطالب بالاستقلال والجلاء عن الاحتلال البريطاني، وترأس الحكومة أكثر من مرة، واحتفظ في معظمها بحقيبة الداخلية، وكان واحداً من أشهر وزراء الداخلية المصريين بما عُرف عنه من انتهاجه سياسة العصا الحديدية.

كان كامل أيضاً صديقاً مقرباً جداً من حنفي محمود باشا، شقيق رئيس الوزراء. وفي الوقت نفسه كان صديقاً لمكرم عبيد باشا، السكرتير العام لحزب {الوفد}، الخصم اللدود لحزب {الأحرار الدستوريين} وبالطبع لمحمد محمود باشا. وكان على هذا النسق صديقاً لمعظم الخصوم في مجال السياسة، وعلى ذات المنوال كان في الوسط الثقافي جسراً مشتركاً بين المدارس والجبهات الثقافية والأدبية، فكان صديقاً لكل هؤلاء: جبريل تكلا باشا، وأنطون الجميل، وأحمد الصاوي محمد، والدكتور محمود عزمي، وعباس محمود العقاد، والدكتور طه حسين، وتوفيق الحكيم، وعلي محمود طه، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم ناجي، وإبراهيم عبد القادر المازني، ومحمد التابعي، ومحمد حسنين هيكل، ومصطفى وعلي أمين.  

دروس في المهنة

ومرَّت حياته الصحافية بكثير من الدروس، كان درسها المبكر كما سبق أن {الصحافة خبر}. لكن الدكتور محمود عزمي، رئيس تحرير جريدة {روزاليوسف} اليومية في ذلك الوقت، والذي يُوصف بأنه {أبو الصحافة المعاصرة}، كان ينتقد دائماً إقحامه الأدب ولغته في السرد والنثر في سياق القصص الإخبارية والمقالات السياسية. والحقيقة أن كثرة عدد الأدباء الذين التحقوا بالصحافة للتكسب منها كان يمكن أن يعرقل تطور فنون الصحافة الحديثة في كتابة ومعالجة الأخبار والقصص الإخبارية والتحقيقات الصحافية، والمقالات السياسية، ويحيل جميعها إلى منابر للخطابة ونشر الدراسات والإبداعات الأدبية كما بدأت. حتى إن عزمي في مرة، رفض نشر مقال لكامل عن قضية عودة دستور 1923 التي كانت مطروحة وحينئذ، ووعدت وزارة نسيم باشا أكثر من مرة بإعادته، وتلكأت في ذلك، وكل مرة كانت تُحدد موعداً وتخلفه، لأن كامل افتتح مقاله ببيت قديم من الشعر كان يقول:

{كلما قلت: غداً موعدنا

... ضحكت هند وقالت: بعد غد}.  

ولما رفض عزمي نشر المقال، ذهب إليه كامل مستفسراً، فقال له عزمي:

- {وما دخل هند في عودة الدستور؟}.

رد كامل مدافعاً عن أسلوبه في الكتابة:

- {هذا شعر جميل يُقرب المعنى للقراء}.

لكن عزمي كان أكثر حسماً ووضوحاً:

- {الشعر يصلح للغناء والإنشاد، ولكنه لا يصلح لمعالجة الموضوعات السياسية، ومقالك في غاية القوة والوضوح، والاستشهاد بالشعر يضعفه}.  

واستمر كامل في معاندته أملاً في إقناع رئيس التحرير:

- {ولكن هذا البيت من الشعر سهل الفهم ويخدم المعنى}.

لكن عزمي استمر ثابتاً على موقفه الرافض لخلط الكتابة السياسية بالشعر:

- {نصيحتي لك ألا تستشهد في المقالات السياسية إلا بأقوال السياسيين الذين تناقشهم، أو تنتقدهم أو توجههم، وألا تعتمد إلا على المنطق والوثائق والإحصاءات}.

 كان قصد محمود عزمي، رئيس تحرير {روزاليوسف} اليومية، أن الشعر والأدب يعتمدان على الخيال والبلاغة والاستعارات والمحسنات البديعية، بما قد يختلط مع ما هو مفروض في الصحافة من لغة واضحة ومباشرة في إظهار الحقائق وسرد الوقائع، وذلك قد يخلق تضارباً لدى القارئ فلا يعرف الحقيقة من الخيال، والسرد الذي يشرح الوقائع بالسرد الذي يهيم بخيال شاعر، وينطلق في هذا الخيال متأثراً بسحر اللغة وجمالها.

