تعلّمت تقبُّل التقدم في السن

نشر في 04-03-2015 | 00:02
آخر تحديث 04-03-2015 | 00:02
التقدم في السن فن، وثمة مفاتيح للمضي قدماً بثقة على درب الحياة. إليك بعضها إن كنت قد بلغت الستين لتوك وتقلق بشأن السنوات التي تمضي مسرعة.
على كتيب المشاركة في الندوة وردت عبارة «ندوة من خمسة أيام تدربنا خلالها ماري دي هنزل على التقدم بالسن بوعي وسعادة». بدا لي من الصعب تخيل أن خمسة أيام قد تكون كافية، لكن إدراكي المؤلم لعمري الذي يمضي وإعجابي بعمل ماري دي هنزل دفعاني إلى المشاركة. فواجهت سخرية أولادي المطمئنة: «ماذا ستفعلين مع المسنين؟ لست مسنة».

لا أشك مطلقاً في نظراتهم المحبة أو برفضهم أن يروا أمهم تتبدَّل. إلا أن نظرتي إلى نفسي أكثر وضوحاً. أدرك أدق تجاعيدي وكل نقاط ضعف جسمي: أعاني الألم في إحدى ركبتي، أنسى عناوين الأفلام وأين وضعت نظاراتي... صرت في الستين من عمري وعلي مواجهة الوقت الذي يمضي.

اليوم الأول

ألعب مع صوري عن الشيخوخة:

بعد بضعة أسابيع في باحة فندق مميز، رحت أتأمل بحزن نحو 15 متدرباً اجتمعوا لاستقبال الوافدين: «هل أبدو مسنة بقدرهم؟». ثم انضمت إلينا ماري دي هنزل. لا أتخيل أن أحداً قد يسألها عن سنها، فقد بدت بكل بساطة جميلة ومشرقة: صورة الوقار المبتسم والشيخوخة السعيدة. كان على المشاركين في الندوة المجتمعين أولاً أن يوضحوا سبب وجودهم ومشاركتهم. كانت الأجوبة خجولة وتعكس الخوف من الوحدة، المرض، الترمل القاسي، وصورة الأهل الذين لا نود التشبه بهم.

أقر أنني أشعر بالخوف من أن أصبح عبئاً على المقربين مني، أن أتحول إلى عجوز مثل أولئك الذين نتفاداهم لأنهم لا يكفون عن التذمر طوال الوقت. راحت ماري تصغي بصمت ومن ثم بدأت الكلام: «على جيلنا أن يبتكر فن شيخوخة جديداً. ولا شك في أن المهمة صعبة لأن مجتمعنا يرسم صورة كارثية عن التقدم في السن. ولكن ثمة وسائل للنجاح. لنكن رواداً». ثم انتقلت للحديث عن المعمرين في جزيرة أوكيناوا في اليابان الذين يرنمون كل صباح: تمنع حرارة القلب الجسم من التقدم في السن». ويعيشون هؤلاء سعداء لأن المجتمع يعتبرهم كنزاً. «لنسعَ لنكون كنوزاً للآخرين. قد تكون الشيخوخة نمواً أو غرقاً. من السهل أن نحولها إلى غرق، ولكن لنتعلم أن نتخذ منها عملية نمو».

شمل التمرين الأول البحث في محيطنا عن شخص متقدم في السن نود التمثّل به وتدوين خصاله. وهكذا رسمنا صورة مثالية لشخص مسن مرح وسعيد يدرك كيفية نقل معارفه إلى الأصغر منه سناً، معطاء ومنفتح على الآخرين، ما زال يحافظ على نظرة واقعية ووقورة إلى فكرة الموت. وقد انكب المشاركون كلهم بحماسة على هذا التمرين.

