هيلاري كلينتون بنسخة مستحدثة

نشر في 29-04-2015 | 00:02
آخر تحديث 29-04-2015 | 00:02
جولة جديدة من المعركة الرئاسية
ظهرت هيلاري كلينتون، في أحدث نسخة منها، تتجوَّل على الطرقات في شاحنة صغيرة في أيوا ونيوهامبشير أخيراً. كانت تمرّ بمناطق قاحلة ومعزولة لدرجة أنّ أحداً لن يرغب في أن يُدفَن هناك. راحت تتوقف على محطات البنزين وتدردش مع سائقي الدراجات، وتدخل في طريقها إلى مقاهٍ ومطاعم مأكولات سريعة مكسيكية ومنازل غرباء بكل هدوء وبساطة بالنسبة إلى شخصٍ يرافقه عناصر من الجهاز السري.

حين أعلنت رسمياً عن ترشّحها لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية في فيديو صدر أخيراً، مدته دقيقتين ونصف، عرضت أول دقيقة ونصف منه مواطنين أميركيين عاديين وهم يتحدثون عن تحدياتهم المقبلة. ثم ظهرت هيلاري في  وهي تحمل كوباً ورقياً من القهوة وعلى وجهها تعبير إيجابي وقالت إنها تستعد للقيام بمبادرة معينة ً. كانت تلك الطريقة الأكثر تحفظاً للإعلان عن الترشّح لأعلى منصب في العالم. هي تريد أن تصوّر نفسها كجدّة دافئة وودودة. لم تعد تريد أن تبدو سياسية صارمة وبعيدة عن الناس كما عهدها الأميركيون. إنها الدروس المستخلصة من أخطاء ارتكبتها في أول مرة ترشّحت فيها للمنصب الرئاسي. كانت آنذاك تبدو متعجرفة ومتأكدة من فوزها وبعيدة عن حياة الناخبين. لطالما بدا وكأنها تتكلم مع الأميركيين العاديين من برجها العالي. لكنها تؤكد هذه المرة على ضرورة كسب الانتصارات وهي تتصرف وكأن ترشّحها عن الحزب الديمقراطي ليس مؤكداً، مع أن منافسيها المحتملين (مارتن أومالي، لينكولن شافي، بيرني ساندرز، جيم ويت) هم رجال لم يسمع بهم معظم الأميركيين.

تريد هيلاري كلينتون تقديم أداء مختلف على جميع المستويات خلال ترشّحها الثاني للرئاسة. ويعتبر كثيرون أنها ستكون رئيسة بارعة. هل يمكن أن تسحر الولايات المتحدة فعلاً؟ «شبيغل» بحثت  عن إجابة.

تعرّف الرأي العام على نسخ لا تُعَدّ ولا تُحصى من هيلاري كلينتون. خاضت تحولات كثيرة بقدر المغنية مادونا! كانت طالبة نخبوية متفانية ويسارية، ثم زوجة داعمة لزوجها، ثم سيدة أولى طموحة، ثم زوجة مخدوعة، ثم عضوة في مجلس الشيوخ، ثم وزيرة خارجية وكاتبة. في جميع محطات حياتها، حرصت على تغيير مظهرها (الملابس، تسريحة الشعر، الألوان). كان التغير الدائم ميزتها الثابتة الوحيدة.

لكنّ أكثر ما يثير الدهشة أن كلينتون (67 عاماً) لا تزال لاعبة سياسية مهمة. اضطرت إلى تقبّل هزائم وإهانات كثيرة، شخصية وسياسية، أكثر مما يمكن أن يواجهها أحد في حياته العادية. لكنّ أياً من الهزائم لم يجبرها على الاستسلام. تبدو كلينتون، على عكس معظم السياسيين، مستعدة دوماً لتعلّم دروس جديدة تسمح لها بطرح نسخة مستحدثة منها أمام العالم. يعتبر البعض أن هذا السلوك ينمّ عن انتهازية ويكرهها جزء من الناس لهذا السبب: إنه شعور نصف الأميركيين اليمينيين. لكن يبدي البعض الآخر في المقابل إعجابهم بها بسبب هذه الصفة تحديداً.

