جولات في الشرق 7: لومير على المقهى: {حين حرَّم العرب شرب القهوة}

نشر في 24-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 24-06-2015 | 00:02
تأثّر بعض المستشرقين الذين جاءوا إلى الوطن العربي، وكان طبيعياً أن يدخلوا من البوابة المصرية، تأثراً كبيراً بما شاهدوه في بلادنا، وتحولت حياتهم إلى شيء آخر، بمجرد أن وطئت أقدامهم أرض مصر، ومن هؤلاء جيرار جورج لومير، الذي جاء إليها في النصف الأول من القرن العشرين، وكان من أجمل مآثره، كتابه عن «مقاهي الشرق»، الذي ترجمه محمد عبدالمنعم جلال، وقدَّم له الكاتب والروائي المصري جمال الغيطاني.
من المغرب، إلى إسطنبول، أثبتت المقاهي، التي تطلع إليها الكاتب وجلس فيها، أنها لم تعد منذ زمن طويل، ملاذاً للعاطلين عن العمل، بل صارت بعض المقاهي، مكاناً للقاءات مهمة، وللتواصل بين أبناء القطاعات المختلفة من المجتمع، الذين لا يمكن لأمثالهم أن يلتقوا، وأن يصيروا أصدقاء، إلا في المقهى.
يبدأ الكاتب والرحالة الفرنسي جيرار جورج لومير، رصده المقاهي في الشرق والغرب، بالإشارة إلى عبارة قالها القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت، وهي أنه «ليس من الشرق الأسطوري أو المتحضّر، مَن لا يضيع وقته في مقهى أو يضحِّي بقليل من عمره في إعداد المشروب الساحر». 

والحق أن كثيراً من المؤرخين، يعتقدون، أن الشرق الذي تعرض خلال القرون الثلاثة الماضية -على الأقل للهجوم- من قبل الغرب، وعلى الرغم من إقرار الكثيرين منا، بأن العالم الغربي استطاع أن ينتصر علينا في أشياء كثيرة ومؤثرة، فإن الثقافة الشرقية بقيت آثارها واضحة على الثقافة الغربية، خصوصاً الفرنسية منها، في ذلك الجانب المتعلق بالثقافة الروحية تحديداً، والتي يأتي في جانب منها ثقافة المقهى.

بونابرت نفسه، بدا عليه التأثر بالثقافة العربية إلى أبعد حد، بعد نزول حملته إلى أرض مصر 1798، حيث أعلن إسلامه، رغبة منه في إرضاء العرب الذين جاء إليهم بجيوشه، ومما نقل عنه بشأن حياته في الفترة التي أقامها في مصر قوله: «كان لديَّ دائماً سبع «كنكات» فوق النار، لكي أستعين بها على الحديث مع الأتراك، الذين يجعلونني أسهر طوال الليل بحديثهم عن العقيدة». 

وتأثر الغرب بالشرق يعود إلى أزمنة بعيدة، ليس فقط من حيث القهوة، المشروب، ولكن من حيث امتداد الثقافة الشرقية في كثير من عواصم الغرب، سواء قبل أن يخرج من عصور ظلامه، التي كان فيها الشرق متفوقاً ومتقدماً، أو في الفترة اللاحقة، أي في القرون الثلاثة السابقة.

تقول الحكاية في التراث الغربي، إنه في سنة 1683، وضع المدعو جورج كويشزكي، الضابط البولوني نهاية للغزو الأجنبي لفيينا، واستولى، كغنيمة وحيدة على جميع أكياس البن من الغزاة، وافتتح له محلان، ومن بعدها بات شرب القهوة منتشراً في كثير من هذه البلاد، وبات المشروب الشرقي الشهير يجد له أرضاً جديدة في أوروبا والغرب بشكل عام بعد ذلك. 

الكاتب، الذي يعتبر القهوة نواة لفكرة المقهى الشعبي، قال إن ظهور القهوة أحيط منذ زمن بعيد بالغموض، حيث تولدت أساطير، ازدادت بمرور القرون، وبحكم تكرارها أصبحت حقائق، «لأن قوة الأسطورة هي في سد فراغ، وكما نعرف كثيراً فإن الروح العلمية تخشى الفراغ». 