انتقلنا بعد ذلك إلى تمرين لصق معتمدين على صور وعبارات من المجلات. ألّفنا مجموعات من اثنين، وكان علينا أن نضع في نصف صوراً سلبية نملكها عن التقدم في السن، وقي النصف الآخر الصور الإيجابية. «اتبعوا الطفل داخلكم. العبوا بالصور والكلمات». راح الجميع يقطعون ويلصقون كما في المدرسة. امتلأت ورقتي بصور قاتمة، المرض، الحزن، الصمت، الشفافية، الموت... احتل المساحة الكبرى وجه نظراته مخبأة وراء قماش أسود عثرت عليه في إعلان لأحذية فاخرة، فغطيته بسماء متلبدة بالغيوم السوداء. أما في النصف المخصص للصور الإيجابية، فلم تتبقَ لي مساحة كافية لأضع شجرة جميلة تمد أغصانها وتفتحها عالياً: الحماية والعطاء.

لاحظت أنني ألصقت الصور القاتمة بانزعاج إلى حد ما، فيما أججت الصور الإيجابية في داخلي ابتسامة. فهل هذه بداية القبول؟ أعطينا صورنا الملصقة لماري التي راحت تدون مخاوفنا على لوح وأنهت هذا اليوم في مرحلة تؤثر في الجميع: «لنتقدم في السن بشكل جيد علينا تقبل الخسائر».

اليوم الثاني

أتأمل خوفي من الموت:

في اليوم التالي، التقينا على العشب وكنا نرتدي ثياباً رياضية. أصرت ماري: «يجب ألا ننسى جسمنا. يجب أن نسكنه ونشعر أننا مرتاحون داخله». علمتنا بعض التمارين التي يمكننا القيام بها كل يوم طوال ربع ساعة: التمطط مثل الهرة، تمارين تليين، وتمارين للتركيز على عملية التنفس. وقد شجعتنا على القيام بنشاط جسدي، مهما كانت سننا: «يمكننا طوال حياتنا القيام بالأمور كافة التي اعتدناها إنما بطريقة مختلفة».

بعد الغداء، استعددنا لفترة بعد ظهر صعبة. قررنا تناول فكرة الموت: «يتيح لنا تأمل خاتمتنا التقدم في السن بوقار». وطرحت موضوع سكان أميركا الأصليين الذين يتصورون طوال حياتهم طائراً جاثماً على كتفهم ويسألهم كل صباح: «وماذا إن كان هذا يومي الأخير؟». وهكذا يمضون يومهم وهم يفكرون في أنه قد يكون الأخير. نواجه خوفنا من الموت. كان خوفي أنا يرعبني وقد حرمني النوم أحياناً. ولكن ربما أستفيد من هذه المرحلة من التدريب بتعلم أن أتقبل نهايتي. راح كل منَّا يتحدث عن الموت ببساطة. ومع أنه لم يمضِ على تعارفنا أكثر من يومين، ها نحن نتناول موضوعاً حميماً وحساساً جداً. ولكن هذا هو سحر هذا التدريب عندما تنظمه يد واثقة.

بما أنها متخصصة بمسائل نهاية الحياة، طرحت ماري تجربتها مع المحتضرين. فسالتها عن النفس الأخير: «هل يصرخ البعض خوفاً؟». أجابتني: «لا نموت ونحن نصرخ، بل عندما نستسلم. يموت معظم الناس برفق كما لو أنهم شمعة تنطفئ. أما العذاب، فيظل لمن هم ما زالوا على قيد الحياة».

اليوم الثالث

قمت بجولة على ذكرياتي:

كانت تلك الليلة صعبة بالنسبة إلى كثيرين. راحت ماري تتحدث عن الثقة والتعاطف. خرجت امرأة من الغرفة وانتقلت إلى الحديقة لتبكي وحدها، فلحقت بها أخرى لتواسيها. صارت الروابط بيننا قوية.

أوضحت ماري متحدثة عن تمرين اليوم: «الحياة المليئة بالإنجازات تكون مرضية». لذلك علينا أولاً التصالح مع ماضينا: «تتملكنا جميعنا اليوم ثلاث صفات سلبية: الندم، الحسرة، والضغينة. لكن هذه تشكل سماً أو حقائب ترخي بثقلها على تقدمنا في السن. لذلك من الضروري التخلص منها والاستمتاع بالعالم من حولنا قبل أن نختفي. ويعني تحديد هذه المسائل أن نراها أمامنا لا خلف ظهرنا».