تتعلق المسألة الأساسية بمعرفة ما إذا كان استعدادها للتغير ينجم ببساطة عن طموح شخصي وتعطّش للسلطة ورغبة في إتمام خطة حياة تشمل الوصول إلى الرئاسة. أم أنها تخدم قضية أكبر من طموحاتها الخاصة، مثل تحقيق مصلحة البلد أو حتى العالم كله؟

تعرف كلينتون المزايا التي سترافق فوزها. ستصبح أول امرأة تقود البلد في تاريخ الولايات المتحدة. تعلم الأهمية الرمزية التي سيحملها انتخابها، ولن يقتصر أثر فوزها على مختلف النساء حول العالم فحسب. ربما كانت تجارب رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر في بريطانيا العظمى أو المستشارة أنجيلا ميركل في ألمانيا واعدة، لكن حين تصبح كلينتون رئيسة الولايات المتحدة، سيكون الوضع مختلفاً. ما من منصب أهم من الرئاسة الأميركية في العالم!

على كلينتون أن تتجاوز عقبات عدة قبل وصولها إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2016. هذه المرة، تُعتبر الإحصاءات من أبرز خصومها. آخر مرة نجح فيها الديمقراطيون في انتخاب مرشحهم بعد عهد رئيس ديمقراطي آخر طوال ولايتين كان في عام 1837، عندما أصبح مارتن فان بيورين خلفاً لأندرو جاكسون. لكن يبدو أن كلينتون، حين تبلغ 69 عاماً قريباً، ستواجه مشكلة أخرى كأن يعتبرها البعض أكبر من أن تتولى منصب الرئاسة، ما يعني أنها أصبحت مرشّحة الماضي لا المستقبل. سيصعب تجاوز هذه المشكلة تحديداً ضمن فئة الناخبين الشباب الذين شعروا بحماسة تجاه انتخاب الرئيس الراهن باراك أوباما خلال حملته. صحيح أن الرئيس والسيدة الأولى ميشيل أوباما وعدا بدعم كلينتون، ما قد يساعدها في كسب تأييد الناخبين السود والأصغر سناً، لكن يطرح دعمهما إشكالية أيضاً. يجب أن تجد طريقة مناسبة للإشادة بعهد أوباما لكنها مضطرة في الوقت نفسه للتأكيد أنها ستكون رئيسة أكثر خبرة (أو بالأحرى أكثر ملاءمة) منه.

 السباق إلى البيت الأبيض أكثر شراسة من الحملات الانتخابية في أي بلد آخر. إنه وضع مرهِق جسدياً وعاطفياً بالنسبة إلى المرشحين. لكن تبدو كلينتون على أتم استعداد، ولهذا الأمر علاقة بلحظة حصلت منذ سبع سنوات.

لحظة مصيرية

تقول ماريان بيرنولد يونغ: {أردتُ أن أسألها عن موضوع يثير اهتمامي، من امرأة إلى أخرى}. هي تفكر بتاريخ 7 يناير 2008 كل يوم تقريباً، حين قالت أمراً جعل كلينتون تبكي علناً. وتبدو حتى اليوم مندهشة بشأن ما حدث. حصل ذلك خلال ترشّحها الأول للمنصب الرئاسي، وكانت بلغت حينها أدنى مستويات الشعبية. كان أوباما فاز لتوه بأول جولة من الانتخابات الأولية في أيوا. جلست كلينتون في {كافيه إسبريسو}، في نيو هامبشير، وكانت تتحدث مع المواطنين. قبل نهاية الحدث، أخذت امرأة شعرها أشيب وترتدي سترة حمراء الميكروفون لتتكلم. بدأت يونغ كلامها وهي تنظر في عينَي كلينتون مباشرةً وقالت: {سؤالي شخصي جداً. كيف تقومين بذلك؟ كيف تبقين متفائلة ومدهشة لهذه الدرجة؟}.

