وهم السيادة في أوروبا

نشر في 05-03-2015
آخر تحديث 05-03-2015 | 00:01
الفكرة القائلة بأنه عندما تسوء الأمور تستطيع أي دولة في الاتحاد الأوروبي أن تحل كل مشاكلها بالارتداد إلى السيادة الوطنية المحضة ليست سوى مغالطة فكرية ووهم سياسي، ومصدر لقدر كبير من الإحباط الاجتماعي، لأن تلك السيادة لا تنفي ضرورة الاعتماد المتبادل بين الدول.
 بروجيكت سنديكيت حمل الاتحاد الأوروبي التكامل الديمقراطي، المدفوع بإرادة حرة من قِبَل أعضائه لا من قبل القوة العسكرية، إلى مستويات غير مسبوقة، فعمل على تأمين مكانه في طليعة الإبداع المؤسسي، ولكن المشاعر في الاتحاد الأوروبي تبدو اليوم ميالة تجاه "الصراع" لا "التعاون".

تروج بعض البلدان الأعضاء لحقها السيادي في تبني إجراءات من جانب واحد، حتى عندما تطالب بالمساعدة المالية، بينما تتصرف بلدان أخرى كأنها مجرد دائن، فتتجاهل المعاناة الاجتماعية التي أحدثتها أزمة الديون الحالية، ولكي يعود إلى مسار التكامل المبدع فيتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعمل على إنشاء إطار جديد للحوار العام يؤسس به للتعاون الفعّال بين الشركاء والأصدقاء، بدلاً من تغذية الصراع بين خصوم يبدو التوفيق بينهم مستحيلاً.

في عموم الأمر، كان التكامل الأوروبي متناغماً ومنتظماً وعادلاً، فقد استفادت البلدان الأعضاء الأقل ثراءً من أدوات مثل الصناديق الهيكلية وصندوق التماسك، والتي وفرت موارد ضخمة لتمكين هذه البلدان من تعزيز نصيب الفرد لديها في الدخل، ولكن الأزمة الاقتصادية المطولة غيرت منظور مواطنيها، مع نسبة متزايدة الارتفاع من النظر إلى عضوية الاتحاد الأوروبي على أن تكاليفها أكثر من الفوائد التي قد تجلبها.

وليس من المستغرب أن يؤدي هذا التغيير إلى تأجيج المطالبات بالمزيد من "السيادة الوطنية"، والتي ترجمتها الأحزاب الشعبوية مثل حزب سيريزا المنتخب حديثاً في اليونان إلى نجاح اقتصادي، وكل هذه الأحزاب، سواء على اليمين أو اليسار، تضع السيادة الوطنية في نزاع مع ما يسمى "القوى الخارجية"، وتسعى إلى إمالة المحور السياسي للاتحاد الأوروبي وفقاً لهذه النظرة، وهذه الرؤية الاختزالية هي "الغراء" الوحيد الذي يمسك أجزاء الائتلاف اليوناني الحاكم.

في هذا الخطاب العصري، تعني السيادة "التمكين"، وأن مؤسسات الاتحاد الأوروبي "غير ديمقراطية"، وبالتالي فقد تحولت السيادة إلى مفهوم مغرٍ بشكل خاص بالنسبة إلى مواطني البلدان الأعضاء في الجنوب، الذين أصبحوا يعتقدون على نحو متزايد أن بنية الاتحاد الأوروبي "الجامدة" كانت مفروضة عليهم. ومن ناحية أخرى، تسقط بلدان الاتحاد الأوروبي الشمالية فريسة لرسالة تبسيطية من ابتكارها: أن بلدان الجنوب مبذرة وغير مسؤولة ولابد أن تترك لكي تحل مشاكلها بنفسها.

وفي جذر كل من هذين المعتقدين تكمن حالة من الخوف وعدم اليقين تولدت بفعل العولمة، حيث يخشى المواطنون على أمنهم ويشعرون بعدم اليقين من مكانهم في العالم، ولكن لا عودة إلى الوراء إلى نظام عالمي تحدد معالمه دول قومية معزولة ــ حتى ولو لم يتبين المرء ذلك بسبب الخطاب الشعبوي الذي يهيمن على المناقشات اليوم.

البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي دول ذات سيادة بطبيعة الحال، وهي تتفاوض فيما بينها على هذا الأساس، ولكنها مترابطة أيضاً، حيث تشارك عوامل خارجية في صياغة تصرفات كل بلد عضو، ولا ينبع هذا الارتباط المتبادل من العملة المشتركة فحسب، فهو ثمرة لتفاعلات اقتصادية اجتماعية لا نهاية لها تنسج بلدان الاتحاد الأوروبي في شبكة ديناميكية.

