تداعيات الانغماس المفرط في العمل

نشر في 14-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 14-03-2015 | 00:01
صحيح أن العمل يساعدنا على تحقيق الذات، لكنه قد يتطفل على حياتنا بشكل خطير. قد تجتمع عوامل عدة، مثل الظروف الاقتصادية أو المقاربات الجديدة لإدارة الأعمال، كي تجعلنا نغرق في العمل بشكل خارج عن السيطرة. هل نفرط في العمل فعلاً؟
يخبر مسؤول عن مشاريع إحدى الشركات تجربته في هذا السياق قائلاً: {خلال 15 يوماً على الأقل، كان الوضع متشنجاً جداً في المنزل. كنت أعود في وقت متأخر من المكتب. وحين أصل إلى المنزل، كنت أقوم بكل شيء من دون تركيز. كان عقلي يعجّ باقتراحات كنت سأعرضها أمام عالم اجتماع سأقابله بعد بضعة أيام. كنت أنام وأنا أردد تلك الاقتراحات وأستبق ما سيقوله لي. حتى إنني كنت أحلم بذلك الاجتماع ليلاً. لم تعد زوجتي تتحمّل هذا الوضع لكن كان الأمر أقوى مني. شعرتُ بحماسة مفرطة وغير طبيعية}. لم يدم هذا الوضع لحسن الحظ وجرى الاجتماع على خير ما يرام وسرعان ما عاد الوضع إلى طبيعته على جميع المستويات. لكن هل انغمس ذلك الشخص في عمله على نحو مفرط؟ طبعاً!

 يتمثل الانغماس المفرط في العمل بإيجاد صعوبة في رسم الحدود بين الحياة الخاصة والحياة المهنية. سرعان ما يتلاشى الخط الفاصل بينهما وتبدأ المشاكل. لا يُعتبر الوضع خطيراً ما دام لا يدوم طويلاً. وفق علماء النفس، يمكن أن يؤدي الانغماس في العمل دوراً محفزاً إذا كان موقتاً وله هدف محدد وإذا كان الهوس محصوراً بمرحلة عابرة. يجب ألا ننسى أن العمل يمنح الناس فرصة مدهشة كي يشعروا بتقدير الآخرين لجهودهم ويحرزوا التقدم في مسيرتهم وطريقة تفكيرهم ويطبقوا المبادئ التي يؤمنون بها منذ الطفولة. قد يكون العمل مصدر حماسة ومتعة وقد يسمح بمتابعة البحث عن الهوية الفردية وإيجاد الاستقرار المنشود في نهاية المطاف.

الحاجة إلى من يقدّر جهودنا

إنها وسيلة لتحقيق الذات. وفق علماء النفس، يتحقق هذا الهدف من خلال الحب (المستوى العاطفي) أو العمل (المستوى الاجتماعي). لطالما كان الوضع كذلك وسيبقى هكذا دوماً. نلتزم بمهنة معينة لأننا نجد بذلك من يقدّر جهودنا وسرعان ما يُترجَم ذلك التقدير بارتفاع مستوى ثقتنا بنفسنا، وبالتالي يزداد حبنا لذاتنا أيضاً. بسبب هذا الأمل في إيجاد من يقدّرنا، نبذل هذه الجهود كلها. هذا هو السر الفعلي للحفاظ على الصحة العقلية.

يتطلب أي عمل متقن استثماراً جدياً والتزاماً ثابتاً من الإنسان. العامل الذي يقدم أداءً جيداً يلتزم بعمله فكرياً وعاطفياً لأن العمل يستلزم الارتجال والتكيف مع حوادث متعددة تطبع أيامنا. للقيام بذلك، يجب أن يثبت الفرد أنه يتمتع بالذكاء وروح المبادرة أمام المشاكل التي لا نعرف كيفية معالجتها مسبقاً. تتطلب هذه العملية إعادة تنظيم النشاطات وإعادة النظر بها دوماً. إذا اكتفينا بتنفيذ الأوامر بكل برود، سرعان ما نواجه الفشل. يتطلب العمل أصلاً أن نتحمّل الفشل إلى أن نجد الحل المناسب. قد نحتاج إلى يوم أو يومين وقد لا ننام الليل بسبب هذا الوضع. لكن قد يشغلنا هذا الموضوع أحياناً طوال أيام وليالٍ، فيسمم علاقاتنا الزوجية والعائلية. لكنّ هذا الوضع طبيعي! لا قيمة لعملنا من دون التزام حقيقي.

