كامل الشناوي ... شاعر الليل (4): أول قصيدة... وأول حُــب

نشر في 21-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 21-06-2015 | 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتم كأنهم غابوا بالأمس فقط...
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثارا إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.
وجد كامل الشناوي راحته في ملابس {الأفندية} التي منحته انطلاقاً وحيوية لم يشعر بهما في ملابس الأزهر. لكن رغم خروجه من الأزهر، لم يجد غير التعليم الأزهري يسعفه في حياته الجديدة، حين حصل على أول فرصة عمل كمصحح لغوي ومدقق بروفات في جريدة {كوكب الشرق} لصاحبها أحمد حافظ عوض بك. 

كان التعليم الأزهري، الذي أسس بابتدائيته معارفه في اللغة العربية مدخله إلى العمل، وكان الشعر مدخله إلى الصحافة، وكان الخروج من عباءة الأزهر مدخله للحب.

وظهر هذا التشابك منذ وعد والده الشيخ سيد الشناوي بالالتحاق بمدرسة الحقوق الفرنساوي، والاهتمام بهذه الدراسة تمهيداً للسفر إلى باريس والالتحاق بجامعة {السوربون} ككثيرين من مثقفي ذلك الزمان. ولما كانت دراسة الحقوق، تتطلب في البدء اتقان اللغة الفرنسية، كان الحصول على دروس في الفرنسية، هو الخطوة الأولى في هذا الطريق. ومن هنا بدأت القصة {نظرة فابتسامة فموعد فلقاء}... 

 

طريق إلى الحب

 

في {المعادي}، بدأ دروس اللغة الفرنسية كما بدأ سريعاً عاش مشاعر الحب وترجمتها في قصائد شعر، كان كامل قد بدأ نظم الشعر العمودي، لكنه كان نظماً مدرسياً يقلد فيه ما تعلم وقرأ من شعر وما سمع من شعراء، لكن أياً من قصائده التي نظمها لم تكن تحمل أية تجارب شعورية، ولا تتلمس فيها صدقاً يعبر عن تجربة حقيقية للشاعر بما يمكن أن تحتويه من آلام أو أفراح أو اندهاش. لكن درساً واحداً في بيت هذا المدرس القادم حديثاً من الشام كان يكفي ليدخل عالماً جديداً آخر، أو يستكمل به دخول العالم الجديد. 

لم يكن هذا العالم الجديد، فحسب في المصطلحات الفرنسية الرقيقة في نطقها إلى حد الرومانسية، وإنما في حياة أسرة مختلفة تماماً عن مستوى خبراته واحتكاكاته، دخل بيت الشامي القادم من عوالم مختلفة امتزجت فيها الثقافات وانفتحت على ما في العالم من حداثة، وبدأ يفهم معنى مختلفاً للموسيقى أكثر عذوبة، وللحياة أكثر رقة، ويدرك {الإتيكيت} وقواعده، ويرى نفسه وبحق جزءاً من عالم جديد. 

كان يتلقى الدرس حين مرَّت من أمامه كالنسيم ثم طلبت المدرس لثوان، تحدثت معه، وقبل أن تنصرف ابتسمت له مرحبة، فإذا بالمدرس يختصر المسافات ويتولى مهمة تعارف سريعة، بين {الشيخ كامل} الأزهري سابقاً الذي يحاول تثبيت نفسه في الملابس {المودرن}، وبين {المودموزيل} الجميلة، ابنة أخت المدرس. 

ذهبت وعادت بصينية الشاي والحلويات الشامية، فحركت فيه غريزة عشقه للطعام مزيداً من المتعة بأصناف حلويات لم تجربها معدته التي تُقدر الطعام الجميل، كما حركت طلتها في قلبه انشغالاً غير مألوف، بهذا الكائن الجديد المفرط في الرقة. 

ولم تمض دقائق عاد بعدها لاستكمال الدرس، حتى كانت الصدمة الحضارية ثلاثية الأبعاد، حين سمع وقع أناملها على البيانو تعزف بعذوبة ساحرة، لا تكتف بسرقة الأسماع، وإنما تتسلل إلى القلب دون استئذان، فتنال منه نيلاً جميلاً، تجعل موعد درس اللغة الفرنسية في {المعادى}، هو أفضل أوقات العمر، وأجمل طريق يسلكه ممنياً نفسه كل مرة بالمزيد من العذوبة والجمال والقرب. حتى بات الطريق من {السيدة زينب} إلى {المعادى} شاهداً عليه وعلى هيامه الأول بفاتنته الشامية. 

