الموسيقى الغربية تخاطب العقل والشرقية تخاطب الغرائز

نشر في 07-03-2010 | 00:01
آخر تحديث 07-03-2010 | 00:01
خلّف الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب وراءه أوراقاً خاصة، ومدونات في الحياة والسياسة والفن، كان قد كتبها على مراحل قبل وفاته. وبحسب قرينته السيدة نهلة القدسي، فإنه بدأ في كتابتها بعد زواجهما مباشرة. وبعد مضي ما يقرب من عشرين عاماً على رحيل الموسيقار المبدع، يتصدى الشاعر فاروق جويدة لهذه الأوراق، وبإيعاز من القدسي لتصدر في كتاب عن دار الشروق يحمل عنوان: "محمد عبدالوهاب: رحلتي الأوراق الخاصة جداً". يؤكد جويدة في تقديمه أن الكتاب ليس مذكرات شخصية، لأنه لم يبق من حياة عبدالوهاب ما لم يطلع الناس عليه، بل هو يحوي آراء سياسية حادة، وفنية جريئة وصريحة وقاطعة، وفيها تعرية لجوانب كثيرة من حياتنا، نخجل من الحديث المباشر عنها. ويقسم جويدة الكتاب إلى خمسة محاور أساسية، تدور حولها مجمل آراء عبدالوهاب، المحور الأول يتضمن رحلته الخاصة مع الفن  وخواطره بشأن الموسيقى العربية والعلاقة بينها وبين الموسيقى الغربية، المحور الثاني يتعلق برحلة عبدالوهاب مع الناس، خاصة المشاهير منهم. أما المحور الثالث فهو مخصص لرحلته مع المرأة، وهي من أصعب الموضوعات لأنه عالجها بوضوح شديد، متطرقاً إلى الجنس والحب والزواج. المحور الرابع يحوي رحلة عبدالوهاب مع السياسة وآراءه في هذا الجانب. ويتطرق المحور الخامس إلى آراء عبدالوهاب ومواقفه الحياتية بشكل عام.

"الجريدة" تقدم لقرائها في حلقات متتالية رحلة محمد عبدالوهاب كما وردت في أوراقه الخاصة.

في الحلقة الخامسة يؤكد عبدالوهاب أن الموسيقى الكلاسيكية الغربية تبعث على التأمل والمتابعة، وتخاطب العقل والإحساس معاً، وتجذب المستمع إليها، مشيراً إلى ضرورة تمسك الموسيقى العربية بهويتها المحلية، إذا ما أرادت الانطلاق والوصول إلى العالمية.

ان الالحان العربية منبثقة من اخلاقهم، فالخلق العربي ليس له خطوط واضحة فالأخلاق العربية تعتمد على المجاملة الكثيرة ذات اللف والدوران والزخرفة الكلامية، والفهلوة، وسرعة الخاطر وخفة الدم، والحس المادي، وكل هذا يتجلى في الحاننا، الزخرفة الصوتية المستمرة، زخرفة العازف، خصوصا "العزف المنفرد" حيث يلاحظ في عزفه "الرغي" المستمر في الجمل اللحنية، ومخاطبة الحس المادي ومخاطبة الحس الجسدي بتصفيق الأيدي وضرب الارض والارجل والصفير والزعيق. بعكس الالحان الغربية فإنها تحاكي اخلاقهم... الخطوط المضيئة، الاعمدة الواضحة، الاعتماد على اسس واضحة اكثر من التفاصيل. انها تشدك الى التفكير البعيد اكثر مما تشدك الى متعة اللحظة الحاضرة، وأعترف اننا بدأنا، ولكن امامنا الكثير لنغير خلقنا، فتتغير موسيقانا.