العمل ليس مرادفاً للإنتاجية، بل إنه يتعلق في المقام الأول بتغيير الذات. من الطبيعي إذاً أن نحلم بعملنا ومن الطبيعي أن يؤدي العمل إلى اضطراب الحياة الخاصة أحياناً، لا سيما إذا لم تعد الكفاءة وحدها مطلوبة. تتطلب أنظمة العمل المعاصرة أكثر من أي وقت مضى أن يكشف العمّال عن جوانبهم الذاتية في طريقة عملهم. يجب أن يضع الفرد أفكاره وابتكاراته في خدمة المؤسسة حيث يعمل. لكن سرعان ما ينهار الناس حين يصبح الانغماس في العمل دائماً. يحصل ذلك مثلاً مع التجار الذين يحاولون بلوغ الأهداف المستحيلة التي طُلبت منهم وسرعان ما تصبح تلك الأهداف المعيار النموذجي في المرحلة اللاحقة. في المرة المقبلة، يُطلَب منهم المزيد. إذا لم يقدّر أحد جهودهم هذه وإذا لم يعد كل ما يفعلونه كافياً، سينتابهم شعور بقلة الكفاءة فيتعثرون.

أصبح الانغماس المفرط في العمل السبب الأول للاستشارات النفسية المتعلقة بالمعاناة في العمل. يتلقى علماء النفس المتخصصون بهذا المجال موظفين مرهقين وهم يكونون في مرحلة تسبق الإجهاد التام. بعضهم لا يملك خياراً آخر مثل العمّال وأمناء الصندوق الذين يستيقظون في الخامسة فجراً ويقومون بأعمال أخرى لكسب ما يكفي من المال شهرياً. في هذه الحالة، يتّضح الانغماس المفرط في العمل على المستوى الجسدي من خلال أمراض تظهر من وقت إلى آخر (أكزيما، ألم في الظهر...). ما من حل آخر عدا العمل المفرط لأسباب اقتصادية. يواجه الموظفون أيضاً مشكلة العمل المفرط ومن الملاحظ أن الأشخاص الأكثر تأثراً هم أولئك الذين يميلون إلى المثالية أو يجدون صعوبة في طلب المساعدة من غيرهم أو في الاسترخاء، أو أولئك الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس ويحتاجون دوماً إلى بذل جهود إضافية لأنهم يشعرون بأنهم غير كفوئين، فيحاولون بلا توقف أن يحسنوا أداءهم على أمل أن يصلوا إلى مستوى تطلعات مديريهم.

أعراض الإجهاد المهني التام

نسيان التعب: يعجز العامل عن رسم حدود قدراته. لذا يشعر بحماسة مفرطة ويلجأ غالبا إلى استهلاك المواد المنشّطة مثل التبغ والقهوة. الفرد الذي يتابع العمل حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً من دون أن يشعر بالتعب ثم يعود إلى العمل في اليوم التالي يجب أن يثير قلق زملائه والمسؤولين عنه.

اضطراب النوم: إلى جانب المواد المنشّطة التي يستهلكها العامل خلال النهار، يحتاج هذا الشخص إلى الأدوية المنوّمة في المساء. فهو يكون نشيطاً بشكل مفرط، ما يمنعه من النوم. في هذه المرحلة تحديداً، يمكن رصد مظاهر القلق النفسي، والتسارع العقلي، وارتفاع حرارة الجسم، ومشكلة التعرق، وتسارع ضربات القلب، وتعرّق اليدين...

إجهاد تام: سرعان ما ينهار هذا النوع من الأشخاص، فلا يعود قادراً على النهوض في الصباح. يفقد قيمته الذاتية وقد يصل به الأمر إلى حد الاكتئاب. يحاول البعض الانتحار لأنه يريد أن تتوقف معاناته.

سباق لتحقيق النتائج

سرعان ما تصبح النتائج المتوقعة من العامل مستحيلة التحقيق. فيعجز عن وقف مساره ولا يتردد في متابعة المحاولات على مدار الساعة. يقول محاسب في إحدى الشركات المتعددة الجنسيات إنه تلقى في إحدى المرات رسالة نصية في الساعة الثانية فجراً من مديره. كان يعلم أن الرسالة منه فحاول تجاهلها، لكنه استسلم مجدداً وأجاب عن الرسالة في الساعة الثالثة فجراً. بدل تقدير ما فعله، لامه مديره لأنه كان مستيقظاً في هذه الساعة المتأخرة بدل أن يكون نائماً ويستيقظ للعمل نشيطاً في اليوم التالي.