 

طريق إلى الشعر

 

كان يحكي عنها في مجالس {جنينة ماميش}، فيظهر هيامه المستجد طازجاً بريئاً، وحين يختزل مشاعره في بيت أو بيتين من الشعر، لا يجد معارضة هذه المرة، وهو الذي ظل يواجه مع صحبة {جنينة ماميش} اتهامات بسرقة مبادراته الأولى في نظم الشعر، والزعم بأنه يحفظها من كتب التراث التي كان يدرسها في الأزهر، ويعيد إلقاءها عليهم معتمداً على عدم اطلاعهم أو ضعف ذاكرتهم على السواء. وهو اتهام ظل يلاحقه، حتى تم تحكيم شاعر معروف وقتها كان يقطن {السيدة زينب} اسمه محمد الأسمر، ووجد في نظم كامل ما يوحي بمقدمات شاعر جيد، والأهم أنه شهد على رؤوس الأشهاد من صحبة {جنينة ماميش} أن ما يقوله الشاب من نظم منسوباً له، هو بالفعل يخصه ومن نتاج قريحته وموهبته في النظم، ولم يسبق له أن سمعه أو قرأ عنه منسوباً إلى الآخر من المحدثين أو السابقين.

هكذا جرى اعتماده شاعراً بفعل شهادة {الأسمر}، لكن اعتماده الأهم كان مختلفاً مع ما كان يلقيه على أسماعهم من أبيات حول تجربته في {المعادي}، الربط الذي جرى وسط صحبته بين ما كان يحكيه عن غرامه الجميل الرقيق، وبين ما يسمعونه من شعر ويجدون فيه صدقاً لم يختبروه مع شعراء آخرين، وروحاً جديدة، ووصفاً لمشاعر يرون ملامحها متجسدةً أمامهم على وجهه وهو يلقي عليهم ما يقول. 

نما الحب بالتوازي مع نمو الشعر، لم تعد المسألة هياماً من طرف واحد لتلميذ يتحين كل فرصة لـ{ينط} في بيت مدرسه بحثاً عن درس جديد في اللغة الفرنسية، أو احتجاجاً بسؤال عاجل، أو مسألة صعبة غير مفهومة. لكن الأمر تطوَّر من النظرة إلى الابتسامة، إلى مواعيد ولقاءات كثيرة. كان الشاب البدين الذي يسير في شوارع {المعادي} أو يتحرك في مراكب العشاق في النيل، مصطحباً سندريلا من أجمل البنات الذين يمتزج فيهم سحر الشرق ورقته وخجله، مع انطلاق الغرب وحيويته وإقباله على الحياة، مثار حسد كثير من شبان {المعادي} من محترفي الغرام، وخبراء مواعدة بنات العائلات الجميلات إلى حفلات الرقص، ومتنزهات المرح.

لم تفجر فيه الجميلة مشاعر الحب، وتمكنه من عيشها لأول مرة غارقاً في هذا السحر، لكنها أشاعت فيه حب الحياة، قل إنها صالحته على كثير من عوامل اضطراب حياته، صالحته أكثر وأكثر على جسده البدين الضخم، الذي أثبت لنفسه أنه يمكنه منافسة أجساد الشباب الرشيق في الحب وفي خطف قلب جميلة الجميلات، وضعته على أبواب الموضة والانسجام مع ملابسه المدنية الحديثة، بعدما كان أزهرياً سابقاً يجرب نفسه في ملابس الأفندية، وتبدو عليه غريبة دون تطبيع أن احتواء، صارت أحدث خطوط الموضة في البدل والأحذية وربطات العنق والنظارات الشمسية تليق عليه كما تليق بنجوم المجتمع، وبات منسجماً مع حداثته التي صارت وكأنها الأصل في شخصيته، وما سواها ماض بعيد جداً دهسه قطار التطور الذي ينطلق إلى الأمام بلا نظرة واحدة إلى الوراء. 

لكنها فجرت في نوعاً مختلفاً من الشعر لم يألفه، يترجم مشاعره ولا يكتفي بإطلاق العنان لخيال لم يعش منه شيئاً ولم يجرب منه إحساساً. 

