سامر أبو هواش في «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر»...

نشر في 04-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 04-03-2015 | 00:01
No Image Caption
قصيدة يضيق صدرها بالفجيعة

قد تكون وظيفة الشعراء إعادة صياغة الحياة. إلا أنّهم يختلفون في تبنّي الواقع شعوريّاً، فمنهم من يلوذ بشيء من المباشرة، ومنهم من يقنّع هذا الواقع بكثير من الرمزيّة البعيدة والتجريد.
في «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر»، للشاعر سامر أبو هواش، يقول غلاف الكتاب ما يتحاشى النصّ قوله. يقول ما هو أكثر من الموت. أجل، إنّ ما هو أصعب من الموت طريقته. إذ إن صورة الغلاف بشاعة تجتاز الوصف، بشاعة برسم القاتل لا القتيل. بشاعة تصلح عنواناً لزمن يخجل لأنّه أتى ببراءة كاملة، وسطا عليه سفّاحون مبدعون في فنّ الجريمة التي استطاعت أن تصبغ عباءة الوقت نفسه بالأحمر الطاعن في السّواد.
يستهلّ أبو هواش كلامه بالإعلان عن أسماء تضيع، لها من أوراق الشجر الفارغة من الحياة مفاتيح تدلّ عليها: «تكفي أحياناً/ وريقة شجر مهملة/ مفتاحاً إلى اسم يضيع». وفي رحلة البحث عن إعادة الأصوات إلى الوجوه، لا بدّ من مرآة تتصبّب فضّتها عرقاً فتوقظ نفخة عليها صمت الوجوه المستريحة في اتساع غابة لا جغرافية لها خارج الرأس: «يكفي/ بعد أن تملأ الحمّام بالبخار/ أن تنفخ في المرآة/ كما تنفخ في حساء ساخن/ حتّى تعيد إلى جميع الوجوه الصامتة،/ في غابة رأسك،/ جميع أصواتها الضائعة».

ويستمرّ الشاعر معبّراً بلغة توحي بالحياديّة والتبرّؤ من صراحة الواقع ومباشرته، وكأنّه يوهم قارئه بأنّ نصّه يرى ولا يبوح بكلّ ما يراه، ما يعني أنّ على القارئ الاستعانة بعينيه هو أيضاً، وعليه أن يكمل المعنى ويأخذ بيده، حين المعنى إليه يمدّ يداً. ويشكو أبو هواش صخب المشهد، غير أنّه يوصي صبره بتبديد الضجيج، ذلك الضجيج الذي قد ينتهي ارتعاشة على رؤوس الأصابع أو يتقمّص الماء فيجد نهايته على فم المزراب: «صخب تريد أن تسكنه أحياناً/ لكنّك تدعه يتبدّد شيئاً فشيئاً/ حتى يتحوّل/ ارتعاشة متواضعة/ على أطراف أصابعك الساهمة/ أو يجد طريقه الطبيعيّ إلى المزراب».

ويمضي أبو هواش بحزن صامت نحو أمسه، معطياً الذكريات عطراً من أصابع أمّ وأخت، تلك الذكريات التي لا يمكن أن يأكلها الغبار في خزائن النسيان: «هكذا تعرف أنّ الذكريات/ قميص تطويه الأمّ أوالأخت/ بحذر شديد/ وتربّيه في مكانه المناسب/ في درج الخزانة».

ولم يستطع الشاعر، على رغم تواريه في ضباب الرّمزيّة أن يتجاهل كلمة «الدم» أو كلمة الجثث، إنّما أسَرَ العالم كلّه في غرفته التي لها من السواد جدران، فأمسى سقفها سقف الدنيا، الذي شُفي من رشح الدم، ليرتقي إلى فجيعة أكبر، ويرشح الجثث نفسها حيث شاعر يستلقي على ذاكرته محاصراً بالوقت الميت والحلم الميت: «غرفة ليليّة/ تشبه كثيراً هذا العالم/ حتى تحسبها توأمه،/ إلاّ أنّ السقف، منذ البارحة،/ ما عاد يرشح دماً،/ بل جثثاً/ بكامل انمحائها».