والفنان عندي هو الذي ينهار امام الجمال ولا يفكر في اي شيء دونه. فمثلا لو قتل شخص إنسانا هو أقرب الناس إليّ واحبهم لديّ، وذهبت لأقتله وكان هذا القاتل فنانا عازفا مثلا أو مطربا مثلا، وفوجئت أنه يؤدي فنه وأحسست بجمال تأديته وأقنعني، عند ذلك سأركع على قدميه أقبلهما اعجابا وحبا. هذا أولا، وثانيا.. وبعد ذلك فليفعل الله ما يشاء.

لقد دخل عليّ شاب طالب في مدرسة التجارة المتوسطة وقال لي: إنه يحب الغناء ويريد أن يكون مطربا، وإنه في خلاف مع أهله لأنهم لا يريدونه مطربا وسيضطر الى أن يتركهم إذا لم يوافقوا على أن يكون مطربا... فقلت له: اسمعني صوتك، فأسمعني، وإذا بصوته قبيح فأحسست بمسؤوليتي إذا أنا جاملته فسيترك أهله، ولا ينفع أن يكون مطربا، فقلت له: يا بني، الحقيقة أن صوتك قبيح ولا يصلح للغناء... فرد علي قائلا: معلهش الماكياج يصلح كل حاجة!

روز اليوسف

وأذكر أننا كنا نجتمع عند روزاليوسف وكان بيتها جلسة أدبية وسياسية اجتماعية يحضرها العقاد والمازني وحفني محمود التابعي وابراهيم المصري وغيرهم، وكان لنا صديق قديم لأولاد الذوات يذهب عندهم ويمتعهم بأساليبه، وكان مشهورا بمهارته في تقليد الشخصيات الكبيرة المعروفة في مصر، فهو يقلد حيدر باشا وحفني محمود والعقاد وتوفيق دياب وطلعت حرب وغيرهم، وكان يغني فقد كان عضوا في نادي الموسيقى، ولكن صوته لم يكن جميلا ورغم هذا كان يصر على الغناء لهم، والناس تقبل منه هذا لأن دمه كان خفيفا.

وذات يوم استدعته روزاليوسف وكان العقاد لم يره، ولكنه يسمع عنه ويعلم أنه يقلده، وحضر وقلد جميع الشخصيات المعروفة ومنهم العقاد بمهارة وخفة دم لدرجة ان العقاد كاد يغمى عليه من الضحك.

 ثم فاجأنا الصديق بأنه استدعى ثلاثة عازفين يصاحبونه للغناء واراد ان يغني وجاملناه طبعا بالقبول والاستحسان، وغنى ولكن غناءه كان قبيحا، وبعد أن انتهى نظر اليه العقاد وقال له: يا أستاذ... قال للعقاد: نعم، وانتظر الصديق الثناء عليه وعلى صوته من العقاد، لكن العقاد قال له: يا أستاذ ما دمت بارعا بهذه الدرجة في التقليد، لماذا لا تختار مطربا جميل الصوت وتقلده!

والحقيقة أننا يمكن ان نقول فلان «مغني» أي انه يحترف الغناء وقد يكون مغنيا بارعا او مغنيا قوالا فقط، وهذا لا قيمة له أما إذا استعملت كلمة فلان مطرب، فهنا قد حددت مهنته وقدرته أي أنه «مغني» يطرب أي أنه «مغني» يملك من الاحساس والصدق ما يجعله يطربك.

لهذا فإن العمل الفني الجيد كائن حي لا يموت، وربما لا يحدث شيء وقت ولادته، ولكن انتظره فسوف يجيء دوره. والعمل الفني الجيد كإنسان عبقري ولد هو الآخر انتظره فسيجيء دوره في يوم من الايام. ولهذا أقول دائما اعثر على خاطر جميل... تضمن له البقاء.

يارب اغفر لي بقدر ما أحب فني.

العقل والغرائز

عندما أسمع موسيقى غربية أشعر أن الوقت ليس له قيمة عندي. وعندما أسمع موسيقى عربية، أو بمعنى آخر غناء عربيا أقول عندما أسمع الغناء العربي أشعر أن الوقت له قيمة عندي.