كانت لحظة فارقة في حياته، حين مضى مع فاتنته في قارب صغير يتحرك بهما في نهر النيل، ليكون شاهداً مع المراكبي على حالة عشق فريدة، ويلقي على أسماع المحبوبة قصيدته، فتستمتع هي بما فيها من صدق، ويستمتع هو بحلاوة الاعتراف، وبمتعة مراقبة رد فعل قصيدته على ملامح صاحبة القصيدة، أولى الملهمات وجميلة الجميلات، وأول قصيدة تترجم مفهومه الجديد عن الشعر: 

عيناك نامت في جفونهما مفاتنُ

... أيقظت ليلي وأعصابي

أصد عنها بعين غير صادقة

.. وبين جنبي قلب غير كذاب

يا كبريائي... لقد كلفتني خطراً

.. فيه المنايا مُطلات بأنياب

تمرد الليل.. لا أغفو به أبداً

.. حتى أرى الفجر سفوحاً

 على بابي. 

 

دروس الحياة 

 

تلقى كامل من المدرس {الخال} دروس اللغة الفرنسية فحسب، لكنه تلقى من {ابنتة أخت} مدرسه، دروساً في الحياة. باتت علاقتهما وكأنها دورة تعليمية تأهيلية، تستهدف وتجيز الشاعر البدين إلى التقدم في وسط الثقافة والمثقفين، ليشق طريقه عبر الصحافة والشعر، ليكون نجم المجتمع الأبرز القادر على مد خيوط حضوره في كل الاتجاهات.

تعلَّّم كيف يلبس بشكل لا ينافسه فيه أحد، وتعلم {الإتيكيت}، كيف يتحدث للناس، وكيف يرحب بامرأة، وكيف يسير معها في الشارع، كيف يراقصها، ويجاملها، ويدير دفة الحديث معها. كيف يقتحم مجتمعات الصفوة، وكيف يفرض حضوره ويعبر عن نفسه، حتى يسرق الأضواء.

والأهم أنه في هذه المدرسة بنى المزيد من المعارف، كان معظم اطلاعه تراثياً، فيما فاتنته الأولى أكثر حداثة واطلاعاً على آخر ما وصلت إليه حركة الفنون والآداب والفلسفة في أوروبا. كانت الحوارات في ما بينهما دروساً غير مباشرة، يغرقان في حوارات ممتدة، من الشعر إلى الموسيقى إلى طبائع الحياة، تحدثه في سياق مناسب عن قصة قرأتها لأديب فرنسي، أو مقطوعة موسيقية سمعتها لموسيقار ألماني، أو حكاية وراء لوحة شهيرة لرسام إيطالي، وحين ينتهي اللقاء، يطير في اليوم التالي إلى دار الكتب، يقرأ بنهم عن كل اسم جاء في سياق الحديث ولو بشكل عابر، ويعود في اللقاء التالي كتلميذ مجتهد، وهو يعلم الكثير عن ما قيل في اللقاء السابق، يحفظ من شعر الشاعر، ويقرأ المزيد من أدب الأديب، ويعرف أكثر عن الموسيقى وتطورها، والحركة الفنية في أوروبا ومدارسها، والفلاسفة وتجلياتهم الفكرية، فتبدو الجميلة الحسناء سعيدة باجتهاده، وفخورة بتطوره، ومستمتعة بصحبته، وسعيدة بقربه. 

هذه الصيغة تحديداً هي سبب تعلق فاتنة رشيقة مثلها بشخص مثل كامل، وسبب قدرتها على الرد على كل مستنكر أو مندهش من انحيازها إلى الشاب البدين أزهري الجوهر رغم حداثة الرداء، القادم من {السيدة زينب} ومن قبلها {نوسا البحر} من قلب فلاحي {الدلتا} لينال قرب سيدة الحسن والجمال في حي {المعادي}. 

كانت نظرتها إلى ما بينهما أكثر نضجاً ورشداً من نظرته، ومن نظرة من يعرفونهما في {المعادى} أو {السيدة زينب} ومن يشاهدونهما في المنتزهات أو في المراكب الشراعية أو مقاهي القاهرة. 