لكن تكوين الشاعر داخل كامل الشناوي كان أكثر تأثيراً وانتصاراً على الصحافي، لذلك لم يقتنع وحينئذ  بحديث محمود عزمي، لكنه رضخ مرغماً لقرار رئيس التحرير، وحذف بيت الشعر من مقاله، وكأنه ينتزع قطعة من لحمه. وكان يعتبر ذلك اعتداء على حقه في التفكير والتعبير، لكنه لم يحاول مرة أخرى أن يمزج بين خيال الأدب وواقعية الأخبار، ولم يفكر في إعادة إنتاج التجربة بالخلط بين الشعر والكتابة السياسية المباشرة. إلا أن المؤكد أنه استوعب هذا الدرس في مسيرته المهنية، وتعلَّم أن يفصل بين فنون الكتابة التي يجيدها، كما تعلم أيضاً أن هذا الخلط المحرم بين فنون الكتابة ليس مقدساً تماماً لكن ثمة موضوعات لا تقبله، وموضوعات تقبله، وضبط ذلك مهارة خاصة امتلكها كامل وبرع فيها بعد ذلك.

استفاد كامل من هذا الدرس استفادة كبرى، وكان مقاله اليومي في جريدة {روزاليوسف} نموذجاً لفن العمود الصحافي، ويمتاز باللغة المباشرة الواضحة، والدخول فوراً في الموضوع من دون إسهاب ووصف ومقدمات، واستخدام العبارات المكثفة بتركيز بالغ و{تلغرافية} مختصرة ولغة قوية وبمعان واضحة تذهب إلى هدفها ويظهر مقصدها دون مواربة أو رمزية، أو لعب بالألفاظ وبديع الكلام، إضافة إلى الدقة في استخدام الفواصل والنقط وعلامات الاستفهام والتعجب وسائر علامات الترقيم، مما جعل كتاباته الصحافية مميزة تماماً وتشق لنفسها اتجاهاً خاصاً ومختلفاً عن الكتابات الأدبية والساخرة سواء كانت شعراً أم نثراً.

وبينما كان يتألق ككاتب في {روزاليوسف}، توطدت أواصر الصداقة بينه وبين أنطون الجميل، رئيس تحرير {الأهرام}، لأن كامل كان مشاركاً ومتفاعلاً في ندوة {الجميل} الأدبية التي كان يعقدها في {الأهرام}، وحدث أن اضطرت السيدة فاطمة اليوسف إلى إيقاف صدور جريدة {روزاليوسف} اليومية التي كان يكتب فيها كامل مقالاته منذ أغلقت {الوادي} واشترط عباس العقاد أن يكتب إلى جواره.

اكتفت فاطمة اليوسف بإصدار {روزاليوسف} المجلة، وكانت أزمة الجريدة ترجع إلى تغيير في سياساتها التحريرية التي كانت مؤيدة لحزب {الوفد} وزعيمه مصطفى النحاس باشا.لكنها بدأت معارضة النحاس وسياساته، وتوجيه انتقادات لاذعة إلى زعيم الأغلبية صاحب الشعبية الكبيرة، فما كان من حزب {الوفد} إلا أن استغل شعبيته الجارفة، وأصدر بياناً هاجم فيه جريدة {روزاليوسف} ونفى علاقته بها وقال لأنصاره إنها لا تعبر عن الحزب وتتجنى عليه، داعياً ضمنياً إلى مقاطعتها. ولم تمض أيام بعد هذا البيان، إلا وبدأت الخسائر المالية تؤثر في الجريدة، وانخفض توزيعها من نحو 80 ألف نسخة يومياً إلى أقل من 8 آلاف نسخة، فتوقفت عن الصدور لعجزها عن دفع تكاليف إصدارها ورواتب محرريها وكُتابها.

وبعدها بدأ مسيرته الجديدة مع صحيفة {الأهرام} حين طلب منه صديقه الجديد أنطون الجميل الالتحاق

بـ {الأهرام}،  واستدعاه بمجرد غلق {روزاليوسف}، وخصص له غرفة بجوار مكتبه، ليكتب فيها ويستقبل ضيوفه، ريثما يدبر له عملاً مناسباً في {الأهرام}. حتى جرى تدبير هذا العمل، كانت الغرفة الصغيرة تتحوَّل إلى منتدى يقصده الصحافيون والأدباء للاستمتاع بأحاديثه ورواياته وسخريته ونكاته.

بدأ كامل الشناوي كتابة باب {خواطر حرة} في الأهرام، بالتوازي مع العمل في سكرتارية التحرير، حتى كلَّفه أنطون الجميل بالعمل محرراً برلمانياً مع تشكيل مجلس النواب الجديد في منتصف عام 1937، فصار المندوب البرلماني لجريدة الأهرام.