ولهذا السبب فإن الحوار العام الذي يضع في الحسبان اثنين فقط من السيناريوهات المتطرفة ــ التكامل المفروض أو السيادة الوطنية المطلقة ــ مضلل وخطير، وهو يدفع المشاركين إلى زوايا معاكسة، ويجهزهم للصراع، وهي النتيجة التي ينبغي تجنبها بأي ثمن. ولكنّ هناك حلاً وسطاً، فينبغي للاتحاد الأوروبي أن يلتزم بمواصلة تغليب الطابع الديمقراطي على مؤسساته، وقد فعل ذلك عندما أعطى البرلمان الأوروبي المنتخب ديمقراطياً صوتاً في اختيار رئيس المفوضية الأوروبية.

ومن جانبها، ينبغي لبلدان الاتحاد الأوروبي أن تدرك أنها، باعتبارها جهات فاعلة ذات سيادة، اختارت التكامل، لأن الفوائد المترتبة على تجميع السيادة تفوق التكاليف.

وتعكس المؤسسات الأوروبية هذه الديناميكية، فعلى سبيل المثال، تمثل آلية الاستقرار الأوروبي مشروعاً جماعياً يهدف إلى حماية الاستقرار المالي في منطقة اليورو، وليست أداة للهيمنة أو المواجهة، وتنتمي موارد آلية الاستقرار الأوروبي للجميع، تماماً كما يؤثر إفلاس دولة ما على الجميع، وعندما تتجاهل البلدان المستقرة مالياً التحديات التي تواجه نظيراتها المتعثرة فإنها بذلك تعمل ضد مصالحها الخاصة.

وعلى نحو مماثل، سنجد أن التحويلات الاقتصادية التي تتم من خلال الصناديق الهيكلية وصندوق التماسك كانت تتضمن دولاً ديمقراطية ذات سيادة، وكانت الحكومات ذات السيادة في اليونان والبرتغال وقبرص وأيرلندا هي التي طلبت الإنقاذ من شركائها في أوروبا، وقد تلقت اليونان بالفعل مساعدات بلغت 117 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي؛ وفي قبرص كان الرقم 55.9 في المئة، ثم أيرلندا والبرتغال بنسبة 45.1 في المئة و46.6 في المئة على التوالي.

ومن الواضح أن الاعتماد المتبادل لا يمكن تجنبه؛ ولا يمكن تجنب المسؤولية التي يفرضها، والفكرة القائلة بأنه عندما تسوء الأمور تستطيع أي دولة في الاتحاد الأوروبي أن تحل كل مشاكلها بالارتداد إلى السيادة الوطنية المحضة ليست سوى مغالطة فكرية ووهم سياسي، وهي بالتالي مصدر لقدر كبير من الإحباط الاجتماعي، فالسيادة لا تنفي الاعتماد المتبادل.

حان الوقت لكي تتخلى البلدان عن فكرة وجود شكل سحري من أشكال السيادة يسمح لها بالتهرب من مسؤولياتها كبلدان أعضاء في الاتحاد الأوروبي من دون تكبد تكاليف جسيمة، وفي عالم أوروبا الحقيقي اليوم، لا يستطيع المدينون أن يخالفوا الاتفاقات التي التزموا بها في مقابل المساعدة، ويتعين على الدائنين أن يدركوا الحاجة إلى الاستمرار في المساهمة في الموارد اللازمة لصندوق الإنقاذ.

ومن المفيد أيضاً أن يدرك الدائنون أن مساهماتهم، مثل عشرات السنين من المساهمة في دعم صناديق التماسك، لن تؤدي إلى إفقارهم (ولنقل من خلال استنفاد معاشاتهم التقاعدية العامة)، بل على العكس من ذلك، ستستفيد البلدان الدائنة من شركاء تجاريين أكثر استقراراً وقدرة على الوفاء بديونهم لاستيعاب صادراتها.

الواقع أن أسطورة السيادة دامت فترة أطول مما ينبغي في الاتحاد الأوروبي، وهي تعمل على تأجيج المشاعر القومية الخطيرة والخوف من "الآخر"، ويتعين على البلدان الأعضاء، بدءاً باليونان، أن تدرك أن الاعتماد المتبادل أمر لا يمكن تجنبه، بل إنه مرغوب إذا أدير على النحو الصحيح.

وكما اعترف مؤخراً رئيس وزراء اليونان أليكسيس تسيبراس فإن "أوروبا مساحة للتفاوض والتنازلات المفيدة للجميع". كان التكامل اختيارا، واختياراً إيجابيا. ويتعين على أوروبا أن تبذل جهوداً حثيثة لتعزيز الهويات التعددية اللازمة لتجنب المواجهة، وسواء كنا من الشمال أو الجنوب، من ألمانيا أو اليونان، فنحن جميعاً أوروبيون، ونحن أكثر ثراءً بفضل هذه الحقيقة.

* خافيير سولانا | Javier Solana ، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا سابقاً. ويشغل حالياً منصب رئيس مركز إيساد للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية، وهو زميل متميز لدى مؤسسة بروكنجز.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top