امرأة في الخمسين

نشر في 07-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 07-03-2015 | 00:01
No Image Caption
الطريق منحدرة بشدة، لدرجة اضطررت أن أتأبط ذراعه كي لا أتعثر وأسقط، خاصةً أنني ألبس الكعب العالي وأنا بكامل أناقتي، وأشعر بالنشوة الخفيفة اللذيذة التي يولّدها فيّ إحساسي برشاقة جسدي وتناسقه ونضارته رغم بلوغي الخمسين. كنت أمشي يومياً ساعة وأحياناً ساعتين مشياً رياضياً سريعاً من دون تعب، وأعود إلى البيت ألهث من التعب اللذيذ، أقف تحت دوش الماء الفاتر وأغمر جسدي وألبس ثيابي بعد أن أرمق بعين الرضا والإعجاب تلك المرأة التي تبتسم لي في المرآة لتهنئني على شباب جسدي وأنا بعمر الخمسين.

كان في الثانية والخمسين، يسير إلى جانبي في أجمل شارع في رأس بيروت، وكنا نقصد مقهى دبيبو الأحب إلى قلبي حيث لا أرفع نظري عن صخرة الروشة الساحرة، وأنا أحاول أن أسمع وشوشة الموج الذي يعرف قصص العشاق الذي انتحروا بأن ألقوا بأنفسهم من قمة الصخرة إلى البحر. كنت أتابط ذراعه لسبب وحيد: ألاّ أتعثر من الانحدار الشديد للطريق التي تنتهي بكورنيش بيروت الساحرة، بيروت المُغوية والتي أحسها امرأة دائمة الفتنة والإغراء. كان بجانبي منتفخاً كطاووس فقد حصد جائزة مهمة في مجال الإبداع والنقد الأدبي، لكنه كان يحدثني عن عشيقته التي عاش معها لسنوات رغم كونهما متزوجين، وكان يلتقيان في مدن مختلفة لقاءات سرية ملتهبة بالهوى والرغبة والتحدي، وصف لي جمالها... وقال إن زوجها كان ضابط أمن مطلق الصلاحيات لكنها خاطرت بحياتها وزواجها واحتمال خسارتها لولديها لأنها عشقته بجنون، وأنهما كانا زميلين في التدريس بجامعة في بغداد.

قال إن زوجها كان أحد أهم الضباط الذين يثق بهم صدام حسين، لم أكن أنظر إليه وهو يتكلم، ولم أكن أحس بأية إثارة في كلامه، كنت أنصت إليه بقليل من الاهتمام وكثير من السخرية والاحتقار، خاصة حين قال إنه الآن يشفق عليها لأنها أصبحت امرأة في الخمسين وأنه حين التقاها لآخر مرة في أحد المؤتمرات الأدبية، نظر إليها بشفقة ونفور وقال إن شفتيها أصبحتا ذاويتين ومجعدتين وأنّ ترهّل رقبتها أثار اشمئزازه. ضحكت ولم أعلّق بكلمة، مكتشفةً أنه لم ينتبه لضحكتي حتى التي تعني قمة احتقاري له، لا أعرف إن غاب عن باله أنني في الخمسين وأن تلك العشيقة التي أحبته لسنوات وعرضت حياتها ومستقبلها للخطر، وهي زوجة ضابط أمن مطلق الصلاحيات، هي في عمره بل تصغره بسنتين!

لم يمنعني احتقاري له واشمئزازي من كلامه من استمراري في تأبط ذراعه، كنت منتشية من شعوري باحتقاره، وخطر لي أن أسأله: لكنك في الثانية والخمسين ويمتد كرشك أمامك متراً ورقبتك مترهلة، والتجاعيد حول عينيك أشبه باشعة الشمس حين تبتسم؟... لكنني لم أعلق بكلمة بل سألت بلهجة مرحة وكأنني أداعب طفلاً وأشجعه أن يتابع قصة بدأها: إذاً انتهت علاقتك بها لأنها في الخمسين؟ لم ينتبه للتهكم والسخرية في كلامي، وقفزت كلمات إلى شفتي وهمّت أن تصرخ به: وأنا في الخمسين! لماذا لا تركنني جانباً كما فعلت بحبيبتك التي تماثلني في العمر؟ أخذ نفساً كطاووس وقال إنه يعرف عمر المرأة ويقدّره. صعقني جوابه ليس لوقاحته غير المتوقعة بل لأنه يتعامل مع المرأة كما لو أنها سلعة تُقدّر قيمتها استناداً إلى عمرها.