مكَّنه عمله في البرلمان من مد جسور التعارف مع جميع السياسيين والأحزاب في وقت كان البرلمان يُشكل الحكومة، ويمثل محوراً حقيقياً للحياة السياسية في مصر. وبات يحرر الصفحة البرلمانية في الأهرام، وعميداً للمحررين البرلمانيين، وذاع صيته وصار صديقاً للوزراء وجليساً لرئيس الوزراء محمد محمود باشا، صاحب القبضة الحديدية والستار الحديدية على خططه وقراراته.

بين الصداقة والصحافة

ولما علم جبريل تقلا باشا، صاحب {الأهرام}، بهذه الصداقة التي باتت أمراً معروفاً بين محرره كامل الشناوي ورئيس الوزراء محمد محمود باشا، وأن كامل يسهر كل ليلة في قصر صديقه المهم، استدعاه وهو يتعجب ويضرب كفاً بكف ويصرخ فيه:

- {وماذا تفعل بهذه الصداقة؟ ولماذا لا تحاول أن تحصل على الأخبار أولاً بأول؟}.

لم يكن الأمر مجرد تساؤل من صاحب الجريدة بقدر ما كان تكليفاً بالعمل، وهو كان يعرف أن وجوده في قصر محمد محمود وسط نخبة من صناع الأخبار في البلد، ميزة كبرى، خصوصاً أن الحكام والسياسيين والوزراء في جلساتهم الخاصة وسهراتهم العادية ودردشاتهم التقليدية يحكون أحياناً عن بعض الأسرار. وكان السؤال الصعب الذي يواجه كامل، وقد كسب ثقة هؤلاء ودخل في أوساطهم، ما الذي ينشره، وما الذي لا ينشره؟ حتى تظل هذه العلاقات ممتدة وقوية.

لكنه هذه المرة تعلم الدرس مباشرة، ومن محمد محمود باشا، رئيس الوزراء، حين كان كامل يلبي دعوة عشاء في قصر الباشا، وامتدت الدردشة إلى الإفصاح عن زيارة سرية سيقوم بها الوزير أمين عثمان إلى القدس، حيث سيعقد، وفي سرية تامة، اجتماعاً مع مسؤول بريطاني رفيع، في مفاوضات على مستوى عال بعيداً عن أعين الصحافيين، كذلك بعيداً عن أعين البرلمان، بما يعني أنها مفاوضات تتم بعيداً عن أعين الشعب.

لم يمض سوى الليل، وكان الخبر في صباح اليوم التالي على مكتب جبريل تقلا باشا في جريدة {الأهرام}، فأعاد الباشا صياغة الخبر ثم نشره منسوباً إلى مصادر بريطانية ومراسل {الأهرام} في {القدس}،  وأحدث الخبر دوياً بالغاً سياسياً وشعبياً، خصوصاً مع السمعة التي كانت تلاحق الوزير أمين عثمان، الذي كان متهماً بموالاة السلطات الإنكليزية، ويعتقد أن العلاقة بين مصر وبريطانيا علاقة {زواج كاثوليكي} ليس فيه طلاق، وهو الأمر الذي كان مفجراً للغضب بعد نشر الخبر، وتخيل الناس أن رجلاً هذه قناعاته وولاءاته، بالضرورة لن يكون مفاوضاً نداً للإنكليز، وسيضيع القضية الوطنية ويمنح الإنكليز مزيداً من التمكين في مصر.

لكن محمد محمود باشا يعرف بذكائه، أن صديقه كامل الشناوي هو الذي سرب الخبر وليس مراسل القدس، كما نشرت صحيفة {الأهرام}، فلم يعنفه أو يعاتبه، وإنما قرر أن يعطيه درساً لا يُنسى.

في إحدى دردشات المساء في قصر رئيس الوزراء، تحدث محمد محمود باشا أن جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في حكومة الحزب النازي الألماني التي يتزعمها أدولف هتلر، يزور القاهرة سراً هذه الأيام والتقى رئيس الحكومة وعدداً من المسؤولين، وتستضيفه الحكومة في فندق {سميراميس}، وأن المباحثات بين الجانبين تطرقت إلى موضوعات بالغة الخطورة تخص العلاقات بين مصر وألمانيا، ومستقبل الاحتلال البريطاني لمصر.

كالعادة أسرع كامل الشناوي إلى مكتب صاحب {الأهرام} ليبلغه الخبر الخطير جداً، وتحمس جبريل تقلا باشا، لكن لخطورة الخبر، والعداء  بين بريطانيا وألمانيا، اتصل بمندوبيه في المطار وبمصادره في البوليس، ومصادر في الحكومة، فلم يجد للخبر أي أثر، فسارع بالاتصال بفندق {سميراميس} فلم يجد أي نزيل ألماني في الفندق، وأكد له مندوب المطار أن الرجل لم يصل إلى مصر جواً، كذلك أكد المسؤولون في الموانئ، ورجال البوليس الذين تربطهم به صلات وثيقة... الجميع قال إن غوبلز لم يأت إلى القاهرة، فلم يجد تقلا باشا حلاً للخلاص من هذه الحيرة سوى الاتصال برئيس الوزراء نفسه، وبمجرد أن سمع محمد محمود باشا السؤال حتى انفجر ضاحكاً وقال:

- {أردت أن يتعلم كامل الشناوي الفارق بين الصداقة والصحافة}.