فعندما أسمع الموسيقى الغربية فأنا أمام عمل وبناء موسيقى هندسي معماري... فالجملة التي اختارها المؤلف لعمله الموسيقي أتابعها كيف لعب بها، كيف فكها، ثم جمعها، كيف احتفظ بملامح الجملة في كل العمل الذي أسمعه، كيف يفاجئني، كيف يرتفع بي، كيف يهبط، استمع وأنا مشدود ومأخوذ لذلك لا أحس بالوقت، الوقت لا قيمة له كأنني استمع إلى قصة وأشعر أنني مشدود لأن أعرف بدايتها ونهايتها.

وعندما أسمع غناء عربيا، فالجملة الواحدة تتردد عشر مرات أو عشرين مرة بنفس اللحن وبنفس الطريقة، لا جديد، لا علم، لا إضافة، لا هندسة، لا بناء، لا مفاجأة، عند ذلك أحس بالوقت وقيمته. اللهم إلا إذا كان يوجد صوت خارق القدرة فيضيف بعض التطريز الذي يشجعني على البقاء قليلا. هذا هو الفرق وما هو العلاج؟ أقول: العلم... العلم... العلم.

والموسيقى الكلاسيكية الغربية تبعث على التأمل والمتابعة وتخاطب العقل والإحساس معا ومعبرة وتشد المستمع إليها لتستبقيه معها، ولا ينسى المستمع أبدا وهو يسمعها أنه يسمع موسيقى تدفعه إلى التفكير والسمو.

والموسيقى الخفيفة مهدئة تبعث على الاسترخاء اللطيف، وكثيرا ما ينسى المستمع أنه يستمع إلى موسيقى، وربما تكلم مع زميل له أثناء عزفها، بعكس الموسيقى الكلاسيكية التي لا يمكن للمستمع أن ينشغل عنها بأي كلام.

أما موسيقى الجاز فهي تخاطب الجبلة البشرية الطينية وتخاطب الحركة الآلية في الإنسان، فإذا أردنا وصف الأفرع الثلاثة بإيجاز أقول: الكلاسيكية توقظك فتظل مستيقظا، تفكر وتسأل وتتابع ويدفعك الفضول إلى أن تسأل نفسك: ماذا يريد مؤلف هذه الموسيقى أن يقول؟ ترتفع معها وهي قوية وتنخفض معها وهي تهمس، تظل مصغيا لها.

أما الموسيقى الخفيفة فلا تعي إلا أنك تسمع موسيقى ذات جملة حلوة تريحك ويمكنك أن تنام وهي تعزف.

والجاز توقظك بلا تفكير ولا فعل ولا تأمل ولا تساؤل إنها موسيقى تحركك بلا هدف تحرك فيك النشاط والحياة الأرضية البشرية.

لقد تفنن الغرب في تلوين أصوات الآلات بحيث إنه لا يمكن ان تتشابه آلة مع آلة أخرى في طعم صوتها ولونها، حتى في الفصيلة الواحدة نجد هذا التباين، فمثلا فصيلة الوتريات صوت الكمان الرقيق العالي غير صوت الشللو الخشن وهو يشبه صوت العجل المذبوح غير صوت الباز بقوته. وفي جميع الآلات نجد هذا التباين. الأوبوا غير الكلارنيت غير الفلوت غير الترمبون غير الكرنو غير الترمبيت وهكذا.

هذه الآلات يكمل بعضها بعضا ولكن لكل آلة طعما ولونا مختلفا تماما عن طعم ولون الآلة الأخرى، وهذا يعطي فرصة ميسرة للملحن حين يمزج هذه الآلات ببعضها أن يعبر عن أي شيء، الغضب، الفرح، الحب، العاطفة، الهدوء، الرعب، لأن كل هذا موجود في هذه الآلات، والملحن بعلمه وذوقه يستطيع مزج بعضها مع البعض لإبراز ما يريد إبرازه من تعبير.

