جولات في الشرق 1: كزانتزاكيس في مصر: معركة مُرعبة بين الإنسان والماء

نشر في 18-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 18-06-2015 | 00:02
نبدأ من اليوم الأول في الشهر الكريم، قراءة سطور عدد من المستشرقين والجوالة الغربيين، في مناطق وبلاد الشرق العربي، عبر القرون الماضية، على أمل أن نعيد الاعتبار إلى نظرة غربية منصفة لبلاد الشرق، التي عانت ـ ولا تزال ـ بؤسَ النظرة الغربية إلى أحوالها، ما ينعكس في المواقف الدولية ـ الغربية تحديداً ـ غير المنصفة إلى الشرق حتى اليوم.

نبدأ من سطور كتبها الروائي اليوناني الكبير {نيكوس كزانتزاكيس} صاحب الرائعة الروائية {زوربا}، والذي زار مصر في بداية حياته، وتضمنت رحلته إلى مصر، نظرة غربية تتمتع بأكبر قدر من التسامح والفهم للشرق وهمومه ومتاعبه، والتي صدرت في كتاب {رحلة إلى مصر ـ الوادي وسيناء}.

الروائي اليوناني المولود (١٨ فبراير ١٨٨٣م) في جزيرة كريت، قبل أن تنضم إلى الدولة اليونانية الحديثة، والمتوفى في (٢٦ أكتوبر ١٩٥٧) زار مصر، في أوائل القرن العشرين، حيث كتب رحلاته، على نفقة صحيفة {ليغثيروس لوغوس} اليونانية، التي موّلت له رحلة لزيارة الأراضي المقدسة، في القدس، خلال أعياد الفصح، عام 1926، وزيارة مصر في السنة اللاحقة، 1927، وقد صدرت ضمن كتابه {ترحال}، الذي شمل جولاته في عدة دول عبر العالم بينها جولة في فلسطين.

يبدأ كزانتزاكيس، الحاصل على جائزة لينين للسلام 1957، بعدما خسر جائزة نوبل لـ{الآداب} بفارق صوت واحد لصالح منافسه {ألبير كامو} عام 1956، رحلته إلى مصر كأيّ كاتبٍ كبير، من الصحراء، التي صادفته أولاً في رحلة من القدس إلى سيناء، ليرى مصر من ظهيرها الصحراوي، الذي يعطي انطباعاً مؤكداً عن الضرورة التي يجري لأجلها {نهر النيل}، وعن الحفاوة التي تعامل بها المصريون القدماء مع النهر الخالد.

المؤكّد أن الفترة التي زار فيها البلاد، كانت بمثابة اللحظة التي تسبق عاصفة {التمدُّن} التي عاشتها مصر بعد ذلك، خلال العقود اللاحقة من القرن العشرين، ما جعل مصر التي يصفها كاتبنا، محض صورة باهتة في ذاكرة بعيدة عن أصابعنا الآن، حيث غاب سحرها القديم بعد ذلك تحت سطوة التقدم، الذي فرّغ مصر من جانب كبير من سحرها التاريخي، ما يجعل التعبيرات الدقيقة للكاتب هنا حول مصر وناسها وشوارعها وبيوتها، مادة خصبة تصلح لرتق الذاكرة المثقوبة.

يلتقط كزانتزاكس بدايةً، وجوه المصريين وصحراءهم وحاجتهم إلى المياه، راصداً ما وراء {قناع الوداعة}، الذي يقول إنه أوَّل ما يُمكن أن يصادف المواطن الغربي على الوجه المصري، يقول، إنه كان يستطيع تمييز ذلك الوجه الحزين المكافح لمصر خلف هذا القناع، معلناً عن صدمته من تغير المسافة بين تصوراته كمواطن غربي عن المصريين الفراعنة بألوانهم الذهبية وآلهتهم العظيمة، والواقع المر الذي اكتشفه على الأرض، وسط المصريين الحقيقيين أواخر عشرينيات القرن الماضي ـ تقريباً ـ في العام الذي تٌوفي فيه الزعيم الوفدي سعد زغلول.