وجدت كلينتون صعوبة في الإجابة. ردّت أخيراً وهي تهز رأسها: {الأمر ليس سهلاً!}. ثم اغرورقت عيناها بالدموع. لم تكن دموعاً مقصودة لكن كسبت كلينتون بفضلها تعاطفاً لم تحصده بفضل مستشاريها وأموالها. تقول يونغ التي تبلغ 71 عاماً اليوم: {بعد تلك الحادثة، قررت صديقاتي الانتقال من دعم أوباما إلى هيلاري. حتى ذلك اليوم، بدت هيلاري أشبه بآلة. لكن بعد ذلك اليوم، بدت إنسانة بكل بساطة}.

أصبحت تلك اللحظة المؤثرة التي سبّبتها بيرنولد يونغ أساسية بالنسبة إلى حملة كلينتون الثانية. هي تكشف الآن عن جانبها الإنساني أمام الشعب الأميركي.

منذ بضعة أيام، نشرت خاتمة جديدة لسيرتها الذاتية الثانية {خيارات صعبة} (Hard Choices) حيث كتبت عن حجم سعادتها حين وُلدت حفيدتها تشارلوت وعن الدموع في عينيها وفي عينَي بيل. وبما أن السياسيين معتادون على تحديد الأسباب والنتائج في مختلف الظروف، استخلصت كلينتون استنتاجات سياسية انطلاقاً من هذا الشعور بالبهجة، فكتبت: {لا داعي لتكون الفتاة حفيدة الرئيس أو وزيرة الخارجية كي تتلقى الدعم والمزايا التي تقودها يوماً إلى وظيفة مرموقة وحياة ناجحة. خلال بضعة أشهر، ساعدتني تشارلوت على رؤية العالم بطرق مختلفة}.

كانت كلينتون، في مرحلة سابقة من مسيرتها، منفتحة على التغيير إذا كان يَعِدها بالنجاح. في عام 1982، حين كان زوجها مرشحاً لولاية ثانية كحاكم أركنساس، اقترحت التوقف عن استعمال شهرتها قبل الزواج، رودام، والبدء باستعمال شهرة كلينتون. كذلك كانت مستعدة في تلك السنة لتقديم تنازلات على مستوى مظهرها الخارجي. فأخذت بنصيحة مستشاريها الذين اقترحوا عليها أن تصبغ شعرها باللون الأشقر وتستبدل بنظاراتها السميكة عدسات لاصقة وتضع الماكياج وتعيّن مستشاراً في الأزياء. قد تكون هذه الخطوات مألوفة بالنسبة إلى النساء في عالم السياسة اليوم، لكنها لم تكن كذلك في عام 1982.

تنازلات مؤلمة

لكنّ أسوأ تنازلات اضطرت كلينتون إلى تقديمها تعلقت بزوجها. كانت ضخمة لدرجة أن كثيرين، وليس النساء فقط، تساءلوا كيف بقي الزوجان كلينتون معاً حتى الآن. حين حُكم على أخ بيل غير الشقيق، روجر، بالسجن خلال الثمانينيات بتهمة حيازة الكوكايين، كتبت صحيفة {نيويوركر} أن بيل ائتمن صديقاً له على سر وقال له: {في كل شخص منا جانب خارج عن السيطرة. الأمر أشبه بهوس حقيقي}. كان واضحاً أن مشكلة بيل الأساسية لا تتعلق بالمخدرات أو الطعام. كانت هيلاري كلينتون تستفيد غالباً من مهنة زوجها. كان يأخذها إلى أماكن ويعيّنها في مناصب لا يصل إليها كثيرون. لكنها أُجبرت أيضاً على تقبّل إهانات كثيرة في المقابل. كانت ذكية وطموحة بما يكفي كي لا تعتبر نفسها ضحية لزوجها الذي بدا أحياناً مدمناً على الجنس. دافعت عنه بكل قوة في علاقاته مع النساء، بدءاً من جنيفر فلاورز وصولاً إلى مونيكا لوينسكي، ثم طالبت بتعويضٍ عن تفانيها بالمستوى نفسه من التصميم. حين أصبحت السيدة الأولى في عام 1993، طالبت بدور شكّل استفزازاً لعدد كبير من الأميركيين. لم تعرف الولايات المتحدة أي سيدة أولى ناشطة لهذه الدرجة منذ إليانور روزفلت. كانت أول امرأة تطلب إنشاء مكتب لها في {الجناح الغربي}، مركز القوة في البيت الأبيض. كذلك طالبت برئاسة فريق العمل المسؤول عن إعداد أكبر إصلاح في مجال الرعاية الصحية في تاريخ البلد. بعد نهاية ولايته الثانية، اتّضحت المسيرة السياسية التي ستتخذ الأولوية بعد تلك المرحلة. صرحت بيتسي رايت، رئيسة العاملين في مكتب بيل كلينتون في أركنساس لـ{نيويوركر}: {تفصل هيلاري بين المشاعر الشخصية والأهداف والمهام بطريقة يعجز عنها معظم النساء}.