شخصية فريدة

نصل بهذا الى ان كل آلة موسيقية لها شخصية فريدة لا شبيه لها. وفي الاصوات البشرية نجد غير هذا تماما. فالاصوات البشرية دخلت في قالب واحد ولا يوجد غيره: النفَس... اخراج الصوت في قالب خاص او قناة واحدة بحيث تخرج متشابهة فيصعب علينا ان نفرق بين صوت وصوت خصوصا في الغناء الكلاسيكي الاوبرالي مثلا.

وعندنا في البلاد العربية اصوات المطربين والمطربات تشبه آلات الغرب الموسيقية كل صوت له طعم ولون وطريقة. وذبذبات ونبرات تختلف عن الصوت الآخر، وليس هذا نتيجة علم او قصد ولكن نتيجة عفوية. فكل مطرب او مطربة تغني كما تشاء وتتنفس كما تشاء وتخرج الالفاظ كما تشاء، وتستعمل نبراتها كما تشاء، لم يعلّمها احد اخراج الصوت او كيف تتنفس او استعمال النبرات، ولذلك يسهل علينا في لحظات ان نعرف من يغني او من تغني.

فمثلا صوت عبدالحليم غير صوت فريد، وصوت ام كلثوم غير صوت فيروز، وصوت نجاح سلام غير صوت وردة، وصوت فايزة احمد غير صوت شادية، وصوت محرم فؤاد غير صوت محمد قنديل.

في لحظة تعرف وتضع يدك على من يغني، فهذا قوي، وهذا ضعيف، وهذا رقيق، وهذا عنيف، وهذا مفرح، وهذا مشجي، وهذا له صوت ضيق، وهذا له صوت جهوري وكل منهم يتجاوز منطقة حدود صوته فنسمع صوته في بعض الجمل التي خارج حدود صوته، نسمع وكأنه صوت آخر. كل هذا جاء من العفوية من اللاعلم ومع ذلك اباركه، لانه اوجد لنا اصواتا مختلفة المذاق والالوان والطعم.

وربما كان الاعوجاج في اخراج حرف معين او خطأ في اخراج صوت يعطي لنا نبرة حلوة غير مطروقة.

انني افضل هذه العفوية الطبيعية على ان اسمع اصواتا دخلت في قالب واحد واخرجت في لون واحد كوجوه اليابانيين كالأشياء الجاهزة مثل الملابس والاحذية، وكرر، انني شخصيا ابارك احيانا العفوية والارتجال الذي يبدع لي ما لا يبدعه الفكر والقصد.

واللحن العربي يمكن الاضافة عليه والاختصار منه لأنه جملة او جمل موسيقية متشابكة او ما نسميه «الميلودية» وهذه الجمل تُعزف او تُغنى، الموسيقيون اي العازفين يعزفون نفس الجملة او الجمل مع المغني سواء بسواء، فلو اختُصر او أُضيف شيء اليه وليس هناك بناء متكامل سينهار.

أصوات مختلفة

اما الالحان الغربية «فالمليودية» اي الجمل او الجملة عندما تعزف وتغنى، فالعازفون لا يعزفون نفس الجملة بل يعزفون اصواتا مختلفة تماما عن اصوات الميلودية، اي ان الاصوات الاخرى المصاحبة للحن الاصلي هي ما يسمى بالهارموني منها، هذا العلم الواسع الذي يختار منه الملحن ما هو ملائم للحنه. ويُصاغ الهارموني بقيود وقوانين وعلم يستقل مع اللحن الاصلي فلكل نوتة مكانها بكل انضباط، بحيث اذا حدث اي تغيير في اللحن الاصلي او في اي لزمة انهار البناء الهارموني كله.