 يقول الروائي اليوناني الكبير: {اليوم، وأنا أنظر إلى مجرى النيل العميق المنخفض والخصب، أجد نفسي أفكر، وبلا إرادة مني، في التخلي عن كل التصورات السابقة حول الجواهر الذهبية، والألوان، والراقصين المصريين الشباب، والفراعنة المنتصرين، والآلهة العظيمة، لقد رأيت الحدادين أمام النار وقد تجعّدت أصابعهم مثل جلد التمساح، رأيت المزارعين بآلامهم المبرحة في الحقول، وهم يواصلون العمل في الليل، رأيت الحلاق، وهو يقص الشعر طوال النهار، يتنقل من بيت لآخر، بحثاً عن الزبائن وهو يبلي يديه من أجل ملء معدته، رأيت النساج يعاني الفقر في مَعمله، ركبتاه تنغرسان في بطنه، يتنفس الهواء الملوث، وعليه أن يرشو الحارس، كي يستطيع رؤية ضوء النهار، رأيت ساعي البريد الذي يبرهن على إرادته، قبل أن ينطلق، لأن هناك خطراً من افتراسه من قبل الحيوانات البرية المتوحشة أو الناس، رأيت الدباغ بعينيه المجهدتيْن، وأصابعه لها رائحة السمك العفن، يقضي حياته يقطع الجلد، ورأيت الإسكافي الذي يستجدي طوال حياته، حتى إنه قد يأكل الجلد الذي يعمل به كي لا يموت من الجوع}.

 

النخلة... والجمل

 

يواصل الروائي اليوناني الكبير جولته، على أرض مصر إذن، متتبعاً مسارات اللحظة المصرية الفارقة، تاريخياً واجتماعياً، منتبهاً إلى أن الإسكندرية هي محض مدينة يونانية، غافلاً ربما عن أن الحضارة المصرية القديمة، سبقت اليونانية بسنوات طويلة، خصوصاً أن الإسكندرية {المصرية} سبقت مدناً يونانية كثيرة، وفي أروقة {مكتبة الإسكندرية} جاء فلاسفة يونانيون ليتعلموا، ما بات ينسب بعد ذلك للحضارة اليونانية القديمة.

وبغض النظر عن الإسكندرية، أعلن الكاتب إعجابه عدة مرات بنهر النيل العظيم، وبالبلد الذي يجري فيه هذا النهر، معتبرا أن مصر ليست بالسهولة التي وصفها بها المؤرخ القديم {هيرودوت}، حين قال إن مصر {هبة النيل}، فهو يرى المسألة أعقد منذ ذلك بكثير.

 ويقول: {على طول الشريط الضيق، الذي يزهر بالخضرة، وسط تلك الصحراء البغيضة، هناك معركة مرعبة لا تنتهي بين الماء والإنسان، فإذا توقف هذا الصراع للحظة واحدة فقط، فإن كل ما يزيّن هذه الأرض من أشجار وطيور وناس، سوف يغمر تحت رمال الصحراء، فالفلاحون، ومنذ آلاف السنين يكدحون ليل نهار ويناضلون من أجل ترويض قوة الآلة الوحشية المتهورة، النهر الذي خلق طوفانه بنفسه، بشكل متناغم وأطل بطلعته المليحة، وخلق مصر}.

يقول إنه حين اقترب من منطقة الخلجان الواسعة للنيل والبحر، في منطقة الدلتا، كانت على وشك استعادة خضرتها: {كانت الأقبية القديمة، التي حفظت لنا من زمن الفراعنة، تتغلغل إلى شغاف قلبي، نحن مغمورون، شئنا ذلك أم أبينا، بهذا القلق المرعب لأزمنتنا، ومن المستحيل الآن على أي كائن حي أن يرتحل وهو خالي البال كسائح، إذن، ما هي القيمة المباشرة للأهرامات والمومياوات الذهبية ومعابد الكرنك العملاقة، وتماثيل الملوك المصنوعة من الجرانيت، ما قيمة كل ذلك بالنسبة لنا؟ وكيف يمكن لنا أن نتوقع أن تتملكنا الرغبة في الاستمتاع بتلك البساطة، دون أن ننظر بدهشة وحيرة إلى هاتين الحليتين الرائعتين، اللتين تزينان هذه الأماكن، وهما النخلة والجمل؟}.

لا يكتفي كاتبنا بملاحظة الصورة الخارجية لمصر ونهرها، لا يكتفي بالقشور بل يدخل في المضمون أيضاً، ملاحظاً التغيرات الكبيرة التي طرأت على إنسانية الإنسان، الذي يتعرض للاستعباد، صاحب الباع الطويل في مصر، وفق رؤية الكاتب، الذي يقول صراحة إنه جاء إلى مصر في وقت تُستعبد فيه الروح الإنسانية، من قبل الآلة والجوع، وتناضل من أجل الخبز والحرية، متحدثاً عن {صرخة العمال} التي تتصاعد كدخان الكراهية، وهي {صرخة الأرض التي تقطع نياط القلب}، يقول إن هذه الصرخة رافقته طوال رحلته في مصر، وأنها كانت هي التي تقوده، في بعض الأحيان.