التشخيص واضح في هذه الحالة: إنه انغماس مفرط في العمل بطريقة لا يمكن عكسها. سرعان ما تصبح المهام والتهديدات مضاعفة: {إذا لم تنفذ هذه المهام الإضافية، سينفذها غيرك وهم سيسبقونك إلى المنصب المرموق الذي تطمح إليه!}. هذه الأساليب الشائبة تؤدي إلى اضطراب الموظفين بالكامل. في الوقت نفسه، يحضر المديرون حصصاً للتدرب على إدارة الوقت حيث يتعلمون ضرورة أن يطفئوا هاتفهم الذكي عند خروجهم من العمل وأن يمتنعوا عن كتابة الرسائل الإلكترونية في السابعة صباحاً. المفارقة كبيرة!

يخاف بعض الشركات من مشكلة الإجهاد التام وجوانب أخرى من المخاطر النفسية والاجتماعية، فلا تكف عن تشجيع موظفيها على أخذ قسط من الراحة من وقت إلى آخر، وتدعوهم إلى تخفيف الضغوط وعدم السماح للعاطفة بالتغلب على القرارات المهنية.

حل جماعي

يسهل أن نقدم النصائح عن ضرورة الاعتدال في كل شيء وتخفيف الضغوط {العاطفية} أمام المشاكل اليومية. لكن يؤكد علماء النفس على أن الجو العام على أرض الواقع يمهد للانغماس المفرط في العمل. يؤدي بعض المقاربات المهنية مثل التقييم السنوي للموظفين إلى المنافسة بينهم.

وسط الظروف الاقتصادية الصعبة، بدأت العلاقات في مكاتب العمل تتغير سريعاً. أصبحت النتيجة اللامعة التي يحققها أحد الزملاء مصدر تهديد، مع أن الوضع لم يكن كذلك منذ ثلاثين سنة تقريباً. حين كان أحد أعضاء الفريق يحقق النجاح، كان النصر يتحقق للجميع. لكن يُعتبر نجاح أحد المقربين منك اليوم مؤشراً سيئاً لأنه ينعكس سلباً على الفرص المتاحة أمامك.

ترسخت مظاهر انعدام الثقة بالنفس والعزلة عن الآخر. نتيجةً لذلك، لم يعد الناس يعرفون أخبار بعضهم لأنهم ما عادوا يتحاورون في ما بينهم. بسبب هذا السباق لتحقيق النتائج وانعدام الثقة وتراجع العمل الجماعي، يبدو كل من لديه {فرصة} لمتابعة العمل مقتنعاً بضرورة الإفراط في العمل لإثبات نفسه. لكن لا يدرك هذا الشخص أنه يبذل هذه الجهود كلها لأنه بات وحيداً!

ألا يعمل معظم الموظفين اليوم في جو معزول وراء شاشاتهم من دون الاحتكاك بالآخرين؟ الجميع موجودون في المكان نفسه لكنّ أحداً لا يكلم الآخر. يحمل الموظفون عملهم إلى المنزل لأن الرسائل الإلكترونية العاجلة لا تكفّ عن مقاطعتهم! لهذه الأسباب، أصبحت الأمراض المرتبطة بالإجهاد المهني التام قياسية! تقضي هذه الأشكال الجديدة من تنظيم العمل على الروابط بين الناس. لاستعادة التوازن في البيئة المهنية، يجب تجديد روح التعاون بين فرق العمل.

أخيراً، يكمن سر النجاح المهني في الانفتاح على الآخر والتصدي لمختلف مظاهر الإجهاد المهني. يجب أن نتكل على العمل الجماعي حين تساورنا الشكوك، ومن الضروري أيضاً أن نخصص الوقت اللازم لاستعادة النشاط وتعزيز الانفتاح الفكري في المجال المهني على أن يمتد لاحقاً إلى المجال الاجتماعي.

{شعرتُ أنني أتمتع بسلطة مطلقة!}

منى (43 عاماً) متزوجة لديها ولدان، مؤسِّسة وكالة اتصالات

{خلال فترة طويلة، كنت أغادر عملي في الساعة الرابعة من بعد الظهر للاهتمام بولديّ حتى وصول والدهما ثم كنت أستأنف العمل. لم أكن أتوقف مطلقاً، حتى في حضورهم. كنت مديرة الحسابات في شركة تجارية وكنت أقوم بمهام مزدوجة يومياً وأنجز الأعمال خلال فترات قياسية.