ولا يبتعد كاتبنا كثيراً عن تراث الحكاية المتداولة شرقاً وغرباً بشأن القصة التي يذكرها عالم اللاهوت الإيطالي فوستو نيروني، في القرن الثامن عشر، وينسب فيها اكتشاف النبات الثمين «البن»، إلى أحد رجال الصوفية، الذي رأى بعض العنزات ترعى أوراق وحبوب شجرة صغيرة، وباتت كأنها لم تلبث أن أصيبت بحالة من السُّكر، وبسبب دهشته وفضوله قرر أن يتذوق تلك الحبوب ذات القدرة الفائقة، فقام بغلي بعض منها في قليل من الماء، وبذلك تم اكتشاف القهوة، والواقع أن رواية نيروني ما هي إلا ترديد لرواية ريتشارد برادلي، التي ضمنها كتابه «تقرير تاريخي وجيز عن القهوة»، الذي صدر في لندن سنة 1714، فقد نسب فيها هذا الاكتشاف إلى أحد الرعاة، وليس إلى أحد الصوفية. 

يقول الكاتب: «كل هذه الدراسات أحدثت تأثيرها على الكتاب الأوروبيين في القرن السابع عشر، وكان لها ثقلها الخاص على الأبحاث الأكاديمية التي تحيط بظهور القهوة في فينسيا ومارسيليا وباريس ولندن، ففي مجلة هستوريا يقول فرانسيس بيكون في مقاله «أحياء وأموات»، إن القهوة بالنسبة للأتراك تبلبل «العقل»، ويروي الغربيون آراء مناظريهم في البحر الأبيض المتوسط بالنص فيقولون إنها تفقد الشهية، ويمكن أن تتسبب في الضعف وشل الرغبة في النشاط، وقد تتسبب في أمراض لا تحصى».

الذكر 

وعلى الرغم من أن التراث الثقافي الغربي مقتنع اليوم بأن القهوة ظهرت عملياً في «اليمن السعيد» في منتصف القرن الخامس عشر، فإن الكاتب يلاحظ صادقاً أن الأدب العربي ظل صامتاً في هذه النقطة، ولم تبدأ الكتب التي تعالج مسألة القهوة في الانتشار إلا متأخرة جداً، لافتاً باهتمام إلى كتاب كتبه عبدالقادر الجزيري وهو «عمدة الصفوة في حل القهوة»، مشدداً على أن هذا الكتاب الذي لا يورد اسمه المترجم، حُجة في هذا الأمر.

يقول لومير، إن كثيراً من الآراء التي يضمها كتاب الجزيري تناولتها أغلبية كبيرة من الكتاب الذين جاءوا بعده، ويقتطف لومير من الجزيري قوله:

«يقال اليمن وحده، لأن ظهور القهوة حدث في أرض ابن سعد الدين في بلد الأحباش والجبارتة، وفي أماكن أخرى من أرض مملكة العجم، ولكن وقت استعمالها لأول مرة غير معروف، وكذلك سبب استعمالها غير معروف هو الآخر». 

يشير الكاتب المغرم بالاشتقاقات اللغوية، إلى أن القهوة كلمة مشتقة من كلمة «كافا»، وهي اسم منطقة في الحبشة، المعتقد أنها موطن البن، ويعتقد آخرون أنها اشتقاق من لفظ «قوة»، وهي كلمة معناها القوة أو القدرة، مصمماً على الإشارة إلى ما بين القهوة والقدرة على ممارسة العبادات الإسلامية من قوة اتصال نافذة، تمكن وهو الغربي من فهمها والإشارة إليها مراراً، يقول إنه عندما رحل دوهسون إلى الشرق الأوسط في القرن الثامن عشر، زعم أن أول من استخدم القهوة العربية صوفي من موكا، عاش حياته كلها في الصحراء يتناولها، وأنها أذهلت تلاميذه، وراحوا يمتدحون خواصها في مدينة موكا كلها. 

ويستعرض الكاتب تجربة كارستن نيوبهر، عندما زار اليمن، أوائل القرن الثامن عشر، حيث علم أن الشاذلي، وهو رجل تقي، عاش قبل ذلك بأربعمئة عام، قدم القهوة لبعض المطلعين على أسراره، يقول الكاتب: «يذكر لنا نجم الدين الغازي صورة أخرى فيقول: «إنه مر في تجولاته بشجرة بن، واقتات من ثمرتها، كما هي عادة الرجال الأتقياء، وأدهشه أن لا أحد يقربها رغم نضجها، ورأى أنها نشطت ذهنه، وتسببت في انتباهه وإثارته (لممارسة الشعائر الدينية)، وبدأ إذن بتناولها كطعام وشراب». 

ينتقل الكاتب سريعاً إلى جماعة الحشاشين في التاريخ العربي، لافتاً إلى أنه مهما كانت وجهة النظر في أصل القهوة، فإن الجميع يتفق في شيء واحد، هو أن الشخص الذي كان من أوائل من نادوا بفوائد القهوة قد يكون شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية، وأضاف الكاتب:

«هناك افتراض بأن أولئك المتدينين كانوا يتناولون مواد منبهة، منها «الحشيش»، الذي كان يتيح لهم البقاء في حالة تيقظ، ويمكنهم من الاضطلاع بالشعائر الدينية في نفس الوقت، والثابت هو أن كثيرين من أتباع تلك الطريقة أصبحوا مؤيدين لها ابتداء من الربع الثالث من القرن الخامس عشر، وعلى وجه الخصوص في اليمن». 

