سنة العصافير

نشر في 23-05-2015 | 00:01
آخر تحديث 23-05-2015 | 00:01
No Image Caption
رسائل الثلج

رغم أنّ الربيع أَعلن عن نفسه مراراً، إلاّ أنّ الشتاء هذا العام أَبى أنّ يَنصرف، دون أنّ يترك في فم هذه القرية الكبيرةِ نكهة البرد الذي لا يُنسى.

ما كادَ نيسان المتأهبُ يخطو خطواته الأولى، حتى كانت غيوم رمادية مريرة تَعبرُ السماء الفضية، كأنّها طلائع هجوم مُرتدّ لجيشٍ مهزوم.

على عجلٍ ارتدى شهاب ثيابه، وتَحزَّمَ فوقها.

نادى وَلديه:

- لا تغادرا الدار. الطقسُ سَيّئٌ، والسائِمَةُ لم تَعُد من المرعى. ربما أحتاج إليكما.

قال ولده حمد:

- هذا مطر نيسان، لا يوجد ما يثير الخوف.

- ليسَ من عادة نيسان أنّ يأتي بكل هذا البرد، في أشهر الشتاء لم يحدث مثل ذلك.

الضُحى يأخذ دفء الصباح ويمضي، مفسحاً للظهيرة المكفهرة طريقاً شاسعةً، تزدحمُ غيومُها، وتُطبقُ على سطوح البلدة وكرومها هاطلاً شرساً تئِنّ من ثقله الأبواب والنوافذ، دافعاً المزاريب اليائسة للالتصاقِ بأحجار الجدران الثخينة، تاركةً على الشقوق ماءَها يفيض كأنّه أفاع هاربة، بينما الريح تَفِرُّ شرقاً، تجاه الجبل، مُطْلِقةً نُواحاً مُخيفاً، جَعل الدروب والأزقة الموحلة تحتمي تحت ظلالِ البيوتِ والأشجار.

أقْعَت الكلاب خرساً أمام الأبواب. القِطط تَسللت إلى الغرف الآمنة، بقيت العيون القلِقة تنظر من خلال النوافذ هذا المطر التوراتي المباغت.

اللّوزُ فقط، أطلق لزهرهِ العنان، فتراكض مع الهواءِ كأنّه نثار ثلجٍ مجنون، رسالة ثلج قادم.

بدأ نَفْنافُ الثلج يختلط بزهر اللّوز المتطاير. لقد تحققت أسوأ خواطر شهاب: السائِمةُ لم تَعُد، والطقس يزداد سوءاً. نظر إلى زوجته قَلِقاً:

حَدَثَ ما كنا نخشاه، إنّها تُثلج!

***

قبل أن يأوي إلى فراشه وقد هدأت نفسه بعودة السائمة، التَفَتَ إلى زوجته وقال:

- لقد ستَرها الله معنا هذا النهار، وعسى أن يصبح الطقس أفضل في الغد.

- إن شاء الله، يصبح أفضل.

غسلت بعض القدور، وجَلَبت حطباً. أوقدت ناراً تحت قِدرٍ تغلي.

بينما تُعِدّ الطعام لزوجها وولديها المتعبين، كانت رائحته تَنتشر وتعبث بشهية الرجال الجائعين. جلستْ على حجر قرب الموقد تنتظر استواء الطعام.

نظرتْ من خلال دخان الحطب المتصاعد، رأت فارساً قادماً من مِعطفِ العتمة الوافدة. قالت:

لا شَك، هذا ضيف آت إلينا.

رغم إحساسه بالجوع الذي تثيره رائحة الطعام، كان أبو حمد شهاب على وشك أن يسْتَسلِم للنوم، عندما نادت عليه زوجته تُعلِمه بقدوم الضيف.

انتفض من رقاده مُرَحَّباً بالضيف، الذي تَرجَّلَ عن جواده وبدا مسرعاً مضطرباً، وما أن وطأت قدماه الأرض حتى نادى بأعلى صوتِه:

- يا أبا حمد! الأولاد، والحلال، في (ظهر الجبل)، والثلج أكوام، أكوام. الفزعة يا أبا حمد!