ولم يكن الدرس فقط في رسالة الباشا رئيس الوزراء التي جعلت قصصاً كثيرة لمشاهير وأخباراً خطيرة تولد أمامه ولا ينشر عنها شيئاً، وإنما درس الحذر الذي ضربه تقلا باشا بجهود التوثق من الخبر الخطير، حتى لو كان الذي جلبه صديق رئيس الوزراء ومن رئيس الوزراء شخصياً، ولا مجال للحذر. بقي من هذه الواقعة في ذهن كامل الشناوي أن الحذر في الصحافة يعني الدقة والتوثيق، ويعني التأكد من الخبر من أكثر من مصدر، وعدم الاكتفاء بمصدر واحد حتى لو كان رئيس الوزراء شخصياً.

الأهرام... وعائلة تقلا

يظل شعار الأهرامات الثلاثة  المميز لأكبر الصحف في الشرق الأوسط شاهداً على إنجاز الأخوين سليم وبشارة تقلا، فما إن يمسك قارئ بجريدة {الأهرام} أو يمر من أمام مبناها العملاق بشارع الصحافة حتى يتذكرها على الفور لأنهما أول من أصدر العدد الأول من جريدة {الأهرام} في 5 أغسطس 1876 في المنشية بالإسكندرية، لتعلن أكبر مدرسة صحافية تخرَّج فيها رواد القلم.

كان سليم تقلا شاباً في السادسة والعشرين من عمره عندما استقرت به الحال في الإسكندرية عام 1874 قادماً من بلده لبنان، وتحديداً من {كفر شيما}، تاركاً عمله مدرساً للغة العربية في مدرسة البطريركية، حاملاً بين جنباته حلم إنشاء مطبعة تمهيدًا لإصدار جريدة {الأهرام}، بعدما سمع عن النهضة التي يسعى الخديوِ إسماعيل إلى تحقيقها في وادي النيل آنذاك، ليخطو مع أخيه الذي لحق به أولى خطوات حلمهما المشترك بإنشاء المطبعة التي تخصصت في البداية في طبع المطبوعات الأدبية والتجارية.

وبعد مرور أشهر عدة تقدم سليم بطلب للدولة للسماح له بإصدار جريدة {الأهرام}، التي كان مخططاً لها الابتعاد عن القضايا السياسية، ليصبح الحلم حقيقة بإصدار العدد الأول في 5 أغسطس 1876، عبر جريدة أسبوعية، {كل سبت}، مكونة من أربع صفحات.

واختص سليم تقلا بتحرير المقالات المختلفة وإدارة الجريدة من الناحية الأدبية، تاركاً لأخيه بشارة الترجمة عن الصحف الأجنبية، والاتصال بالقنصليات والوكالات المسؤولة عن جمع الأخبار، فضلاً عن إدارة الجريدة.

لكن لم يمر وقت طويل حتى حنثت {الأهرام} بالوعد الذي قطعته على نفسها، فتحولت إلى نقد الخديو إسماعيل، الذي أصدر قراراً بإيقافها، لتستمر على هذه الحال حتى خلفه الخديو توفيق في الحكم.

وبعد خمس سنوات من صدورها تم تحويلها إلى جريدة يومية، قبل أن يتوفى سليم عام 1892 من دون أن يتجاوز الثالثة والأربعين من عمره.

أما بشارة تقلا فكان الأخ الأصغر لسليم ولد بعده بثلاث سنوات، لكن لم يكن غريباً أن يسير على خطاه، فعمل مثله في التدريس قبل أن يلحق به في القاهرة ليشاركه حلمه، حتى تم تأسيس {الأهرام} وتحويلها إلى جريدة يومية.

سلسلة الحوارات التي أجراها بشارة مع رجال السياسة في أوروبا عام 1884 كانت بداية لتأسيس فن {الحوار الصحافي}، إضافة إلى أنه أكمل بعد رحيل أخيه مسيرته في تطوير {الأهرام}، ونقل مقرها إلى القاهرة في 1899، إلا أن القدر لم يمهله كثيراً فتٌوفي بعدها بعامين فقط، لتكمل زوجته وابنه مسيرة الأخوين.

back to top