قسمنا ورقة إلى ثلاثة أعمدة: الندم، الحسرة، والضغينة. وكان علينا نحن أن نملأها من حقائب ذكرياتنا السيئة. فانكببنا كل منا على ورقته في زاوية ما ورحنا ننبش ذكريات الخيانة والفرص الضائعة، مفكرين في احتمال التصالح معها. قال أحد المشاركين وهو ينزع الورقة بقوة: «لا يمكنني أن أغفر لبعض الناس». لكن ماري أجابته: «يمنعنا الندم من المضي قدماً. ومن الممكن للضغينة القوية أن تتجلى بطريقة بغيضة مع التقدم في السن».

اليوم الرابع

أكتب للباقين:

في صباح اليوم التالي، رحنا نمشي ببطء على الندى وقدمانا حافيتان وعينانا شبه مغمضتين بغية الشعور بالعشب وهو ينسحق تحتنا: مسيرة واعية هدفها التأمل. واجه البعض صعوبة في التركيز على خطاهم لأن البطء يجعلهم يفقدون توازنهم، في حين سار آخرون بسرعة. أما مَن نجحوا، فأقروا بأنهم شعروا براحة كبيرة.

شعرنا أننا هادئون ومستعدون للتمرين الأسهل: ما زال أمامنا ساعة قبل أن نموت، فما الرسالة التي نود تركها؟ بحث كل منا عن موضع يشعر فيه بالراحة ليملأ خلالها وجهي ورقة واحدة لا أكثر ولا أقل. لن نقرأ ما كتبناه أمام الآخرين، بل سيكون ملكنا نحن وحدنا. ظننت أنني سأقع ضحية الخوف ولن أتمكن من كتابة كلمة. ولكن سرعان ما لاحظت أن قلمي ينزلق على الورقة من دون أي جهد. بعد ساعة، كانت صفحتاي ممتلئتين. وللمرة الأولى تقبلت فكرة الاختفاء. احتفظت بالرسالة. ولا شك في أن أحداً سيجدها ذات يوم وسيقرأها، فمنحتني هذه الفكرة شعوراً بالرضا.

اليوم الخامس

أبحث عن مصدر فرحي:

حل اليوم الأخير لتعلم «الاسترخاء والتيقظ»، والنمو بدل الزوال. رحنا نبحث عن مصدر فرحنا. أجاب البعض الطبيعة، وآخرون الأولاد. أما أنا، فأهوى الشعر والموسيقى أو متعة الانتقال. تناولنا بعد ذلك الخوف من الوحدة التي نخلط دائماً بينها وبين العزلة. قد تكون الوحدة مميزة ومصدراً كبيراً للسعادة، كما تقول الكاتبة جاكلين كيلين في نص قرأته علينا ماري. ثم راحت بعد ذلك تعدد خمسة مفاتيح أساسية لتكون خلاصة الأيام الخمسة: «تأمل النهاية، الاسترخاء بالتخلص مما يكبلنا، تقدير الوحدة بالعمل على التصالح مع ذاتنا، الاعتناء بنفسنا جسدياً وفكرياً، وأخيراً تخصيص الوقت لمصدر فرحنا».

في طريق العودة إلى المنزل، لم أتمكَّن بعد من تقدير فوائد مشاركتي هذه. فما زال انعكاس صورتي في الزجاج يحمل وجهاً لا أحبه، إلا أنني شعرت أني تخلصت من الخوف؟ من الموت وأدركت أن بعض ما تعلمته سيوجهني في مراحل التقبل اللاحقة من حياتي. بحثت عن كتاب لماري بعنوان «حرارة القلب تمنع جسدي من التلف». قرأت مقطعاً مميزاً: «في اليوم الذي نتمكن فيه من النظر إلى صور الناس المسنين بعاطفة، التشبه بهم من دون إحجام، والقول إننا نود أن نصبح مثلهم عندما نتقدم في السن، في ذلك اليوم يكون مجتمعنا قد حقق خطوة جبارة نحو الأمام».

back to top