- تفضل يا عنيزان! هدئ من روعك، واتكل على الله. إن شاء الله لا يصير غير الخير.

- أنا خائف على العيال، والحلال.

- اهتدِ بالله. الليلة لا نستطيع الوصول إليهم في هذا الطقس العاصف. ننتظر الفجر ونسري إليهم. هل سلاحهم معهم؟ وعندهم حطب؟ وبَيت شَعْر يأوون إليه؟

- أي والله. عندهم حطب، ومعهم سلاح وبيت شَعْر صغير ينامون فيه، ويحفظون متاعهم.

- إذن لا تخف. الليلة نبيت هنا، وغداً نمضي إليهم {ونصابحهم مصابحة، والصباح رباح».

الفقر والمطر

في مثل هذا اليوم العاصف، منذ أكثر من عشرين عاماً، الثلجُ وزهر اللوز يتطايران مع الريح ثم يتساقطان على الأرض، والبرد يَكمُّ أفواه المنازل ويمنع السكان من مغادرتها. نادت الدايَة على (أسعد) المضطرب، قدمت له الطفل في اللفّة البيضاء. لم يمض على حضوره إلى الدنيا سوى دقائق قليلة. نظر إليه مشفقاً، وجده مغمض العينين ويبتسم. قال:

سمُّوهُ {نجم}، لقد جاء إلى الحياة في زمن أسود.

انتزعَ {نجم} من ضيق الأيام وقسوتها، ومن شقاء اليتم والفقر، أسبابَ بقائه قوياً في مواجهة متاعب الحياة. كان بَعدُ طفلاً حين فقد أباه، ترك هذا الفقد المبكر ظلالاً بائسة على حياته وحياة إخوته.

حدث هذا، حين قصد والدُه {أسعد} قرية {عين النوارة}، لتحصيل دَين قديم، كان يَوَدُّ نسيانه لولا عسرة الأيام.

بعد مطالبات لم يُردّ عليها، مضى، عَلَّه يجد مَدينَهُ قادراً على الوفاء، فيستوفي دَيْنَهُ ويعود إلى بيته. أَودع زوجته أمينة، وأولاده الأربعة الذين لم يتجاوز أكبرهم الثامنة من العمر في رعاية والده، وذهب جنوباً.

البلاد في حالة شح وعوَز، وتَضيق على أهلها. كانون الثاني حمل غيومه ورحل، والسَنة الجديدة تأتي خجولة كأنّها ضيف لا يستحق الترحيب.

منذ أول الشتاء وحتى بداية العام الجديد، لم ينزل مطرٌ يُنبت زرعاً يبلغ الحصاد، أو عشباً يُشبع شياهاً جائعة، حتى ظنّ الناس أَنّ المَحْلَ يطرق أبواب الفلاحين المنتظرين رحمة السماء.

لمواجهة سَنَة عجفاء، قطعَ المسافات الوعرة والموحشة، متجاوزاً البلدات والقرى المنتشرة جنوباً. في جِرابه زوّادة، قليل من الخبز واللبن وبعض البصل. لم يتزود بالماء، فالطريق في مثل هذا الشهر لن تخلو من بعض الماء، في الأودية، والبرك، والأجران العميقة في بعض الصخور.

لا يحمل ما يعيقه عن الإسراع في المشي، وهَمّهُ ألا تسبقه الشمس إلى المغيب وهو في الخلاء، بعيدٌ عن قرية يَبيتُ فيها، خَوْفاً من الوحوش والصقيع الليلي، حيث لا يكسو بَدَنَهُ سوى القليل من الثياب الشتوية، ولا يحمل سلاحاً سوى الإيمان.