كان يمثل لها حباً من نوع مختلف،  لا يلتفت للمظهر الشكلي الذي شغل من حولهما، وإنما يمتد إلى حب روحه وشخصيته، بطيبتها وبساطتها وصراحتها. كانت تحب ذكاءه واجتهاده وطموحه لتغيير نفسه دائماً إلى الأفضل. كان بالنسبة إليها إنساناً يبحث عن حقيقته ويفتش عن طريقه الذي من المفترض أن يسلكه ليجد تلك الحقيقة، كانت تشعر وكأن القدر وضعها في طريقه حتى تساعده في العثور على نفسه الحائرة التائهة، حتى تستقر حيرتها في طريق يسير بهمته واجتهاده وطموحه نحو المستقبل الذي يستحقه.

وهو كان يشعر بذلك تماماً، ويدرك أن وجودها بهذه القدرة على العطاء فرصته لإعادة ضبط بوصلة حياته من جديد. كان في ذلك الوقت تستبد به الحيرة، منذ انقطع عن الأزهر، واتجه لدروس اللغة الفرنسية، وهو لا يدري ما المفترض فعلاً أن يفعل، هل يمضي كما خطط لدراسة الحقوق؟ أم يخوض بما تيسر له من معارف غمار الحياة؟ 

طريق إلى الصحافة

 

بالتوازي مع دروس الحياة في المعادي، كان يتردد على الصالونات الثقافية المعروفة، كشاب مشاغب دؤوب، ويجلس على قهوة الفن، ويبحث عن وجوده كشاعر، في وقت كانت الثورة التي هزت أركان دولة الشعر العربي في مصر لم تضرب ضربتها الكبرى بعد في اتجاه تحديث القصيدة، والخروج بها من لغة الماضي وصور الماضي وأساليب النظم المستمدة من الماضي، لذلك كان طريقه لنشر شعره مسدوداً إلى درجة كبيرة مع عدم استحسان القيمين على النشر للمحات الحداثة في شعره، في وقت كانت المقاومة لهذه الحداثة على أشدها، أرسل قصائده إلى أكثر من صحيفة لكن أحداً لم يحاول أن ينشر له، تارة لعدم قدرتهم على تذوق الجديد في شعره، وطوراً لانشغالهم بالنشر للمشاهير وقتها، بينما هو لا يعرفه أحد. 

حتى إنه بكل ما بات يُعرف عنه وقتها من ميل نحو السخرية وتدبير المواقف و{المقالب} بسرعة بديهة وذكاء خارقين، لم يرحم المشرف على الصفحة الأدبية في جريدة {الأهرام} حين فشلت محاولاته معه كافة لإقناعه بنشر قصيدة له، وكان الرجل من أولئك الذين يجبون أساليب النظم القديم، واللغة العتيقة، والمعاني التليدة، والوقوف بالأطلال، ما كان يسميه كامل الشناوي وقتها مدرسة {كجلمود صخر حطه السيل من عل}، وكان طبيعياً أن يرفض شعراً حديثاً في رقته، وحداثة ألفاظه ومعانيه، وصدق تجاربه الشعورية بعيداً عن قوالب الوصف المتكررة. ففكر في وسيلة يطرح نفسه بها كشاعر، ويكشف للرجل القائم على صحيفة {الأهرام} سوء تقديره، وتهافت منطقه، ويقدم احتجاجه على هذا النمط من التفكير. قرر أن ينظم قصيدة على النمط الذي يحبه القائم على {الأهرام} يًقال إن مطلعها كان يُشابه:

 

{ سلاماً صباحاً لا يعم ولا يجري

.. ولا ألماً بها نفسي ولا تدري}  

 

لكنه لم يُوقع القصيدة باسمه، وإنما اختار شاعراً معروفاً بهذا الشكل من النظم، ويناسب شعره هوى وذائقة المشرف على الصفحة الأدبية بجريدة {الأهرام} ووقع باسمه القصيدة، وانتحل شخصية سكرتير الشاعر المعروف وذهب إلى مبنى الصحيفة، وسلم القصيدة لغريمه، مصحوبة بسلامات وتحيات الشاعر المعروف. قابله الصحافي المعروف باحتفاء بالغ، وفي اليوم التالي وجدت القصيدة طريقها إلى النشر على صفحات {الأهرام}، وكانت {فضيحة} صحافية من النوع الثقيل، حين أنكر الشاعر المعروف علاقته بتلك القصيدة، وعلم الوسط الصحافي والأدبي، أن الأمر {مقلب} ساخن، من شاب موهوب مارس احتجاجه بطريقته على سد المنافذ أمام الجيل الجديد لطرح نفسه على الجمهور، وإثبات وجوده بقدر ما يملك من موهبة. 

