إلهام النمو الاقتصادي

نشر في 26-05-2015
آخر تحديث 26-05-2015 | 00:01
ربما تعكس قوة الاقتصاد الأميركي النسبية الواضحة اليوم بعض الإلهام الشديد الوضوح مؤخرا، فقد ساعدت ثورة التكسير، التي يرى كثيرون أنها نشأت في الولايات المتحدة، في خفض أسعار الطاقة والتخلص من اعتماد أميركا على النفط الأجنبي.
 بروجيكت سنديكيت في خطاب تنصيبه لفترة ولايته الأولى، وخلال أوج أزمة الكساد الأعظم، قال الرئيس الأميركي فرانكلين ديلانو روزفلت للأميركيين في مناسبة شهيرة: "الشيء الوحيد الذي ينبغي لنا أن نخافه هو الخوف ذاته"، وفي استحضار لسِفر الخروج أضاف قائلا: "نحن لم يضربنا وباء الجراد"، لم يكن هناك أي شيء ملموس يمكن اعتباره سبباً للكساد؛ بل كانت المشكلة في مارس 1933 في أذهان الناس.

وبوسعنا أن نقول الشيء نفسه اليوم، بعد مرور سبع سنوات منذ اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، عن نقاط الضعف الكثيرة المتبقية التي تعيب الاقتصاد العالمي. إن الخوف يدفع الناس إلى تقييد إنفاقهم ويدفع الشركات إلى حجب استثماراتها؛ ونتيجة لهذا يضعف الاقتصاد، فتتأكد المخاوف ويزداد الإنفاق تقييدا، ويزداد الانكماش عمقا، وتنشأ حلقة مفرغة مسيطرة من اليأس، ورغم مرور أزمة 2008 المالية، فنحن لا نزال عالقين في الدورة العاطفية التي حركتها الأزمة.

الأمر أشبه برهبة المسرح، فالاستسلام لارتباك الأداء يؤدي إلى التردد أو فقدان الإلهام، ومع تحول الخوف إلى واقع، تتفاقم حالة القلق والارتباك، ويزداد الأداء سوءا، وبمجرد أن تبدأ مثل هذه الدورة، فقد يصبح إيقافها بالغ الصعوبة.

وفقاً لغوغل، بدأ ظهور المصطلح "حلقة التغذية المرتدة" بشكل متكرر في الكتب خلال فترة الكساد الأعظم- في أواخر الثلاثينيات تقريبا- وكان مرتبطاً بالإلكترونيات غالبا، فإذا وُضِع مايكروفوناً أمام مكبر صوت، فسوف يتسبب بعض التشويش في نهاية المطاف في جعل النظام يصدر عويلاً مؤلماً مع تردد حلقات الصوت بين مكبر الصوت والمايكروفون على نحو مستمر. ثم في عام 1948، انتشرت عبارة "نبوءة ذاتية التحقق" التي أطلقها عالِم الاجتماع العظيم روبرت ميرتون في مقال حمل ذلك العنوان، وكان مثال ميرتون الرئيسي أزمة الكساد الأعظم.

ولكن ذاكرة الكساد الأعظم تتلاشى اليوم، وربما لا يتخيل كثيرون أن مثل ذلك الشيء ربما يحدث الآن، فهم يتصورون أن الضعف الاقتصادي لابد أن يكون راجعاً إلى سبب ملموس وليس حلقة تغذية مرتدة، ولكن هذا التصور غير صحيح، والدليل الأكثر مباشرة هو عدم ازدهار الاستثمار رغم انخفاض أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق.

الواقع أن أسعار الفائدة الحقيقية (المعدلة تبعاً للتضخم) تحوم حول الصِفر في أنحاء كثيرة من العالم، وكانت هذه هي الحال لأكثر من خمس سنوات، ويصدق هذا بشكل خاص على الاقتراض الحكومي، ولكن أسعار فائدة الشركات أيضاً كانت عند مستويات بالغة الانخفاض.

في مثل هذه الظروف، ينبغي للحكومات التي تدرس اقتراحاً ببناء طريق سريع جديد، على سبيل المثال، أن تعتبر الوقت الآن مثاليا، فإذا كان الطريق السريع سوف يتكلف مليار دولار، ويدوم إلى أجل غير مسمى بفضل أعمال الصيانة والإصلاح المعتادة، ويعود على المجتمع بفوائد متوقعة تعادل 20 مليون دولار سنويا، فإن سعر الفائدة الحقيقي الطويل الأجل بنسبة 3 في المئة يجعل هذا المشروع غير قابل للتنفيذ: ذلك أن تكلفة الفائدة سوف تتجاوز المنافع المترتبة على المشروع. ولكن إذا كان سعر الفائدة الحقيقي الطويل الأجل 1 في المئة، فينبغي للحكومة أن تقترض المال وتنفذ المشروع، وهذا هو الاستثمار السليم.