«أكثر تنظيماً بكثير» من بيل

يقلّ عدد الأشخاص الذين يعرفون الزوجين كلينتون بقدر ليون بانيتا. كان الأخير رئيس العاملين في عهد بيل خلال التسعينيات وعمل إلى جانب هيلاري كوزير دفاع في حكومة أوباما. يقول: {مرّا بتلقبات كثيرة وكنت شاهداً عليها}. وفق بانيتا، هما يتبادلان المجاملات لأن أحدهما يملك ما يفتقر إليه الآخر. بحسب قوله، كان بيل يحب النقاشات: {كنت أدخل إلى المكتب البيضاوي فأجد 10 أو 20 شخصاً أحياناً وهم يتحدثون عن موضوع معين ولم يكن يتوصل إلى أي قرار. كان غير منضبط}. لكن كانت زوجته عكسه تماماً: {كانت مستعدة إلى الإصغاء لكنها أكثر انضباطاً أو تنظيماً بكثير}.

طالبت هيلاري بولاء كبير من فريقها أكثر مما فعل زوجها مع مستشاريه. كانت آنذاك تشك بالجميع وبدت مصممة على متابعة السيطرة على الأمور. لا تزال كذلك بحسب بانيتا. صحيح أن بعض أعضاء فريقها اعترف لاحقاً بوجود رهبة معينة بشأن هيلاري، إلا أنه كان يشعر بالفخر أيضاً بروح التضامن الذي يطبع فريقها. يقول بانيتا إن بيل اضطر إلى تعلّم الكثير بأصعب طريقة، بينما تبدو هيلاري أكثر استعداداً اليوم مما كان عليه زوجها في تلك الفترة لبلوغ البيت الأبيض. هو يظن أنها ستكون رئيسة بارعة.

شراكة كلينتون

في أحد أيام نوفمبر 2014، تم الاحتفال بالذكرى العاشرة من مكتبة بيل كلينتون الرئاسية في ليتل روك، عاصمة أركنساس، حيث بدأ الزوجان كلينتون مسيرتهما. كان كيفن سبيسي سيد الاحتفالات علماً أنه يؤدي دور السياسي الشرس فرانسيس أندروود في مسلسل House of Cards.

ثمة نوع من السخرية الذاتية من الزوجين كلينتون.  أصبحت شخصية فرانسيس أندروود التي يؤديها سبيسي رمزاً للسياسي الأميركي المهووس بالسلطة، فهو يصل إلى البيت الأبيض استناداً إلى حيل ومعارف نافذة وقلة الضمير. يتلقى التوصيات والتشجيع من زوجته كلير الطموحة مثله (روبين رايت). يجسدان ثنائياً يضع التقدم والنفوذ فوق  جوانب الحياة الأخرى. يبدو زواجهما شراكة مصلحة مع أنه بدأ بحب كبير. يخونان بعضهما ولكنهما لا يسمحان بفشل مشروعهما. يكشفان أيضاً عما يحصل حين تتغير المراتب في تلك الشراكة. في مرحلة معينة، لا تعود كلير مقتنعة بدور المرأة التي تدعم زوجها، لذا تحثه على التنبه إلى وجود كرسي فقط على مكتبه داخل المكتب البيضاوي.