قجة وقت

يعود أبو هواش، إلى الدُّرج مجدّداً، ليصير هذا الدّرج قجّة وقت هو الصيف بعينه، إلاّ أنّه تحوّل بدوره عصابة قتل تنمو وتتكاثر ولها من عتمة الدُّرج مكان آمن: «يخيّل لك أحياناً/ أنّ الصيف – هو الآخر -/ سلسلة قتلة تائهين/ تناسلوا على غفلة منك في عتمة الدُّرج». وتتغلغل الجريمة عميقاً في لغة أبو هواش، إلى أن تسقط من الحذاء غير مكتملة. إنّه الزمن الأحمر بالامتياز. تمشي فتلتصق الجريمة بحذائك البريء، وتصل معك إلى غرفة النوم: «تترك تحت الحذاء/ الذي خلعتَه على عجل/ قرب السرير/ جرائم لم تكتمل»...

ويواصل الشاعر رسم مشهده. ويواصل تكثيف قاموس حاول الهرب منه ولم يفلح. فالأعمار ثياب من الوقت، لها حبال غسيلها أيضاً، والموت يتنافس على امتداد الدنيا مع بائع آيس كريم تسيل ضحكته الغليظة على وجهه: «... أعمار معلّقة/ على حبل غسيل مرتجل،/ الموت/ بائع آيس كريم ضاحك/ يجوب العالم/ بحثاً عن قبّعته الضائعة». والأرجح أنّه لن يجدها؛ والأرجح أنّ ليس له قبّعة... وكثافة الموت في زمن أبو هواش تجعله يرى الحياة منذ أن كانت حصّة للموت دون غيره، ويرى الناس موتى يتناسلون منذ أن كانت أرحام تحت الشمس: «في الصباح/ تعرف أنّك ستفعل ما درج الموتى على فعله/ منذ آلاف السنين/ نتذكّر الخبز والقهوة وروائح أخرى»...

وإذا كان الشاعر يتحاشى النقل الواقعيّ، ولو بلغة شعريّة، فإنّه يجسّد الواقع في أشيائه الخاصّة، البيتيّة، البسيطة، كأن تصبح الثلاّجة ساحة من ساحات الأرض الملتهبة فيتعملق صوت بابها، ويصير دخانها البارد كالذي تجود به الانفجارات المرعبة: «وفجأة/ لباب الثلاّجة/ ذلك الدويّ المرعب/ دخان كثيف بارد/ ينمّ عن مجزرة». ويبلغ تصعيد لغة الفجيعة ذروته، حين يصير الكون مفرمة، وما من أحد يستطيع أن يعالج دمويّة أرجوحة تبلغ منتهى جنونها: «ويمكنك دائماً أن تخوض حرباً أخيرة/ ضدّ المفرمة الكونيّة،/ التي تولد أمامك فجأة/ كأرجوحة/ في أقصى تحليقات جنونها».

صورة تذكارية

وإذا كان لا بدّ من صورة تذكاريّة في هذا الوجود فهي مع عالم يقول آخر حياته، حيث الموتى محتشدون ولهم نجوميّة لا تقلّ عن تلك التي لنجوم الأوسكار: «أو يمكنك الاكتفاء بصورة سيلفي أخيرة/ مع عالم يحتضر/ مع جميع الموتى الشاحبين/ يحتشدون خلفك/ كنجوم الأوسكار»... وبمنتهى الرمزيّة يتّهم أبو هواش كلّ من يمكن أن يكون مسؤولاً وهو متوارٍ ويدير اللعبة من مكان قصيّ جدّاً، ومرتفع جدّاً، فالأشجار مثلاً قسراً تغادر حقلها قبل أن تمتلئ عمراً: «لعلّها الغفلة الخالصة/ رأس الكوكب ذاهل كصوفيّ/ الدم يغلي في الطبق/.../ بعد أشجار فارقت الحقول، صغيرة جدّاً، ولم تعد».

وقبل نهاية الكلام بقليل، يدلّ أبو هواش، بقلمه على أرباب الجريمة، هؤلاء الذين يأتون من زمن مضى، ويقتلون لإرضاء سماء هم شاؤوها كما يريدون: «قتلة غابرون/ يحملون ألواح الأسلاف/ جزّازات عشب متوضئة/ في مهمّة مقدّسة»... إنّ هؤلاء القتلة لا تنتهي صحراؤهم ولا يرتوي لها رمل: «قتلة غابرون/ ... ويصرخون: / زوّجناك تاريخنا»...

في جديده الشعري «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» اختصر الشاعر سامر أبو هواش زمناً استثنائيّ السّواد، قد يكون مرّ بدنيانا مرّة، غير أنّ من العار أن يمرّ بها مرّةين.

back to top