يقول: {الطبيعة مدجَّنة ومُستعبدة، كطبيعة الفلاحين، فحقولها الموحلة مزروعة بالقطن، والبقول والذرة وأشجار النخيل والأكاسيا والصبار والتين الشوكي، وسماؤها مُثقلة، وألوانها كثيفة، وهواؤها مشبّع بالرطوبة، أما الغربان السوداء السمينة، فإنها تطير وتحط فوق الأرض المحروثة وطيور اللقلق التي تشبه الحروف الهيروغليفية، تقف على ساقٍ واحدةٍ، على ضفة النهر}.

 

السلطة الصارمة

 

أنصت الكاتب اليوناني لصوت النيل جيداً، وقف أمامه طويلاً وتأمله من جميع الجوانب ليفهم المجتمع المصري، رأى فيه امتداداً كبيراً لصور الماضي السحيق، فالنهر مسؤول عن صورة البشر الذين يقيمون على ضفافه، وهو الذي يخلق القانون السائد، ربما كان وراء سعي المصريين الدائم إلى تركيز السلطة في يد رمز سياسي واحد، يستطيع أن يتحكم في المياه كلها، ويوزّعها بالعدل، ما سهَّل ـ على حد زعم الكاتب ـ خلق {السلطة الفرعونيَّة المطلقة}.

يقول: {النيلُ لا يورِّث فقط الأرضَ والأشجارَ والحيوانات والناس، إنه يورِّث أيضاً القوانين، والحقائق العلمية الأولى، ففيضانه ليس مصدرَ خير دائماً، حينما لا تمكن السيطرة عليه، لذلك يجد الناس أنفسهم مجبرين على تنظيم أنفسهم، على العمل معاً ومجبرين على تحمل نصيبهم من الفيضان، ففي كل عام، تغمر مياه النيل الحقول، وتحطِّم الحواجز الرملية، ولذلك يصبح من الضروري لكل ملكية فردية أن تكتشف بوضوح فائدة تسجيل الأرض في سجلات الأراضي وبشكل دقيق، وبهذه الطريقة يكون النيل سبباً في خلق {القانون} ولأن كل بلد يعتمد على البلد الآخر، ولأن ازدهارها جميعاً يعتمد على التنظيم المحكم لتوزيع المياه، فإن النيل يجبر الناس على قبول قسوة الحكم الكهنوتي (السلطوي) الذي يمثل اجتماع كل السلطات في رمز سياسي واحد، يستطيع أن يتحكم في المياه كلها، ويوزّعها بالعدل، لذلك يبدو أنه كانت هناك حاجة ملحة، لوجود وخلق {السلطة الفرعونية المطلقة}.

يقول الكاتب إن النيل كان مقدساً وجوهرياً في هذا البلد، منذ قديم الأزل، حيث اكتشف المصريون أهميته مُبكراً، فقد كان الكهان يقدّمون القرابين للنهر، ويرفعون أيديهم بالدعاء له والثناء عليه، لأنه يحمي البلاد من التصحر، وينشر فيها مساحات خضراء هائلة، يحكي الكاتب اليوناني أن البشر في بقية دول العالم، جعلتهم الأمطار والفيضانات يهربون من السلطة الحكومية، أما في مصر فقد حدث العكس، حيث اقتصر تنظيم الماء على الحكومة فقط، مذكراً بأنه حين جاء نابليون بونابرت مصطحباً حملته إلى مصر {1798ـ 1801}، استطاع سبر أغوار هذا السر، الذي يجعل السلطة السياسية الصارمة، أمراً لا غنى عنه في مصر، فقد كتب نابليون يقول: {إذن إلى متى؟ إلى متى يقوم هؤلاء الناس التعساء، نصف العراة بجر المياه، وشق الترع والقنوات، وزرع البذور وعزق الأرض، إلى متى يستمر هذا النضال؟ طالما أن النيل سوف يتناقص في لحظةٍ ما، سوف يتناقص لتعود بعد ذلك رمال هذه الصحراء الرمادية الناعمة، التي لا تهزم أبداً}.