وجدتني أفضّل أن أسقط وألاّ أستمر في تأبط ذراعه، ولم أعلّق بكلمة، كنت أريده أن يتدفّق بالكلام مخرجاً كل عفن أعماقه، وبدأت متعة خبيثة تنمو في داخلي وأنا أسمع للطاووس حاصداً الجوائز الأدبية الأهم في عالمنا العربي الذكوري، وقد عُرف عنه أنه أكثر من اهتم بالأدب النسائي وأنه أشاد بالكاتبات اللاتي كسرن تابوهات الرغبة. وصلنا مقهى دبيبو أخيراً وأردت أن أمحو كلامه من ذاكرتي، فعلي أن أنجز مهمتي الصحفية بأن أحاوره، خاصةً بعد حصوله على أهم جائزة أدبية في العالم العربي. وجدتني أحدثه عن صخرة الروشة التي تسمى صخرة العشاق المنتحرين، لكن لا أعرف كيف انفلت مني سؤال: هل تؤمن بالحب؟

اقترب منا النادل وسأل بلطف ماذا نطلب؟ فرد الناقد للحال هل تقدمون مشروبات روحية؟ فقال النادل طبعاً لا أعرف لمَ هوى قلبي إذ أتاني يقين أنني أنا من سيدفع الفاتورة، ربما لأنني صاحبة الاقتراح أن أجرى الحوار معه بعيداً عن أجواء المؤتمر الأدبي الصاخب، حاولت مواساة نفسي وطلبت شاياً لسبب وحيد لعله يشعر أن عليه أن يدفع ثمن ما طلبه، أما أنا فسأشرب مجرد كأس شاي. كان فزعي من احتمال أن أدفع الفاتورة قد أنساني أنني سألته: ما رأيك بالحب؟ فإذ به يضحك ويأخذ نفساً كأن شهيته على البوح قد تجددت وقال: كنت منذ سنتين على علاقة مع أربعة نساء دفعة واحدة واستمرت علاقتي بهن لأكثر من ثلات سنوات ولم تعرف أي منهن أنني أخونها مع أخريات. عرفتُ أنني تورطت في سماع حديث مقزز لأحد أهم النقاد فى عالمنا العربي، فقلت له: ما حاجتك لتقيم علاقة مع أربع نساء؟ لماذا لا تحب امراة واحدة وتكتفي بها؟ ردّ بغرور وكأنني أهنته إذ قارنته برجل طبيعي: لا يمكن أن أكتفي بامرأة واحدة. قاومت رغبه قوية بأن أبصق عليه وأقوم هاربةً من حضوره الكريه، لكنني ضحكت بسخرية وقلت له: يا سلام غرين دايزر. لا أعرف لم أجبت بتلك الطريقة، وأخرجت المسجلة الصغيرة من حقيبتي وقلت له وأنا أحاول تهدئة روحي من عاصفة الغثيان والقرف من حاصد الجوائز الأدبية.

كان علي أن أسلّم الحوار معه ليلاً لينزل في الصفحة الثقافية صباح الغد، وبدأت أسأله الأسئلة التقليدية ذاتها التي أسألها لكل مبدع يحقق إنجازاً هاماً ويحصد جوائز، وبدأ شعورٌ مزعج بالانقباض يهيمن علي لإحساسي أنني سأتورط بدفع الفاتورة، فهو يعتبر نفسه ضيفاً وأنا صحافية أقيم في بيروت ومطلوب مني أن أجري معه حواراً، وأنا من اقترحت عليه أن نجري الحوار في مقهى دبيبو. حدّثني عن بداياته كأستاذ جامعي في بغداد وعن زواجه المبكر من امرأة لا تعني له شيئاً سوى أنها أم أولاده، وأنه عاش حياته كعازب، وحين قاطعته: ما ذنب تلك الزوجة تهملها هكذا؟ ردّ بامتعاض بأنها لم ترق إلى مستواه الفكري. فقلت: لكنها كانت خيارك، لماذا لم تختر امرأة ترقى إلى مستواك الفكري. صعقني جوابه: أنت لئيمة حقاً! لا أعرف لماذا أطلق علي تلك الصفة؟ أنهيت الحوار واستأذنته بأن علينا العودة إلى الفندق وبأنني حريصة ألاّ أتأخر في تسليم الحوار إلى الجريدة. لوّحت للنادل كي يجلب الفاتورة، وقبل أن أتأمل بأنه قد يدفع أسرع يقول لي: شكراً على هذه الدعوة اللطيفة، فعلاً مكان ساحر. اضطررت أن أدفع بالبطاقة لأنني لم أكن أحمل مبلغ 65 دولاراً. فكرت ونحن متجاوران في التاكسي أن أحذف كل ما قاله عن تجربته قي النقد الأدبي وأن أكتب عن اكتشافي المذهل لبخله المُريع وانتهازيته وعن حقيقة تقديره للمرأة، هذا المحتال المدّعي أنه يناصر أدب المرأة الجريئة، يحتقر النساء في الخمسين ويُلغي عنهن صفة الأنوثة. طلبت منه أن يدفع أجرة التاكسي لأنني لا أحمل نقوداً كافيه، تظاهر أنه كان سيدفع بالتأكيد. وقبل أن أنصرف باتجاه الجريدة قال: هل نلتقي ليلاً؟ تظاهرت أنني لم أفهم وقلت له: عليّ أن أسلّم الحوار الآن مع مبدع عبقري مثلك.

back to top