على مر العقود، أنشأ بيل وهيلاري كلينتون سلالة عائلية أو مؤسسة سياسية أو ما يُسمّى {شراكة كلينتون}،  شبكة ضخمة من أصدقاء ومستشارين ومؤسسات ومحسنين. لا تتضح دوماً طبيعة المعارف المرتبطة بمشاريعهما، لكنها السبب وراء النجاح المشترك لاسم كلينتون.

توزع إحدى مؤسسات الزوجين التي بدأت باسم {مؤسسة ويليام ج. كلينتون}، واسمها الآن {مؤسسة بيل وهيلاري وتشيلسي كلينتون}، أكثر من 200 مليون دولار سنوياً. قد تطرح المؤسسة مشكلة بالنسبة إلى حملة هيلاري.

تشمل الجهات المانحة فيها أنظمة مثل المملكة العربية السعودية والكويت، وأشخاصاً نافذين مثل رجل الأعمال الأوكراني فيكتور بينشوك الذي تهب مؤسسته 8.6 ملايين دولار إلى مؤسسة كلينتون، وشركات مثل شركة الخدمات العسكرية {بلاك ووتر} التي غيّرت اسمها منذ ذلك الحين. لطالما أنكرت هيلاري أن الهبات تؤثر على سياساتها. خلال عهدها كوزيرة خارجية، مُنعت الهبات الآتية من حكومات خارجية، لكن لم ينطبق ذلك الحظر على المواطنين من القطاع الخاص مثل الملياردير السعودي محمد حسين علي العمودي الذي وهب حتى 5 ملايين دولار. ولما لم تعد هيلاري وزيرة الخارجية اليوم، تستطيع مؤسسة كلينتون مجدداً تلقي الهبات من الحكومات الخارجية.

خلال الحملة الانتخابية، ستواجه هيلاري كلينتون أيضاً تهمة مفادها أن الولايات المتحدة ليست نظاماً ملكياً حيث تمرر العائلات الفردية التاج إلى فرد آخر من العائلة بكل بساطة. لا تحب كلينتون أن تواجه هذا النوع من الأسئلة المرتبطة بالأنظمة الملكية.

الطبقة الوسطى

إذا أصبحت كلينتون رئيسة البلاد، ستطبّق الولايات المتحدة سياسة خارجية مختلفة وأكثر صرامة. هي مقتنعة بأن واشنطن كانت يجب أن تعارض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوة أكبر مما فعل أوباما. كذلك انتقدت الأخير علناً لأنه لم يتخذ خطوات سابقة ضد نظام الأسد في سورية. تقول إن أميركا لا تستطيع أن تحلّ مشاكل العالم وحدها، {لكن لا يمكن أن يحلّها العالم من دون الولايات المتحدة}. يصعب توقع ما ستكون عليه سياسات كلينتون الداخلية. بدأت مسيرتها كمحامية يسارية متفانية. وحين أطلقت حملتها لدعم إصلاح نظام الرعاية الصحية في بداية التسعينيات، بدت أشبه بمناضلة في مجال العدالة الاجتماعية. لكن حصل ذلك منذ وقت طويل. في ما يخص السياسة الاجتماعية والاقتصادية، لم تكشف كلينتون عن أي مواقف واضحة. والعناصر الأكثر ليبرالية في حزبها مستاؤون منها لأنها انتظرت حتى 2013 لدعم زواج المثليين. قبل أسبوعين، أعلنت أنها تنوي النضال لأجل الأميركيين الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى: إنه درس آخر من حملتها الفاشلة في عام 2008. تنوي معالجة مخاوف {الأميركيين العاديين} بشأن مسائل متعددة مثل توفير منازل مقبولة الكلفة وتأمين الوظائف وحضانة الأولاد، كذلك تريد خوض حملة لتحسين الفرص المهنية ورفع الحد الأدنى للأجور. إنه هدف مناسب بالنسبة إلى بلدٍ يحصل فيه 90% من المواطنين على 23% من الدخل القومي فقط، ويتابع العبء الضريبي على أصحاب المداخيل المرتفعة التراجع بوتيرة ثابتة.