يرصد الكاتب، أنه اتضح أن القهوة لم تلبث أن أصبحت جزءاً متمماً لاحتفالات الصوفية التي يطلقون عليها اسم «الذكر»، حيث يقوم الشيخ بتوزيع القهوة على المشتركين أثناء الإنشاد، ويصبها لهم طبقاً لعادة ثابتة تماماً عندهم، ووفقاً لـ»ابن الغفار» فإن أوائل الذين تعودوا على القهوة «كانوا من المتسولين المهتمين باجتماعاتهم الذكرية وبالصلاة، لوجه الله، طبقاً لطريقتهم السابق ذكرها». 

يقول الكاتب الفرنسي المدقق، إنه لكي يتأكد من قول الجزيري، من أن أصل القهوة من اكتشاف شيخ صوفي، لجأ إلى رجل من مشاهير رجال القانون، وهو وقور بحكم سنه ولا يمكن الشك في حكمه، وأجابه القاضي الحكيم بقوله:

«سألت جماعة من قدامى الأهالي ببلدتنا، وعمي بالذات أكبرهم سناً، ورجل قانون ويدعى وجيه الدين عبدالرحمن بن إبراهيم العلوي، ويبلغ من العمر تسعين عاماً، وقد قال لي: كنت موجوداً في مدينة عدن عندما أقبل صوفي فقير، يصنع ويشرب القهوة، وقد أجاد إعدادها لرجلين من رجال الدين، وشرب هذان الرجلان تلك القهوة مع أشخاص آخرين، اقتدوا بهما بعد أن أطمأنوا إليهما بما فيه الكفاية»، وهكذا استطاع المؤلف الغربي أن يلاحظ عادات هؤلاء الصوفيين، وقد سجل في مذكراته أن بعض الشيوخ الذين يعيشون في جبال اليمن، مع دراويشهم كانوا معتادين على مضغ وأكل حبوب البن، وكانوا يدعونها «قلب وابون». 

قبضة الباشا

يدور الكاتب في تحقيقه اللافت حول عروبة القهوة وصوفيتها، حول فكرة الرؤية بالعين المجردة، والاستناد إلى ثقاة الرواة والحكائين، يقول إن القهوة تُحتسى في الأحياء «اليمنية» بالقاهرة، منذ بداية القرن السادس عشر، مشيراً إلى أن الجزيري المعروف بمبالغته الفائقة في الدقة يروي بالتفصيل الطريقة التي يعالج بها الأهالي القهوة، ويبدو أن بعضهم كان يخلطها ببعض الحشيش، وكان ذلك سبباً كافياً لتحريمها وتجريمها على نطاق واسع، في ظل هذه الظروف، يقول الكاتب نقلاً عن الجزيري: 

«تناول الناس الكثير من القهوة في حي الجامع، وكانت تباع علانية في أماكن كثيرة، ورغم المدة الطويلة التي قدمت فيها القهوة، فلم يخطر لأحد إزعاج شاربيها، ولم يجد أحد عيباً في المشروب نفسه أو في المتعاملين معه، بحكم اشتراكهم فيه، ولكنها انتقدت بسبب عوامل أخرى خارجة عنها كتمرير الفنجان وغير ذلك، وكل ذلك رغم انتشارها في مكة أيضاً، ورغم أنها كانت تحتسى في الحرم المقدس، بحيث إنه لم يكن هناك ذكر واحد أو احتفال بمولد الرسول إلا وكانت القهوة موجودة». 

ويشير الجزيري إلى حادث وقع عام 917 هجرية، ليسجل أوَّل تجريم رسمي لتناول القهوة، إذ يقال إن باشا المماليك، خير بك، ذهب في العشرين من يونيو إلى الكعبة لكي يؤدي الفريضة، ورأى في الظل جماعة صغيرة من الرجال مجتمعين حول فانوس أسرعوا بإطفائه عندما سمعوه يقترب، ولكن الوقت كان قد أتاح له مع ذلك أن يرى أنهم كانوا يتناولون مشروباً (بطريقة الشاربين الذين يتعاطون مخدراً)، وتولته الحيرة، وانتهى به الأمر إلى الإحساس بالقلق إزاء هذا التصرف، ولا يلبث أن يعلم أن ذلك المشروب الغامض يعرف باسم «القهوة».