 

جماجم شوَتها الشمس

 

{في ليل الصحراء، تمددتُ قرب النار، وأنا أحاول الاستماع إلى آلاف الأنفاس الغامضة الغنائية للبريّة، كل هذه الأصوات الرومانية كانت ضائعة في لجة أصوات المدينة المأهولة المعذبة، التي انغرست في أعماق قلبي، قبل أن أنطلق}.

يبدأ الكاتب رحلته إلى القاهرة، قائلاً: {إننا نعيش في عصر ذي صرخة خاصة، بإمكانها إخماد كل الأصوات المرحة الرائعة للجمال والحكمة، هذه الأصوات التي أصبحت غير ذات جدوى لمتطلبات الحياة اليومية المعاصرة}، مشيراً إلى أننا نشاهد معه مِصر أخرى، غير التي كان يمكن رؤيتها قبل الحرب العالمية «الأولى ـ 1914}، وغير مصر التي تحملها عيون الإنسان المعاصر هذه الأيام، مبيناً أن الحرب لم تغيّر مصر فقط، وأن الأهم عنده، أن عيناً جديدة قد اختُرعت} للنظر إلى الأشياء، بعد الحرب.

حفرت رحلة الفيلسوف والروائي اليوناني إلى مصر إذن، بعيداً عن المسارات التقليدية للرحلات التي يكتبها الغربيون العابرون، حيث التقط الكاتب جوانب غير منظورة من قبل الرحالة العاديين، الذين ربما يقفون عند حدود المناخ والبيوت وظاهر البشر، لكن كزانتزاكيس يفعل هنا شيئاً آخر، في هذه الرحلة، إلى مصر.

يتعرَّف الكاتب إلى النماذج البشرية المصرية، بوصفها مكوناً رئيساً للثقافة المصرية، وتشكل جانباً مهماً في الثقافة العربية، راسماً لوحة شفافة للإنسان الذي يقيم على نهر النيل، للمرأة التي تمشي في طوابير إلى النهر لتملأ الجرار، وهي الصورة التي سرعان ما أظهرتها الأفلام السينمائية المصرية، المنتجة في الثلاثينيات من القرن الماضي، مصداقاً لقول كاتبنا ووصفه الصادق لمصر. 

يقول: {أما الفلاح، فيبدو كقطعة من المنظر الطبيعي، مصنوع من نفس الطين، يحني قامته أمام النهر، بجزره ومده منذ قديم الزمان، ويجر الماء ليملأ الأخاديد، يفعل ذلك كله بإخلاص مطلق ومهانة مطلقة، كأنه يحذو حذو أجداده في التقاليد التي مرت عليها آلاف السنوات، لم يتغير شيء، نفس الجباه الضيقة، نفس العيون اللوزية السوداء، نفس الشفاه السفلية الغليظة المتدلية، نفس الجماجم التي شوَتها الشمس، ونفس العبودية}.

ومن الرجال ينتقل الكاتب إلى وصف النساء: {أما النسوة، فنسوة قذرات، مثنيات القامة، كحيلات العيون، يسرن صوب النهر، كي يملأن جرارهن الفخارية، ويضعنها على (المدوّرة ـ الحواية) الموضوعة على طرف رؤوسهن الصلبة المغطاة، تماماً وفق ما كانت عليه تقتضي التقاليد، ويتسلقن حافة النهر بخط مستقيم، وببطء، واحدة إثر الأُخرى، حيث تلمع الخلاخيل الفضية، تحت أشعة الشمس، على كعوبهن التي لطخها الطين، ولفحتها الشمس}.

يعود الكاتب إلى المواثيق القديمة والكتابات الفرعونية، طوال رحلته إلى مصر، يقول إن هذه الكلمات وجدت على أحد الأهرامات، قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة من ميلاد المسيح: {أولئك الذين يدينون بالفضل للنيل يرتعدون، لكن الحقول تضحك وضفاف النهر تُزهر، وتنحدر قرابين الآلهة من السماء، إن قلب الآلهة يرقص فرحاً}.