لكن لا تتمتع كلينتون بمصداقية في هذه المسائل. في الماضي، كانت وزوجها يحتاجان إلى أموال كثيرة من {وول ستريت} لدعم حملاتهما وتدبّر أمورهما سياسياً. خلال عهد بيل الرئاسي، اتُخذت خطوات عدة لتحرير الأسواق المالية وقد أدت تلك الخطوات لاحقاً إلى أزمة مالية ومصرفية.

ثمة موضوع ثابت وسط تحولات وتنازلات كثيرة تعايشت معها: التزامها بحقوق المرأة. طوال عقود، لم تناضل في سبيل أي موضوع آخر بهذا الزخم كله. توضح كلينتون: {ما أشاهده حين أتجول في بلدنا، وما شاهدتُه حين سافرتُ حول العالم بصفتي وزيرة الخارجية، هو أنّ الأماكن التي تكون فيها المرأة مهمشة ومحرومة من فرصة تحسين وضعها الاقتصادي تشهد استمرار معاناة الأولاد والمجتمع والبلد بأسره}. لا تزال المرأة تعمل في ثلثَي الوظائف التي تعطي الحد الأدنى للأجور، وتجني المرأة 78 سنتاً فقط مقابل كل دولار يجنيه الرجل. صفّق لها جمهورها بكل حماس عند سماع هذا الكلام.

كلينتون جزء من جيل النساء الذي حارب بكل قوة وواجه مقاومة شديدة في سبيل المساواة في الحقوق خلال الستينيات. صحيح أن والدها كان محافظاً جداً لكن ربّتها والدتها دوروثي بطريقة ليبرالية جداً. لم يُسمَح لوالدتها بأن تقصد الجامعة فأصبحت ربة منزل. تقول كلينتون إنها لم تستطع تقبّل فكرة ألا تقصد الجامعة أو أن تتخلى عن مهنتها كي تتحول إلى ربة منزل.

خاضت تجربة مؤثرة في مرحلة المراهقة حين كتبت رسالة إلى وكالة {ناسا} للتطوع في برنامج تدريب رواد الفضاء. فكتبت في مذكراتها الأولى: "تلقيتُ رسالة تبلغني بأنهم لا يقبلون الفتيات في البرنامج". هي لم تنسَ يوماً تجربة الرفض التي تعرّضت لها بسبب جنسها.

مدافِعة عن حقوق المرأة

حين أصبحت هيلاري السيدة الأولى، قادت وفداً أميركياً إلى مؤتمر الأمم المتحدة العالمي للمرأة في بكين في عام 1995. قالت كلينتون: {حان الوقت كي نقول من هنا في بكين، وكي يسمعنا العالم أجمع، إنه لم يعد مقبولاً أن نناقش حقوق المرأة كجزء منفصل عن حقوق الإنسان. خلال فترة طويلة، كان تاريخ النساء تاريخاً صامتاً}.

لكنها اتخذت موقفاً مختلفاً في حملتها ضد باراك أوباما. فقد أرادت أن يتم انتخابها على اعتبار أنها تتمتع بمهارات سياسية أفضل منه. لم تشدد على قضايا المرأة في عام 2008 لكنها تعلّمت درسها منذ ذلك الحين وبدأت تطبّق مقاربة معاكسة في الحملة التي أطلقتها حديثاً. بدأت كلينتون تستميل النساء الناخبات منذ أشهر.