والملحن الاوروبي يضع اللحن ويصوغ له الصياغة الهارمونية ويكتبه. ومن يعزفه من جيله او من اجيال اخرى ملتزم بما كتبه الملحن لحنا هارمونيا، اما الالحان العربية او التراث كما نسميه فليس هناك كتابة لأن من يلحنون كانوا لا يعرفون كتابة النوتة.

فليس لهذه الألحان هارموني لأننا لانزال حتى في جيلنا الحاضر لا نستعمل الهارموني إلا نادرا، ولذلك يسهل على كل إنسان ان يغير في هذا التراث لأنه انتهى الينا بالرواية فكذب من يقول إن ما نغنيه الان هو من أدوار وتواشيح هي بالضبط ما لحنه صاحب هذه الألحان لأن كل مطرب يغنيها بذوقه الخاص ولا شيء يمنعه من أن يزيد أو يحذف أو يغير.

ولكن اللحن الاوروبي بناء مكون من جمل اساسية وتركيبات هارمونية تربط هذا البناء برباط لا يمكن العبث به إلا إذا اراد موسيقي أن يأخذ جملة كلاسيكية مثلا ويخضعها للون الجاري. عند ذلك فقط يمكن أن يضع لها اطارا آخر يختلف اختلافا كليا من حيث الايقاع والهارموني وما يزيده على الجملة من حليات ليدخلها في نطاق الشكل الجاري، ويُعتبر هذا الموسيقي صاحب فضل كبير في فكرة تقديم هذه الجملة بالشكل الجديد.

خطاب اللذة

والشرقي بطبعه «لذائذي» فموسيقاه تخاطب اللذة فيه، واللذة بمجرد ان تذوقها مرة أو مرتين تموت، واما الغربي فموسيقاه تُخاطب العقل، موسيقى منطقية موسيقى ممنطقة والعقل لا تموت متعته ابدا والموسيقى الغربية تحرص على السيمترية، ولكن في الوقت نفسه كسر هذه السيمترية بما لا يجعلها مملة كوجه الإنسان فقد أبدعه الله وأودع فيه سيمترية عجيبة فهذه عين وعين أخرى مقابلها وهذه اذن وأذن في الناحية الثانية وهذا حاجب، وحاجب آخر في الناحية المقابلة ثم يكسر الله سبحانه وتعالى هذه السيمترية بأنف واحد وفم واحد وجيد واحد. إنه ابداع ممتع ومعجز إنني أعتقد لو أننا مزجنا بين ما في احساس اللذة في موسيقانا الشرقية وبين علم وعقلانية ومنطق الغرب لحصلنا على موسيقى خرافية.

والعزف المنفرد على أية آلة متعة للمستمع بلاشك، وهي غالبا ما تكون عفوية، فالعزف مرتجل أو على الاقل هذا هو ما ينبغي ان يكون.

فأنا عندما اسمع العزف المنفرد اتتبع ذكاء العازف وسرعة البديهة وسرعة الخاطر، وكيف جمع كل هذا من جمل لحنية جميلة، ومع هذا فأنا لا استطيع ان اسمع العزف المنفرد طويلا ولا متكررا. بعكس العمل السيمفوني، فالعمل السيمفوني عمل فني متكامل نشعر فيه بالجمال والذكاء والتناسق البارع في علم الهارموني.

وأنا لا أمل عند سماعه في السيمفونية، حيث يرتفع بك ويهبط ويتوسط ويعطيك في أحيان جزءا من آلات، وفي أحيان أخرى يسمعك نصف الفرقة، وفي أحيان ثالثة الفرقة كلها بكل قوتها ثم يهبط بك رويدا رويدا حتى تصبح هذه الفرقة الكبيرة وكأنها تهمس همسا تحبس انفاسك لتسمعها ويعود ويرتفع بها ثم يعود ويقسمها. اظل هكذا استمتع بالجمال والذكاء.

وعندما استمع إلى سيمفونية اشعر كأنني استمع إلى ندوة من العلماء والأدباء والفلاسفة في حوار رائع فيه العلم والجمال والتأمل والفكر.