لم يكن المسير النهاري على طوله مُتْعِباً. الشمس الشتائية، والمشي الحثيث، يبعدان عنه المداعبات اللاذعة لنسمات ريح الجنوب الباردة، ورؤية السهول والكروم المعشبة تترك في نفسه طمأنينة غامرة تفيض على روحه.

وَصل قرية {الحَوَرة} عند المساء، دَلَفَ إلى بيتٍ قريبٍ من الطريق. استقبله صاحب البيت بالترحاب. أدخله المضافة، وأتاهُ بماء ليغتسل. لم يمضِ سوى وقت قليل حتى كان {طَبَقُ الزاد} ممدوداً، وعليه ما جادت به أحوالُ المضيف، وهو كثير من رزقِ فلاح فقير.

تناول الشيخ طعامه، وشكر مضيفه:

- الله يزيدك من نِعَمِه.

- هذا أقل من واجبك، يا شيخ!

بعد سهر قصير، تخللته أحاديث مختلفة عن أحوال الجبل وأحوال الناس. حملات الأتراك والمعارك التي حدثت، وانقسام أهل البلاد منذ العامية. أوى الشيخ أسعد إلى فراشه، ونام قرير العين في مضافة {أحمد الواكد} الدافئة.

عند الفجر، كان يتأهب للمغادرة. ما كاد يتَململُ في فراشه، حتى كانت رائحة القهوة المُرَّةِ تَعبقُ في المضافة، وفي ساحة الدار.

صَبَّحَ أحمد الواكد على ضيفه:

- هل نمت جيداً؟

- الحمد لله. ذُقتُ زاداً طيباً من يدٍ كريمة، ونمتُ جيداً في بيت آمن. جزاك الله خيراً.

تناول فطوره، وطلب من مضيفه السماح له بالرحيل. حاول أحمد الواكد أن يبقيه في ضيافته وقتاً أطول، لكنّ أسعد أَصرّ على الذهاب:

- أعذرني. لقد {كَفَّيتَ ووفَّيت}. سأقصد قرية {عين النوارة}. ينتظرني هناك عمل علي إنجازه، والعودة إلى السويداء.

- لكنّنا لم نَفِكَ حَقكَ يا شيخ! - اليوم تبقى في ضيافتنا، وبعدها يمكن أن تغادرنا، وفي أي وقت تشاء.

- ذلك يشرفني، لكنّني لا أستطيع البقاء، سأمضي إلى غايتي، وأرجو أن تعذرني.

عندما رأى {الواكد} أنّ ضيفه مُصِرٌّ على الرحيل، استمهله قليلاً. كانت زوجته تُعِدُّ الخبز. دخل إلى التنور، وعاد يحمل في يده بعض الأرغفة الساخنة، قدمها إلى الشيخ:

أصرّتْ {راعية البيت} أن تأخذ مني هذه الزُوّادة، هي من خبز اليوم،... لترافقك السلامة.

أَخذَ الزوّادةَ شاكراً، وقبل أن يَهِمَّ بالرحيل قال لمضيفه:

- أنت لم تسألني عن اسمي، أنا أسعد الغريب من السويداء. أسكن في حي (المَشْرَفْ). أنتظر زيارتك. لقد سَعِدت بمعرفتك وضيافتك، والله يقدرني على الوفاء.

- إن شاء الله، إذا قَدمِت إلى السويداءَ، أزوركَ - لا تؤاخذنا {واسترْ ما شِفت منا».

- {ما شِفت منكم إلا الخير».

***

تجاوز في مسيرهِ منذ الصباح الباكر قريتين وصولاً إلى ضالتهِ، بيت مَدينِهِ في قرية {عين النوارة}. عند الباب استقبلته زوجةُ {أبـي فايز} بترحابٍ خَجِلٍ حيث لم يكن زوجها في البيت:

أهلاً وسهلاً بالضيف. صاحب البيت ليس هنا، لكنّه لن يتأخر. تفضل إلى المضافة، البيت بيتك. سأُرسل في طلبه حالاً.