صوّت نحو 61.6 مليون رجل و71.4 مليون امرأة في الانتخابات الرئاسية لعام 2012. تُعتبر كلينتون راهناً المرشحة المفضلة بين النساء في جميع الاستطلاعات. أشركت عدداً كبيراً من النساء في فريقها الانتخابي. وفي الفترة الأخيرة، وظّفت ستيفاني هانون من شركة «غوغل» كمسؤولة عن الشؤون التكنولوجية. تقضي مهمتها بتسويق الحملة على شبكات التواصل الاجتماعي وجعل كلينتون تبدو معاصرة أكثر مما كانت عليه خلال ترشحّها الأول للرئاسة.

ستكون هيلاري كلينتون، امرأة التحولات والدروس الدائمة والبدايات الجديدة، أكثر استعداداً للرئاسة من جميع خصومها على الأرجح. تعرف البيت الأبيض من الداخل وتعلم معنى تولي منصب الرئاسة. سبق وكانت عضوة في مجلس الشيوخ طوال ثماني سنوات ولديها خبرة واسعة في مجال السياسة الخارجية. ويبدو أنها تعلمت عدم تصوير نفسها كرئيسة بارعة نظرياً وفهمت ضرورة تطبيق ذلك عملياً.

صوتت ماريان بيرنولد يونغ، تلك المرأة التي كانت كلماتها سبباً كي تذرف كلينتون بعض الدموع علناً في نيو هامبشير، لصالح أوباما في عام 2008. لكنها تنوي التصويت لهيلاري هذه المرة. تقول إن باراك أوباما كسر {حاجز التمييز ضد السود}. والآن ستكسر هيلاري حاجز التمييز ضد المرأة أخيراً! ستفتح المجال أمام جميع النساء!}.

القوة في الهزيمة

 وصول كلينتون إلى منصب وزيرة الخارجية يلخّص طريقتها في التعامل مع الهزيمة. كانت لديها أسباب وجيهة كي تبتعد عن أوباما الذي هاجمها وأهانها خلال حملته. لكن حين انتهت الحملة، طلب مقابلتها في شيكاغو حيث عرض عليها منصباً في حكومته. فقبلت العرض بعد شيء من التردد. كان ذلك القرار من اللحظات الغريبة التي دفعت البعض إلى التساؤل: هل تقوم بكل ما يلزم كي تبقى في دائرة السلطة وتحرز التقدم؟ لكن أبدى آخرون إعجابهم بقدرتها على مواجهة تحديات جديدة.

كان مكتبها يقع حينها في الطابق الثامن من وزارة الخارجية. وكان ديفيد ماكين، مدير التخطيط السياسي، يعمل في الجهة المقابلة من مجموعة المكاتب المخصصة لوزيرة الخارجية. كلينتون هي التي عيّنته في منصبه حينها وهو يعمل اليوم مع وزير الخارجية الراهن جون كيري. جلس ماكين وراء مكتبه وقال إن وزير الخارجية كيري هو أكثر نشاطاً من كلينتون وأكثر ابتكاراً منها. كما أنه يجد تفسيراً لآرائه: {حين استلم باراك أوباما الحكم في عام 2009، كانت سمعة الولايات المتحدة في أدنى مستوياتها تاريخياً}. كانت حرب العراق المبنية على ادعاءات خاطئة والأدلة التي تشير إلى أعمال التعذيب في سجن أبو غريب ومعتقل غوانتانامو كافية لتلطيخ سمعة الولايات المتحدة بشدة. كانت مهمّة كلينتون تقضي بالتعويض عن الخسائر بحسب قول ماكين، فهي سافرت حول العالم وطورت العلاقات مع البلدان. لقد قامت {بعمل بطولي} حين نجحت في تجديد مكانة الولايات المتحدة عالمياً. تقول كلينتون شخصياً إن دورها كوزيرة خارجية، وكسياسية في نظام ديمقراطي بشكل عام، هو أشبه بسباق مراحل: “أنت تقدم أفضل أداء ممكن ثم تسلّم المسؤولية لغيرك!}. يظن ماكين أن كيري ما كان ليحقق جزءاً من إنجازاته في مجال السياسة الخارجية لولا العمل الذي قامت به كلينتون، وتشكّل المفاوضات مع إيران خير مثال على ذلك.

back to top