الواقع أن عائد سندات حكومة الولايات المتحدة المرتبطة بالتضخم لمدة ثلاثين عاماً كان اعتباراً من الرابع من مايو 0.86 في المئة فقط، مقارنة بأكثر من 4 في المئة في عام 2000، وهذه الأسعار منخفضة بشكل مماثل اليوم في العديد من البلدان.

إن احتياجنا إلى الطرق السريعة لم يتراجع بكل تأكيد؛ بل على العكس، أصبحت الحاجة إلى الاستثمار أكثر وضوحا، وذلك نظراً للنمو السكاني. لماذا إذاً لا نشهد طفرة في بناء الطرق السريعة؟

الحق أن ضعف شهية الناس لخوض المجازفات الاقتصادية قد لا يكون راجعاً إلى الخوف فحسب، على الأقل ليس بمعنى القلق والارتباك على نحو أقرب إلى رهبة المسرح، وقد يكون نابعاً من الاعتقاد بأن الآخرين يشعرون بالخوف، أو أن هناك بعض الأخطاء الجسيمة في بيئة الأعمال على نحو لا يمكن تفسيره، أو الافتقار إلى الإلهام (وهو ما قد يساعد في التغلب على المخاوف في الخلفية).

ينبغي لنا أن نلاحظ أن الولايات المتحدة شهدت أسرع نمو اقتصادي منذ عام 1929 في الخمسينيات والستينيات، وكان ذلك وقت الإنفاق الحكومي المرتفع على شبكات الطرق السريعة بين الولايات، والذي أطلق في عام 1956. ومع اكتمال الشبكة، أصبح بوسع المرء أن يعبر البلاد ويصل إلى مراكزها التجارية على طرق عالية السرعة تصل إلى 120 كيلومتراً في الساعة.

ولعل شبكة الطرق السريعة الوطنية كانت أكثر إلهاماً من تلك المشاريع التي حاول بها روزفلت تحفيز الولايات المتحدة لإخراجها من أزمة الكساد الأعظم، ففي إطار فيلق الخدمة المدنية الذي أنشأه على سبيل المثال، تم تجنيد الشباب لتنظيف البرية وزراعة الأشجار. وكانت تجربة سارة- وربما تجربة تثقيفية- للشباب الذين كانوا سيصبحون عاطلين لولا ذلك، ولكن تلك التجربة لم تكن مصدر إلهام عظيم للمستقبل، وهو ما قد يساعد في تفسير عجز صفقة روزفلت الجديدة عن إنهاء الوعكة الاقتصادية في أميركا.

وعلى النقيض من هذا، ربما تعكس قوة الاقتصاد الأميركي النسبية الواضحة اليوم بعض الإلهام الشديد الوضوح مؤخرا، فقد ساعدت ثورة التكسير، التي يرى كثيرون أنها نشأت في الولايات المتحدة، في خفض أسعار الطاقة والتخلص من اعتماد أميركا على النفط الأجنبي، وعلى نحو مماثل، يعكس قسم كبير من التقدم السريع الذي شهده قطاع الاتصالات في السنوات الأخيرة الإبداع- الهواتف الذكية والكمبيوتر اللوحي وبرمجياته على سبيل المثال- الذي كان منشأه في الولايات المتحدة أيضا.

إن زيادة الإنفاق الحكومي من الممكن أن تساعد في تحفيز الاقتصاد، على افتراض أن هذه الزيادة تعمل على توليد مستوى من الإلهام أشبه بذلك المستمد من شبكة الطرق السريعة بين الولايات الأميركية، وليس صحيحاً أن الحكومات غير قادرة بطبيعتها على تحفيز مخيلة الناس، فليس المطلوب مجرد ترقيع هنا أو هناك، بل شيء كبير وثوري.

كانت برامج استكشاف الفضاء الممولة حكومياً في مختلف أنحاء العالم بمثابة إلهام عميق، وبطبيعة الحال كان العلماء، لا الحكومات، هم الذين قادوا المسيرة، ولكن مثل هذه البرامج، سواء مولها القطاع العام أو لم يمولها، كانت قادرة على تحويل الناس سيكولوجيا، فالناس يرون فيها صورة لمستقبل أعظم، ومع الإلهام ينحسر الخوف، الذي يشكل الآن، كما كانت الحال في عهد روزفلت، العقبة الرئيسة التي تحول دون تحقيق التقدم الاقتصادي.

* روبرت جيه. شيلر | Robert J. Shiller

حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد عام 2013، وأستاذ الاقتصاد في جامعة ييل، والمؤسِس المشارك لمؤشر كيس-شيلر لأسعار المساكن في الولايات المتحدة، وقد صدرت مؤخراً الطبعة الثالثة من كتابه "الوفرة الطائشة" مع فصل جديد يتناول سوق السندات.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top