الفنان العالمي ميكا: والدي علّمني حب المجازفة!

نشر في 17-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 17-06-2015 | 00:02
أخذ المغني ميكا استراحة قصيرة بين تصوير إعلانين ترويجيين لألبومه الجديد No Place in Heaven للتحدث عن طفولته ومعاناته وقدرته على مقاومة الصدمات.

الفنان الأميركي اللبناني هو شخص حساس ووسيم، طوله 191 سنتم. يحب النجاح ويبدو لطيفاً مثل الأطفال ويمكن أن تدهشه أبسط الأمور... احتفظ من طفولته بِجوّ المرح وهذا ما ساهم في شهرته في عام 2007، حين سحر الجميع بطبقات صوته العالية وغنى أغنية Relax التي تحولت إلى شعار هذا الجيل الذي لم يعرف إلا الأزمات. ميكا صوت هذا الجيل الثلاثيني الذي يبدو ناضجاً وهادئاً ظاهرياً ولكنه يتمتع بضمير حي، وقد تجعله خيبات الأمل قريباً من الاكتئاب وجاهزاً لمواجهة جميع التحديات في الوقت نفسه.

بعد محاولة الوصول إليه طوال أسابيع، حصلنا أخيراً على فرصة إجراء لقاء مع شاب لطيف ومرح، رغم بعض النغمات الدرامية التي تجعل صوته مؤثراً أحياناً. يُعتبر ميكا ظاهرة تجارية أيضاً أو أشبه بشركة عائلية صغيرة لا تكف عن التحرك: من الواضح أنه شخص عنيد في مجال العمل. شاهده الجميع على المسرح، أو على الأقل كعضو في لجنة تحكيم برنامج The Voice بنسخته الفرنسية حيث تميز بأزيائه المزخرفة والغريبة. يبقى فتىً مشاغباً ورجلاً حكيماً وناضجاً في الوقت نفسه. ميكا عالم بحد ذاته. مقابلة مع {فنان} بمعنى الكلمة في مجلة {بسيكولوجي}...

يوحي اسم الألبوم No Place in Heaven ({لا مكان في الجنة}) بشكوى يطلقها شاب يشعر بأنه لا يستحق دخول الجنة لأنه ارتكب خطايا كثيرة. هل هذا هو انطباعك الفعلي؟

 

{شكوى}! أحب هذه الكلمة التي تحمل معنىً درامياً وممتعاً في آن. نعم، تعبّر الأغنية عن نظرتي إلى الوجود. من خلالها، أردتُ أن أهدم مفهوم الجنة من أساسه: أخاف من فكرة الاضطرار إلى كسب مكان لي في عالم آخر يكون أفضل من هذا العالم. لإحراز التقدم وتحقيق السعادة، يجب تدمير ذلك المفهوم قبل التمكن من التركيز على الحاضر. لكنّ العملية ليست سهلة، وتحديداً بالنسبة إلى الأشخاص الذين تربّوا مثلي في مدارس دينية كنا نبدأ فيها اليوم بالصلاة لعشرين دقيقة!

 

أنت لا تحب هذا الجانب {الديني}؟ 

 

لم أكن أحب المدرسة على وجه التحديد! مع أنني اختبرتُ فيها أولى تجاربي الموسيقية في الجوقات الدينية. في النهاية، توصلتُ إلى اتفاق مع المدير فسمح لي بتفويت بعض الحصص من وقت إلى آخر لكن بشرطين: كان عليّ أن أتمم فروضي المنزلية وأغني في الجوقة الدينية!

 

في العمق، هل كانت الموسيقى بالنسبة إليك منفذاً للهرب من واقعك؟

 

لا، لم أكن أسعى إلى الهرب بل إلى الصمود! سمحت لي الموسيقى بالتحكم بالواقع من خلال إسقاط نفسي في عالم خيالي مختلف. لطالما كنت أتحدث عن الشخص الذي أحلم بأن أكونه منذ بدأتُ أغني. لهذا السبب تحديداً أجد الراحة في عالم الموسيقى وأشعر أنني {بأمان}.