الحكاية تقول إن خير بك باشا المماليك، استدعى في صباح اليوم التالي بعض العلماء والفقهاء في الدين لمناقشة الأمر، حيث كانت من مهام «المحتسب» التفتيش على السوق العام والاهتمام بالأمور التجارية، والعمل كذلك على حفظ النظام والآداب العامة، يقول الجزيري:

«في الاجتماع، الذي لم يكن في حقيقة الأمر غير هيئة محكمة، جيء بإناء كبير مملوء بالقهوة، وقليل من الحجج يمكن تقديمها ضد المشروب نفسه، فإن كل نبات إنما هو من خلق الله، وكل مأكول على الرحب والسعة ما لم يثبت ضرره لصحة الإنسان، ولتحريم تناولها فمن الأوفق اللجوء إلى الأطباء، وطولب اثنان منهم بالإدلاء بالشهادة، فصرحا بأن القهوة من طبيعة باردة وجافة، وأنه يتضح من ذلك أنها تضر صاحب الطبع المعتدل، وحاول بعضهم أن يحتج قائلاً إن أطباء آخرين امتدحوا فوائدها الصحية، (فهي علاج للبلغميين) ولكنهم لم يصغوا إليهم على الإطلاق، وقرروا منع القهوة، بيد أن القهوة لم تكن هي المستهدفة بقدر استهداف الصوفيين الذين يعيشون بكامل إرادتهم على هامش المجتمع. 

يقول الكاتب إن حيثيات المحاكمة لم تتطرق إلى هذا الموضوع، ومهما يكن فقد كانت هناك رغبة في معاقبة تلك الطائفة الصوفية بحملتهم على مادة أساسية وجديدة في طقوسها. 

تجريم القهوة

يرصد الكاتب تلك الحالة التي بدأت بين الحكومات وأبناء المجتمع العربي، من التجاذب بشأن القهوة، بين حكومة ترى أنها مضرة ويجب الحفاظ على الناس من شرورها، وبين الناس الذين سرعان ما يستغلون موت شخصية قيادية كارهة للقهوة، للعودة إلى تناولها وبشكل مبالغ فيه.

وبينما أعلن خير بك في مكة، أن بيع البن وتناول القهوة محظوران، وأن المخالفين سيعاقبون، حيث أُحرقت أكياس من البن في شوارع المدينة المقدسة، والذين قد يجرؤون على بيعه سيجلدون علناً، على أن هذا القرار، يقول الكاتب: «لم يعمل به إلا فترة من الوقت، فسرعان ما تناساه الناس وعاد كل شيء كما كان». 

يرصد الكاتب العاشق للشرق، حادثاً جديداً في مكة بين سنتي 1525 و1527، فقد أقبل إلى المدينة المقدسة رجل كبير من رجال القانون وأقام بها، وعلم بالحياة السيئة التي تدور في المقاهي وأصر على إغلاقها، وكان ذلك الرجل حكم على امرأة في المدينة قبل ذلك بسنة، وأصدر قراراً بألا تستمر في تجارتها، لأنها كانت تبيع القهوة وهي سافرة الوجه.

 كذلك حوالي سنة 1520، صدرت فتوى في القاهرة، ثم دوهمت بعض المقاهي سنة 1531 أو 1535، وطرد روادها وأسيء معاملتهم، وتولى أحد القضاة القضية، ولكنه لم يلبث أن انضم إلى رأى أنصار القهوة، وحتى يحظى بتأييد أعضاء المجلس قدم لكل منهم فنجاناً من القهوة، لكي يتأكد إذا كان قد صدر منهم أية أعراض للجنون، واضطر الجميع طبعاً إلى تبني رأيه. 

ولكن الأمور لم تبق عند هذا الحد، ففي أيام رمضان من سنة 1539، دهم حارس ليلي مقهى من أكثر المقاهي شعبية، وأمر بتقييد الكثيرين من روادها، ووضع الحديد في أقدامهم ليكونوا عبرة لغيرهم. 

يقول الكاتب: «مع ذلك لم تحرم القهوة بصورة جدية، فالقرآن الكريم لم يذكر شيئاً عنها، وهو لا يحرم إلا الخمر وأنواعاً أخرى من المشروبات التي تتسبب في السكر، ومن العسير اعتبار القهوة مشروباً غير مرغوب فيه، وقد حاول البعض مراراً أن يضمها إلى المستحضرات التي تتسبب في السكر والضرر، كالحشيش مثلاً، وأبدى كاتب مجهول سخطه لمثل هذا الادعاء وقال: من المستحيل أن يعلن رجل مسلم أن القهوة تحدث في نفس شاربها، حتى لو بكميات كبيرة، نفس التأثير الذي يحدثه تناول الخمر أو الحشيش، وأنها تضع على العقل غشاوة وتتسبب في تغيرات في متعاطيها إلى حد القول إنه سكران».

 

back to top