كل هذا يخاطب روحي وعقلي، ندوة على مستوى رفيع. وعندما أسمع العزف المنفرد أشعر كأنني استمع إلى خطيب، فالخطيب مهما كان بليغا فلابد لي بعد فترة غير طويلة من أن أتمنى أن يسكت.

ولأضرب مثلا بفننا نحن في الغناء، فقد يكون هناك مطرب مشهور بغناء الموال، فمهما كان هذا المطرب محبوبا، فالموال هنا كالعزف المنفرد يعتمد على الارتجال والعفوية. أقول مهما كان محبوبا فإنه لا يستطيع أن يأخذ من الزمن المحدد له في ليلته أكثر من 20 في المئة وباقي الزمن يغني فيه دورا أو مونولوجا، أي أنه لابد أن ينتقل بالسامع إلى عمل فيه دراسة.

هذا هو الفرق بين الخطيب البليغ الذي يخطب بعفوية وارتجال يحرك في أغلب الأحيان المشاعر وليس المشاعر والعقل معا. وبين ندوة تستمتع فيها بالعلم... والبراعة والجمال.

موسيقانا والعالمية

الموسيقى الغربية الكلاسيكية هي تشريح للنفس البشرية، لقد شرح الجراحون جسم الإنسان ليتعرفوا على أعضاء الجسم المذهلة وما تقوم به من مهام خلقها الله تعالى لها. أما تشريح النفس البشرية وما فيها من متناقضات غضب ورضا، عنف ورقة، تفكير وتأمل، وجدان، ضمير، شذوذ... إلى آخر هذه الصفات المذهلة التي يشرحها ويعبر عنها الفن، وهذا واضح في الموسيقى الكلاسيكية إنها تشريح عجيب جميل وذكي، عميق لما في داخل الإنسان من متناقضات غريبة متغيرة، إني أحس بهذا عندما استمع إلى الموسيقى الغربية.

لا أرى علاقة مطلقا بين الحركات الثلاث في السيمفونية كل حركة منفصلة تماما عن الأخرى، ولقد قرأت أن السيمفونية هكذا لأن الملحن في السابق كان يكتب السيمفونية لتعزف في قصور الأمراء، ولذلك كان الملحن يقسمها على نظام الحفلة، فالحركة الأولى يسمعها الحاضرون فيجب ان تكون هادئة، ويكتب الحركة الثانية سريعة ليرقصوا ويكتب الحركة الثالثة عندما يدخلون للطعام.

هكذا قسمت الحركات ليس لاسباب فنية ولكن للضرورة إلى أن جاء بيتهوفن ولم يعبأ بهذا وجعل السيمفونية من حركة واحدة حتى أنهم سموا ذلك العهد بعهد بيتهوفن.

من أجل أن تجعل موسيقاك عالمية، أي أن تجد لها جمهورا في أوروبا يجب أن تتمسك أولا بمحليتك، أي أن تذهب وأنت مصري الموسيقى، فمثلا إذا ذهبت إلى ألمانيا ومعك موسيقى أوروبية فلن يلتفت إليك أحد، أما إذا ذهبت بموسيقى مصرية متطورة فسوف تجد لها صدى جميلا هناك، فكن محليا من أجل أن تكون عالميا.

إن البعض منا يتساءل متى تكون موسيقانا عالمية؟

وهذه الكلمة لا قيمة لها إلا إذا فهمنا أن الغناء أو الصوت البشري ما هو إلا فرع من فروع هذا الفن الضخم الموسيقى.

في أوروبا عندما تظهر أغنية بالانكليزية مثلا، وتكون موسيقاها وتركيبها واطارها وجمالها ذات قيمة يحذفون الكلام ويوضعون عليه كلاما آخر بأي لغة أخرى، أو تسمع الموسيقى من غير كلام... ما معنى هذا... معناه أن الموسيقى هي الأساس.

back to top