تعطيني الألحان القوة وهي أشبه بـ}العضلات} التي أفتقر إليها. وقد شعرتُ بذلك منذ مرحلة مبكرة جداً. حين كنت في السابعة من عمري، أصبحتُ {مهووساً} بالنغمات. كنت أتنزه وأنا أحمل حقيبة مليئة بالأشرطة التي سجّلتُ عليها نغمات كلاسيكية صنّفتُها بحسب نوعها ({مثيرة للفضول}، {قوية}، {حزينة}...). حين كنت أريد أن أقول شيئاً لطفل يزعجني أو لوالدتي، كنت أكتب أقوالي وأُلْحِق النص بلحن يعطي القوة لكلماتي.

 

ما الذي جعلك بحاجة إلى استعمال هذه الطريقة للتعبير عن نفسك؟

 

لا أعلم، لم أكن أشعر بالارتياح بكل بساطة. لقد كنت أعيش حالة معاكسة تماماً لتلك التي أختبرها حين أغني. لا يزال الوضع على حاله الآن. أنا سعيد في حياتي اليوم، لكني أشعر بهامش أوسع من القوة والحرية حين أصعد على المسرح.

 

كيف كانت طفولتك؟

 

كانت سعيدة جداً وشعرتُ خلالها بمستوى مرتفع من الاستقرار العاطفي. لكن كان الوضع معقداً من الناحية المادية. حتى عمر السابعة أو الثامنة، كنا نعيش في حي جميل جداً من أحياء باريس. كانت والدتي تعمل في المنزل حيث ترسم الملابس للأولاد وكان عمل والدي جيداً. لكنه خسره في مرحلة معينة تزامناً مع تدهور عمل والدتي.

 هكذا فقدنا كل شيء فجأةً وتمت مصادرة جميع أملاكنا. بالنسبة إلى طفل بهذا العمر، يكون فقدان وسائل الراحة التي اعتاد عليها طوال حياته وضعاً غريباً جداً...

 

لا شك في أن هذا الوضع يبث شعوراً بانعدام الأمان.

 

أكثر ما يزعزع الشعور بالأمان هو أن يرى الطفل والدَيه يبكيان. لكني أظن أن فقدان كل ما لدينا زادنا قوة. منذ ذلك الحين، صرتُ أتوخى الحذر من الرخاء المادي المفرط. جعلتني تلك التجربة أفهم ضرورة البحث عن الاستقرار خارج إطار الماديات.

عاشت والدتي التجربة نفسها مع والدها السوري الذي أبحر نحو جزيرة إيليس من دون فلس في جيبه قبل أن يجمع ثروة كبيرة في نيويورك. عند وفاته، كانت والدتي في الثامنة عشرة من عمرها وقد خسرت كل شيء. لحماية أولادها من الصدمة التي عاشتها بدورها، ربّتنا وهي تحدّثنا عن أهمية تعلّم حرفة معينة. كانت تقول دوماً: {إذا كنت تستطيع ابتكار شيء ملموس، ستبقى مفيداً وستتمكن من الصمود في كل مكان}.

ليست صدفة أن يكون أولادها الخمسة اليوم فنانين. لكن يجب أن ألفت إلى أننا ربينا في منزل مليء بالموسيقى والرسم والكتب... والحرية.

 

في سياق عائلي مماثل، ما كانت مصادر قلقك في الطفولة؟

 

كان قلقي يرتبط في المقام الأول بعدم قدرتي على التكيف مع جو المدرسة والعالم وما ينتظره المجتمع مني بشكل عام. كنت أشعر بالإحباط لأنني لا أجيد التعبير عن حقيقة مشاعري. لطالما وجدتُ بعض الصعوبة في القراءة لكن زادت حالتي سوءاً حين استقرينا في إنكلترا وكان عمري حينها 8 سنوات. تأثرتُ حتماً بتغيير مكان السكن وبالمدرسة أيضاً: 

وجدتُ نفسي في مدرسة فرنسية صارمة جداً حيث يمعن المعلّمون في إهانة التلامذة. حين تكون طفلاً حساساً، يزيدك هذا الوضع هشاشة. في مرحلة معينة، نسيتُ مهارة القراءة والكتابة ولم أكن أستطيع قراءة نوتات الموسيقى.