لم يتأخر أبو فايز، دخلَ المضافةَ مرحباً:

-  {أهلاً وسهلاً، كَلَّفْناك، يا عيب الشوم علينا. والله أنا خَجلان منك يا شيخ! لقد تأخرت عليك بهذا الدَين. على أية حال فرحِنا برؤيتك وتشريفك دارَنا. زارتنا البركة».

- الله يديمك يا أبا فايز! أنا جئتكَ زائراً. إذا فُرِجَت عَليَك، تُفْرَجُ عَلينا، وإذا كنت مُعسِراً، الله يعينك ويعيننا، نتحمل هذا معاً. تكفيني هذه البشاشة والترحيب، ولا تعتبرني دائناً.

- يا شيخ أسعد! نحن وأنت بألف خير. اليوم أنت ضيفنا، وغداً يفرجها الله.

- فَرجهُ قريب. والله، لولا عسرة الأيام والسَّنَة كما ترى، لما خطر ببالي أن أطالبك بهذا الدَين، لكن يلعن الحاجة، على كل حال، الناس لبعضها في السراء والضراء.

- بعد أن نقوم بواجب الضيافة، حين تريد العودة، إن شاء الله تعود إلى بيتك سالماً غانماً.

شرب الشيخ قهوته. لاحظ أنّ أهل البيت في عَجَلةٍ من أمرهم. صاحبة البيت ترسل أبناءَها في أكثر من اتجاه، وبتكتم شديد. أدرك أنهم منهمكون بإعداد عشائهِ. قال لمضيفه:

- يا أبا فايز، أنا من أهل البيت، ولست ضيفاً. أتعشى من الميسور. لا أريد احتفالاً. أنا رجل دين ولا آكل طعاماً يحاسبني الله عليه! قطعة خبز صغيرة تكفيني. أرجوك لا تَتَكَلَّفْ.

- زيارتك غالية علينا، وما نقدمه لك هو أقل من الواجب. أرسلت {الَوَلد} أدعو بعض الأصدقاء إلى العشاء.

لم يمض وقت طويل حتى توافد المدعوون إلى مضافة أبـي فايز التي امتلأت بهم. سَلَّموا على الشيخ ورحّبوا به.

كانت دعوة رجال القرية كي يُسَلِّموا على الضيف، ويتعرفوا إليه، ومشاركته الطعام في منزل المضيف تقليداً متداولاً في أنحاء الجبل، غايته إظهار الحفاوة بالضيف، وإكرامه.

قَدَّم أبو فايز طعام العشاء، وطلبَ من أكبر أعمامه سِناً: أن يَصُبّ السَمن على المناسف ويرحب بالضيف، يدعوه، ويدعو الجميع إلى الطعام.

قبل انقضاء السهرة، أخذ رجال القرية الحاضرون في المضافة يستأذنون أبا فايز أن يسمح لهم باستضافة الشيخ في اليوم التالي، لكنّ الشيخ أسعد اعتذر من الجميع، لأنّه في عَجَلةٍ من أمره، ولا يستطيع البقاء ليوم آخر في عين النوارة. شكرهم، وتمنى عليهم زيارته في السويداء.

باتَ على قَلَقٍ، متسائلاً: {هل يجب عليّ بعد هذا الكرم، وهذي الحفاوة، أن آخذ مبلغ الدَيْن من أبـي فايز؟ لعن اللهُ الحاجة وضيق الحال! أَمِثل هذا الكريم! يُطالَب بدين؟ إنّ هذه الوليمة تساوي أكثر من المبلغ الذي قَدِمت من أجله، فماذا أنا فاعل غداً؟}.

شَعَرَ بالخجل، ونوى العودة قبل أن يستيقظ أبو فايز: {ربما كان الرجل معسراً، وفي مأزق بسبب ذلك. سأرحل عائداً عند الفجر قبل استيقاظه. يجب ألاّ أُحْرِجه».

حاول النومَ، تنتابه خواطر شتى.

back to top