بات معروفاً بـ {مقلبه}، لكن هذا {المقلب} حفَّز من ضحكوا على وقعه، وتندروا على {الأهرام} أن يقرؤوا لهذا الشاب الذي دبر الأمر بنظمه، وأمام هذا الشغف للتعرف إلى هذا الشاعر الشاب سارع الأستاذ إبراهيم المصري المشرف على الصفحة الأدبية بجريدة {البلاغ} التي كان يكتب بها الدكتور ذكي مبارك لنشر قصيدة له، فتحت الباب نحو معرفته في الأوساط الثقافية، وفتحت له المجال أمام العمل في الصحافة، الذي بدأه مصححاً لغوياً ومدققاً للبروفات، كذلك فتحت أمامه الباب مباشرة للتعرف إلى أحمد شوقي بك الذي طلب بنفسه أن يلتقي بهذا الشاب الموهوب بمجرد أن قرأ قصيدته في جريدة {البلاغ}، وكان حدثاً فارقاً، أن يسعى إليه {أمير الشعراء} بنفسه.   

زكي مبارك

اشتهر زكي مبارك بلقب {الـدكاترة} لحصولة على أكثر من دكتوراه وكان يطلق عليه أحياناً {القلم الجارح}... والقلب الجريح، فقد كان زكي مبارك يعتبر نفسه أنه ظلُم، ولم يأخذ حقه بين أنداده في ساحة الأدب مثل د. طه حسين وغيره ممن عاصرهم. 

ولد زكي عبد السلام مبارك في الخامس من أغسطس عام 1892 بقرية سنتريس بمحافظة المنوفية، وكانت أسرته ميسورة الحال، وقضى أيام طفولته في الكتاب يحفظ القرآن، وفي الحقل يعمل مع الفلاحين، وفي السامر يستمع إلى المغنواتية والمداحين وعشق المواويل، خصوصاً أن والده كان يحبها ويغنيها... ومن هنا ولدت في وجدانه ملكة الشعر.

وفي العاشرة من عمره أدمن القراءة، وفي السابعة عشرة من عمره أتم حفظ القرآن، ثم انتقل إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر في عام 1908، وسكن في غرفة فقيرة جداً في ربع يعقوب بحي الغورية، ليدمن التقشف بعدما أدمنه الفقر، ولم ينقذه من هذه الهوة إلا الشعر الذي كان بالنسبة إليه {سفينة نوح} أو {عصا موسى}، فاشتهر وذاع صيته حتى حصل على لقب {شاعر الأزهر}.

وفي عام 1914، تعرف إلى الشيخ سيد المرصفي الذي اكتشف في زكي مبارك موهبة تسير على درب تلميذه السابق طه حسين، وحصل ذكي على الليسانس في عام 1921، ولكنه لم يكن ليرضى بهذه الشهادة، خصوصاً بعدما وضع تجربة طه حسين نصب عينيه، وقرر أن يتفوق عليها، فبدأ بعد حصوله على الليسانس التسجيل للدكتوراه في موضوع شائك ومليء بالمتفجرات وهو «الأخلاق عند الغزالي»، واستطاع أن يحصل على الدكتوراه في وقت قياسي، حيث حصل عليها في عام 1924.

طالب دائماً بالوحدة العربية، وقد كان لجولاته في العراق وسورية ولبنان وفلسطين أثر كبير في تعميق مفهوم القومية العربية لديه، مما جعل السمة الأساسية لكل معاركه هي الدفاع عن أصالة الأدب العربي، وعراقة الثقافة العربية، وتأصيل الفكر العربي والمناداة بالوحدة العربية.

وكانت آخر كلماته قبل رحيله: {إن كلمة طيبة تضاف إلى كلمة طيبة أشرف وأعظم من كنوز تضاف إلى كنوز}.. وفي اليوم الثالث والعشرين من شهر يناير 1952 سقط زكي مبارك في شارع عماد الدين فشج رأسه شجاً كبيراً، ليموت بعد ساعات قليلة .

back to top