 

كيف تجاوزتَ هذا الوضع؟

 

خلال بضعة أشهر، اكتشفت إحدى شقيقاتي بالصدفة الإهانات التي توجّهها لي معلمتي وأبلغت والديّ. جاء والدي بحثاً عني في المدرسة وما زلت أتذكر الفضيحة التي حصلت بينه وبين المعلّمة في وسط الملعب! استدعانا المدير المستاء وأبلغنا بأنني لا أستطيع العودة إلى المدرسة. ويا للسعادة التي انتابتني! أخيراً جاء اليوم الذي طُردت فيه! (يضحك)

 

بماذا احتفظتَ من ذلك الطفل؟

 

الشخص الذي شعر يوماً بالتهميش لن ينسى ما عاشه أبداً. أحمل تعاطفاً كبيراً تجاه {المنبوذين} و{المحرومين}. حتى إنني أبحث عنهم وأدافع عنهم. وأشعر بالفخر لأنني كنت واحداً منهم. يجب أن يفتخر الجميع باختلافهم.

 

ما الذي ساعدك على تحويل نقاط ضعفك إلى مصدر قوة؟

 

في عمر الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، حين بدأتُ أكتب الأغاني جدياً وأدركتُ حجم تأثيرها على الآخرين وعليّ شخصياً، ابتكرتُ {سياقاً} مختلفاً للأحداث وحصلتُ أخيراً على عالم خاص بي حيث أجد نفسي وأستطيع التعبير عن مشاعري.

 

ما يفاجئني لديك هو هذا المزيج من الحيوية والهدوء...

 

تتسم والدتي بالميزة نفسها. هي امرأة قوية. حين نعمل معاً، لا يمكن أن يشك الأشخاص الذين لا يعرفوننا بأنني ابنها لأننا نتكلم بفظاظة. لكنها تحتفظ أيضاً بجانب هادئ جداً. بحسب رأيي، لا شيء أصعب من أن تزيدنا الحياة قسوة.

هل تشعر بأنك هش؟

 

طبعاً لا! أعرف أنني حساس. لكنّ الهشاشة مشكلة خطيرة جداً لأنها تجعلنا انفعاليين أمام الظروف وتدفعنا إلى استباق الأمور. لا بد من حماية الذات والتحلي بالشجاعة الكافية لتجنب الهشاشة والتشكيك بكل شيء. لهذا السبب أعمل كالمجنون، لأنني في العمق لا أثق بقدراتي وأعلم أنني سأفشل إذا تساهلتُ مع نفسي.

 

ما أكثر ما يخيفك في الحياة؟

التعصب وعدم تقبّل الآخرين لي! النجاح يسهّل العلاقات لكنه لا يحمي بالكامل من التعرّض للرفض.

 

عرفتَ النجاح قبل 25 سنة. ماذا تتمنى للمستقبل؟

 

أن أشعر دوماً {بالجوع} إلى النجاح. بعد كل عمل، أعود إلى أرض الواقع وقد أنزل أحياناً تحت مستوى البحر! يجب أن أستأنف العمل لاستعادة ذلك الشعور بالاكتفاء والسعادة. الابتكار مفهوم قاسٍ. لكني تعلّمتُ أن أتقبل تلك التقلبات. هي تمنحني {جانباً عاطفياً} (يضحك).

 

هل حاولتَ تهدئة تلك الانفعالات من خلال التأمل مثلاً؟

 

نعم، حتى إنني ذهبتُ لرؤية راهب بوذي. خلال ساعتين، انفجر بالضحك: لم يسبق أن قابل شخصاً يعجز عن التحكم بنفسه لهذه الدرجة. لكني أمارس التسلق في مناسبات كثيرة، وهو شكل من التأمل بالنسبة إلي: حين نكون معلّقين على علو بضعة أمتار فوق الأرض، من الأفضل ألا نفكر بأي أمر آخر في تلك اللحظة. لاستعادة الهدوء، يجب أن أتواجد فوق جبل معين أو على المسرح، ما يعني ضرورة أن أكون دوماً في خطر! (يضحك)

•  أين {تجد} نفسك؟ من أين تأتي؟

 

لا أعلم... مع أنني لم أعش أي فترة في لبنان، إلا أن الثقافة اللبنانية حاضرة جداً في عائلتنا: في الألوان والروائح والطعام... لكن في الوقت نفسه لا أستطيع أن أقول إنني أشعر بأنني من بلدة أو مدينة معينة. هذا الأمر كان يحزنني والآن أكثر من السابق.