كنت أتحرك بدافع من المتعة والتحدي وإثبات البراعة في الأداء. شعرتُ بأنني أتمتع بسلطة مطلقة وبفائض من الطاقة. لم أشكّ للحظة بأنني بدأتُ أنهار شيئاً فشيئاً من الداخل. في عمر الرابعة والثلاثين، شعرتُ بالاكتئاب ولم أعد أرغب في فعل شيء. بدأت هذه المرحلة بسبب عبارة قالتها لي ابنتي البالغة من العمر أربع سنوات، فجعلتني أدرك أنني أتعامل معها وكأنها ملف من ملفات العمل. بعد ثلاثة أيام، قدمتُ استقالتي. وبعد ثلاثة أشهر، قمت بجولة حول العالم مع العائلة طوال سنة. احتجتُ إلى شهر كامل كي أسترخي وأتوقف عن الشعور بالضغط وأستمتع بكل لحظة من حياتي. تعلّمتُ أن أتعرّف إلى نفسي تدريجياً. لم تكن المشكلة تتعلق بالأولاد أو بتربيتي أو بعملي، بل بي شخصياً.

كنت أعيش في ضغط دائم كي أكون على مستوى مكانتي وكي يفخر الآخرون بي. عند عودتي من السفر، اتصل بي رب عملي السابق لتكليفي بمشروع. وافقتُ على العرض واتخذتُ قرارات صائبة طوال 15 يوماً لكني لم أسمح للعمل بأن يجتاح حياتي. ثم أنشأتُ شركتي الخاصة لكن سرعان ما بدأت الدوامة نفسها. كيف يمكن أن أمنع نفسي من الانجرار وراء العمل المفرط؟ فهمتُ أن لا نفع من مكافحة شغفي الفطري.

أتمتع بطاقة كبيرة! اليوم، بدل أن أغرق في عملي، بدأتُ أستمتع بنشاطات ترفيهية أخرى مثل الزومبا والتنس والمسرح والسفر. على المستوى المهني، لم أعد أفرط في العمل وأرفض بعض المشاريع أحياناً. قد أنجرّ وراء اندفاعي في بعض الأحيان لكني أرصد المشكلة فوراً وأصحح الوضع عند اللزوم... إذا ركزتُ على العمل طوال أسبوع، أعود وأخصص الوقت لنفسي خلال الأسبوع التالي من دون أن أشعر بالذنب!}.

{آخذ يومَي عطلة في الأسبوع!}

ليلى (55 عاماً) متزوجة لديها ولدان، مديرة في شركة ترفيهية

{منذ فترة، كنت مدمنة على العمل وأعمل أكثر من 15 ساعة في اليوم. حين ينام الأولاد، كنت أعاود العمل على ملفاتي. تربيتُ على تقدير قيمة العمل. علّمني والداي أنّ العمل يحميني من جميع المخاطر. سرعان ما ازدادت هذه الحاجة إلى العمل بعد طلاقي، فشعرتُ بأنني أفتقر إلى الأمان. حتى إنني استلمتُ ثلاث وظائف في فترة معينة: مديرة تجارية، عاملة تنظيف في الشركة نفسها، ومزيّنة في متجر خلال عطلات نهاية الأسبوع. مقابل هذه الحاجة، كنت أتوق إلى إحراز التقدم في حياتي.

لما كنت بدأتُ في أسفل السلّم، أردتُ أن أصبح مديرة في النهاية. لم أكن أخصص أي وقت لنفسي. منذ أربع سنوات، تم تسريح زوجي الثاني من عمله. فأدركتُ أن الكفاءة والتفاني المفرط لا يضمنان استمرار الحياة المهنية ولا يحميان من المخاطر. هكذا فقد العمل قيمته بنظري. لكني لم أستطع إبطاء مساري. بعد فترة قصيرة، انهرتُ بسبب تراكم الضغط النفسي والتعب في داخلي. فأخذتُ عطلة لثلاثة أيام لحضور حصة يوغا. ثم تواجدتُ في مركز متخصص بطب الأيورفيدا في الهند لخمسة عشر يوماً. فاستعدتُ السيطرة على نفسي هناك وتعلّمتُ أن أصغي إلى حاجاتي الأساسية. كان التغيير في حياتي المهنية فورياً. ما زلت متفانية في عملي لكني لا أنسى أهمية الاسترخاء من وقت إلى آخر. آخذ يومَي عطلة في الأسبوع وأخصص أربع ساعات لليوغا والتأمل، ما يسمح لي في الأيام الأخرى بالحفاظ على مستوى عالٍ من الإنتاجية خلال ساعات العمل}.

back to top