وبينما يزيد الجدل اليوم، بعد توقيع اتفاقية {سد النهضة} الإثيوبي، التي أثارت الجدل بشأن حصة مصر في مياه النهر العظيم، في العام الخامس عشر من القرن الحادي والعشرين، يذكرنا الكاتب اليوناني الكبير، بتلك الأسطورة المصرية القديمة، حيث أقسم ثلاثة من الرجال أن يبحروا في اتجاه الجنوب طوال حياتهم، لكي يعثروا على منابع نهر النيل السريّة، وبعد عشر سنوات مات الرجل الأول وبعد عشر سنوات أخرى مات الرجل الثاني، دون أن يصلا إلى نهاية الماء، وحين أصبح عمر الرجل الثالث مئة عام، استلقى في قاربه مثل المومياء استعداداً للموت، لكن صوتاً انبثق من الماء وهمس له في أذنه ليواسيه: {مبارك أنت، لأنك الوحيد من بين كل الرجال الذي رأى أغلب الماء، مبارك أنت لأنك الآن ستنحدر نحو الحادس – مثوى الأموات في الميثولوجيا الإغريقية – سوف تعثر على منابعي، التي كنت تناضل وتجاهد من أجل الوصول إليها}.

الجذع النحيل

ومن الأنهار الثلاثة القديمة العظيمة المقدسة، }النيل والفرات والفانغ}، يقول الكاتب إن نهر النيل يبقى أكثرها قداسة، لأنه هو الذي نقل التربة وخلق الأرض، وهو الذي غمر الأرض فيما بعد بالماء وجعلها مثقلة بالثمار، يبقى النهر الذي أنجب النباتات والحيوانات والفلاحين، يقول: {وفي النهاية أجبر الناس على العمل معاً من أجل تنظيم واكتشاف العلوم الأولى}. 

وحتى نهاية شهر أغسطس، يكون النيل قد بلغ أقصى مستوى له وبعد ذلك يبدأ منسوب المياه فيه بالتناقص شيئاً فشيئاً، فتنتهي البهجة، ويبدأ زمن الأسى والحزن عند الفلاحين، الذين يبدأ موسم كدحهم وشقائهم منذ هذه الحظة، حيث تبدأ حراثة الأرض، وبذرها وريّها، وحصادها، وفي النهاية يظهر ذلك المظهر المأساوي لهذا الكدح، ألا وهو وصول }الأفندي}، ذلك الوجه السرمدي الذي يظهر بأسماء مختلفة: {الفرعون الكاهن}، {المالك الإقطاعي}، {التاجر}، {المرابي}، يقول كزانتزاكيس: {كلهم يأتون لجمع الثمار من تلك الأراضي}. 

هكذا استمع الكاتب اليوناني إلى {النغم المعذب}، الذي كان ينبثق من مصر كلها، حيث طلعت عليه شمس صباح اليوم الأول لوصوله إلى هبة النيل، مشيراً إلى أنه لو كان سافر إلى مصر في أيام {القديس فرانسيس}، لكان بإمكانه سماع {الروح البشرية}، وهي تغني غناءها الوثني وتدعو المسيح كي يخلعها، ولو أنه سافر في أيام {غوته}، لكان بإمكانه {التمتع بهذا الهارموني الجديد الذي ينبثق من الكنائس العملاقة الباردة، وامتلأ بالبهجة وهو يستمع إلى الصوت الهادئ للقساوسة وهم يباركون الفتى الإغريقي الموله، وهو يوغل في غموض الحياة والموت}.

يشير الكاتب إلى أنه بدءا من القاهرة، صعوداً نحو السماء نحو صعيد مصر وجنوبها، يبدو جذع مصر نحيلاً منبسطاً، مثل شجرة النخيل، يتمدد بين شريطين ضيقين أخضرين، بين فرعي النهر العميقين الزرقاوين، وعلى يمين وشمال ذلك الجذع، تنبسط رمال الصحراء الرمادية المترامية. 

لا ينسى الكاتب شيئا في مصر، فكل ما فيها تقريباً لا ينسى، من الطيور العديدة الألوان، إلى جماعات الديوك المزهوّة، بأعرافها الطويلة، والسنونو الزرقاء، بصدورها التي لها لون القرفة، لا ينسى الرجال النحيلين، ولا النسوة اللاتي تتدلى الأقراط من أنوفهن، مثلما لا ينسى حتى الأطفال الذين يتمرغون في الوحل، ويأكلون قصب السكر. 

ينهي الكاتب رحلته إلى القاهرة، بذكر الشمس التي تغرب فتشوب الجبال عبر الطريق، حمرة خفيفة، حيث تعبر الجمال في الغروب، بأعناقها التي تتمايل ببطء، وحيث يسحب الفلاحون دلاءهم، ليرووا الأرض وهم يصدحون بالغناء، حيث يبدو الكل مُسالماً وقانعاً، وتلك هي الخدعة المصرية التي تسببها مظاهر الدعة والسكنية، على وجوه المصريين. 

back to top