لا أشعر بالارتباط بأي مكان ولا أسعى إلى ذلك. عائلتي هي مجتمعي وفيها أجد هويتي، تماماً مثل البدو الذين يتجولون باستمرار. يكون البدو أقرب من غيرهم إلى الطبيعة لأنهم في حركة مستمرة مثل الفصول أو الرياح. في المقابل، تنشأ الصراعات بسبب الحواجز التي نبنيها بيننا. أظن أنني سعيد لأنني تعلّمتُ أن أحب حياة الترحال. أنا آسف! السؤال عن عائلتي وأنا أتكلم عن البدو... (يضحك)

 

• هل ذهبتَ يوماً إلى معالج نفسي؟

 

أبداً. منذ خمس سنوات، سقطت شقيقتي من النافذة على علو بضعة أمتار أمام عينيّ. تأثرتُ بتلك الحادثة كثيراً، ومع ذلك لم أقصد أي معالج نفسي. لم أشعر بالحاجة إلى ذلك، بل أصدرتُ ألبوم أغانٍ. تهدئني الموسيقى لأنها تسلط الضوء على الجوانب التي تكون مظلمة في العادة ولأنني تعلّمتُ النضال معها.

 بعد طردي من تلك المدرسة التي تحدثتُ عنها سابقاً، قالت لي والدتي إنني سألازم المنزل لفترة، فسررتُ بذلك كثيراً. لكنها وجدت لي أستاذة غناء صارمة وبارعة في آن. كنت أبكي يومياً كي لا أراها إلى أن وجدتُ أخيراً المتعة في ما أفعله. كانت تلك الأستاذة أشبه بمعالجة نفسية في حالتي...

 

• يسهل أن نلحظ الأمور التي تدين بها لوالدتك. لكن ماذا عن والدك؟

 

أدين له بالكثير! هو رجل صالح وذكي جداً. حين كان في الجامعة، في عمر السادسة عشرة، دخل إلى قسم الإدارة المالية. لكن كان يمكن أن يصبح فناناً بحسب رأيي. علّمني والدي حب المجازفة من دون أن يضغط عليّ في دروسي وقد ترك لي حرية اختيار طريقي.

أدين له أيضاً بكرهي للعجرفة. هو مثقف جداً ويكره التكبّر ويعشق ثقافة بوليوود وريلكه وموباسان، ويرفض رسم الحدود بين الطبقات وهذا ما أحارب ضده أيضاً.

أجوبة سريعة

 

حلم متكرر: 

{أمشي في الشارع وأفقد أسناني لكني أعيد التقاطها وأضعها في جيبي}.

 

رهاب: 

{البحر. أحب تأمل البحر وأحواض السباحة لكني لا أغوص في الماء. وإذا فعلتُ، أعود وأخرج فوراً. هذا ما جعلني أحترف التزلج على الماء}.

 

عادة مزعجة: 

{لا أكف عن العبوس ولا أعرف السبب. لكن يظهر بعض التجاعيد على جبيني بسبب هذا التعبير فأبدو رجلاً عمره 50 سنة}.

 

أول ذكرى من الطفولة:

 {باريس، شقتنا المليئة بالأضواء، علبة سجائر أبي على الطاولة المنخفضة في الصالون، رائحة التبغ التي تغلّفنا، شقيقاتي بفساتين مزركشة}.

 

طعام لا تنسى رائحته: 

{حلوى فرنسية باللوز. هي ليست حلوى {لبنانية} لكني أحب قول دعابة في العائلة: {نسيبتي لبنانية جداً لدرجة تجعلها مقتنعة بأنها فرنسية!}.

 

كذبة: 

{حين أبدأ الجملة بعبارة {هذا رائع!}، يعني ذلك أنني غير موافق بأي شكل على الاقتراحات التي أسمعها}.

 

خرافة: 

{أنا شخص متطيّر. إذا رأيتُ فلساً واحداً في الشارع مثلاً، أركض لالتقاطه. أشعر بالرعب عند التفكير بترك المال أرضاً}.

 

back to top