أدب الرحلات بين الواقع والخيال

نشر في 05-03-2015
آخر تحديث 05-03-2015 | 00:01
بدأنا رحلة تعد من أمتع اللحظات التي يمكن أن يعيشها الإنسان، وأثناء تجولنا في تلك الأدغال التي أبدعها الخالق رأيت أحد السكان المحليين، وقد وقف على ربوة مرتفعة وبدأ يؤذن مناديا لصلاة الظهر بلكنته الإفريقية وصوته الرخيم الذي يلامس المشاعر ويحيي النفوس، يا له من فرق شاسع بين صوت هذا النداء وما نسمعه الآن على وقع خناجر تجز الرؤوس ونار تحرق البشر أحياء!
 يوسف عبدالله العنيزي في الماضي القريب كانت تستهوينا قصص الخيال والمغامرات، والسفر في عوالم الخيال وطلاسم السحر ومدن تحت البحار وجزر مسحورة، ومن أشهر تلك القصص في العالم الغربي روايات "أليس في بلاد العجائب" و"رحلات ماركو بولو"، و"جلفر"، ومن أشهر كتّاب أدب الرحلات في عالمنا العربي الرحالة "ابن بطوطة" أما القصص والروايات فقائمتها طويلة لعل أشهرها قصص ألف ليلة وليلة، وعنتر بن شداد، وسيف بن ذي يزن، وتغريبة بني هلال، وغيرها الكثير في عالم مزج فيه الواقع بالخيال وخلق شخصيات ما زالت تعيش بيننا، ولا أحد يعلم إن كانت حقيقة أم خيالا مثل شهرزاد وشهريار والسندباد وعلاء الدين والمصباح السحري وغيرها، إضافة إلى خلق واختراع كائنات غريبة مثل الغول والعنقاء والجنّي والحصان الطائر، وغيرها من خيال لا حدود له ولا سقف.

وردت هذه الروايات على البال وأنا أحاول أن أستعيد بعض الذكريات لتلك الرحلات التي سنحت لي من خلال العمل الدبلوماسي والتنقل بين قارات الدنيا وزيارة أماكن لم أكن أتخيل وجودها، فكيف بزيارتها والتجول فيها وكسب أصدقاء فيها.

في بداية عام 1990 صدر مرسوم كريم من أمير دولة الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح- طيب الله ثراه- بتعييني سفيراً غير مقيم لدولة الكويت لدى جمهورية النيجر الصديقة محال من جمهورية الجزائر الشقيقة وبناء على هذا التكليف الكريم، فقد شددت الرحال إلى ذلك البلد الصديق في رحلة شاقة ومتعبة، حيث غادرت مدينة الجزائر بعد الظهر، ووصلت إلى مدينة نيامي من بعد منتصف اليوم التالي مرورا بمدينة باريس ومنها إلى بوركينا فاسو إلى مدينة نيامي عاصمة النيجر.

بعد تقديمي أوراق اعتمادي بالمراسم المعتادة إلى الجنرال علي دوبو رئيس جمهورية النيجر في ذلك الوقت، سألني نائب مدير المراسم السيد أهمادو إن كانت لدي رغبة في زيارة أماكن معينة في بلاده، وقد وجدتها فرصة سانحة فأبديت له رغبتي بزيارة أدغال إفريقيا التي لم يحدث بها الإنسان أي تعديل، وبناء على ذلك فقد وجدت في اليوم التالي سيارة جيب مع السائق وأحد المرشدين، وبدأنا رحلة تعد من أمتع اللحظات التي يمكن أن يعيشها الإنسان، وأثناء تجولنا في تلك الأدغال التي أبدعها الخالق رأيت أحد السكان المحليين، وقد وقف على ربوة مرتفعة وبدأ يؤذن مناديا لصلاة الظهر بلكنته الإفريقية وصوته الرخيم الذي يلامس المشاعر ويحيي النفوس، يا له من فرق شاسع بين صوت هذا النداء وما نسمعه الآن على وقع خناجر تجز الرؤوس ونار تحرق البشر أحياء! يا له من فارق مؤلم!!

 في تلك اللحظات من الخشوع جال في الخاطر مؤذن رسول الله سيدنا بلال- رضي الله عنه- ببشرته السوداء وقلبه الأبيض المملوء بحب الله ورسوله، وما هو إلا بعض الوقت حتى اجتمع عدد من السكان المحليين لا يستر أجسادهم المتعبة إلا أقل القليل من الملابس من رجال ونساء وأطفال، بعد الصلاة تحدثت مع المؤذن الذي أمّ الصلاة، حيث أفاد أنه درس اللغة العربية وحفظ بعض آيات القرآن الكريم في المدينة المنورة، وعند الاستفسار منه إن كان أحد المصلين يتكلم اللغة العربية أفاد بالنفي، وبالكاد يعرف بعضهم الشهادتين وعبارة "الله أكبر".

 ما أعظم هذا الدين الذي بدأ وسط الجزيرة العربية برجل ثم رجل وامرأة وطفل، وغدا الآن ينشر ظله على امتداد الدنيا بأسرها من أدغال إفريقيا إلى غابات الأمازون، من جبال الهملايا حتى مرتفعات الإنديز، نظرت إلى الجمع وقد بدا البؤس محفوراً على جباههم، وتساءلت كم من الآلاف مثلهم يعيش في هذه الأدغال يفتك بهم طقس قاس وفك مفترس، أليس الجهاد في هؤلاء أحب إلى الله وأكثر ثوابا من القتل والاقتتال والفتنة وتفتيت العالم الإسلامي؟ أليس إطعام هؤلاء وكسوتهم وتعليمهم وإيجاد المأوى لهم أجدى وأحب إلى الله من الأسلحة والقتل والتدمير؟

ماذا لو سمع ذلك المجاهد نداء ذلك الشاب الإفريقى وهو ينادي للصلاة داخل أدغال إفريقيا ليؤم جمعاً من المصلين شبه عراة بطونهم خاوية وأقدامهم حافية؟ ترى كم من ملايين المليارات تم إنفاقها لشراء الأسلحة منذ الحرب العراقية الإيرانية مروراً بغزو الكويت الغالية وصولاً إلى أوضاعنا الحالية؟ قتال في كل مكان، ولا تزال عجلة مصانع الأسلحة تدور، والتناقض العجيب في الموضوع أن أكبر منتجي الأسلحة في العالم ومصدريها ومصنعيها هي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن المنوط بها المحافظة على الأمن والسلم الدوليين.

حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

back to top