سفن الأشباح... تركيا نقطة {معبر} السوريين إلى أوروبا

نشر في 02-02-2015 | 00:02
آخر تحديث 02-02-2015 | 00:02
أخبر الرجل القصير القامة شيركو أن عليه أن يكون مستعداً. لهذا السبب، كان شيركو جالساً على السرير في غرفته المضاءة بإنارة فلورية في فندق في مرسين، مدينة-مرفأ على الساحل الجنوبي لتركيا. إلى جانبه وضع حقيبة ظهر ملأها بأغراض قد يحتاج إليها في رحلته إلى الحرية: 10 ألواح شوكولا، علب تونة، عطر، شفرة حلاقة، تين مجفف، خيط لتنظيف الأسنان، وإسفنجة لتنظيف حذائه.
شيركو واحد من سوريين كثيرين يهربون عبر تركيا، التي باتت محوراً لمهربي البشر، بحسب «شبيغل»، مع تحميل سفن الشحن السوريين من موانئها وتهريبهم إلى أوروبا. ولا شك في أن هذا عمل مربح يقوم على معاناة الآخرين.
شيركو شاب في السابعة والعشرين من عمره من دمشق. وجهه نحيل ملتحٍ، وشعره أسود. أنهى لتوه دراساته الجامعية في كلية الحقوق ويهوى أداء الأغاني العربية. أتى هو وأصدقاؤه من الحي ذاته في دمشق إلى مرسين معاً. تشمل هذه المجموعة أطباء عيون، متخصصين في علوم الكمبيوتر، طلاباً، ورجلاً يعمل في وكالة لتأجير السيارات. أصغرهم سناً في الثامنة عشرة من العمر وأكبرهم في الخامسة والأربعين. معظمهم من السوريين الأكراد، وكلهم هاربون من الخدمة الإلزامية في الجيش.

كان شيركو يرتِّب أغراضه في حقيبة ظهره، عندما رن هاتف أحد أصدقائه. كان الرجل القصير الذي دفعوا له المال لتهريبهم من دمشق كي يتمكنوا من بدء حياة جديدة في مكان آخر. لا يعرفون اسمه، لذلك يدعونه الرجل القصير. قال الأخير: {حان وقت الانطلاق. سنتوجه إلى السفينة}. فأمسك شيركو بحقيبة ظهره، اعتمر قبعته، وضع سبحة الصلاة حول عنقه، وركض مع رفاقه.

كانت سفينة الشحن راسية على بعد بضعة أميال بحرية من مرسين طوال الأيام الخمسة الماضية، ومن المقرر أن تواصل طريقها إلى إيطاليا. ولن تنتظر هؤلاء الشبان إلا ليلة. لذلك تُعتبر هذه الأمسية فرصتهم الأخيرة. فإن لم يصلوا إلى السفينة بسبب الطقس السيئ أو دوريات خفر السواحل، فسيضطرون إلى الانتظار أسابيع قبل وصول السفينة التالية.

يقيم شيركو وأصدقاؤه في مرسين منذ شهر. يمضون وقتهم في لعب الورق في غرفة فندق باهتة بسجادها القديم ولافتة الفندق المضيئة خارج النافذة. اتصل بهم الرجل القصير مرات عدة، فسارعوا إلى لقائه في كل مرة. إلا أنهم لم يتمكنوا من الاقتراب من السفينة ورؤيتها سوى مرة، فلاحظوا أنها مركب بطول ستين متراً بلون الصدأ. لكن خفر السواحل افتضح أمرهم وأرغمهم على العودة.

دفع شيركو ألفي دولار لقاء الرحلة. تبحر المراكب الصغيرة والبالية نسبياً من ليبيا ومصر. لكن ميزة السفر من مرسين أنه يعتمد على سفن أكبر وسفن شحن قديمة تتنقل عبر الموانئ وتبحر أيضاً في الشتاء.

يعود شيركو إلى الغرفة بعد 10 دقائق من خروجه منها. يفتح الباب بقوة، يلقي بقبعته في الزاوية، ويفتح جارورين ويعاود إقفالهما بقوة. أما صديقه سحام، الذي يرتدي سترة صوفية، فيلقي بجسمه على السرير، فيما يضع صديق آخر يُدعى جون، يرتدي ثلاثة سراويل، حفنة من الجوزيات في فمه. يصيح  الرجال: {اللعنة!}. ويرددون: {اللعنة!}. جمعهم الرجل القصير مرة أخرى وألغى الرحلة من دون أن يوضح السبب.

عمل مربح

مضى شهران على مغادرة شيركو وأصدقاؤه دمشق. يخبر هذا الشاب أنه لم يشأ أن يقتل أحداً، ما كان سيحدث بالتأكيد لو أنه التحق بالجيش وأرغم على المحاربة إلى جانب النظام. مات 22 شخصاً من أصدقائه في الحرب الأهلية السورية. فباع والده منزل العائلة مقابل 4 آلاف دولار ليسدد تكاليف هذه الرحلة. وعندما غادر، عانق شيركو والديه وأخوته الثلاثة والقطة. سألته أمه: {هل نراك مجدداً؟}، فأجابها: {إن شاء الله}. ثم بكى وترك عائلته.

سافر الشبان في حافلة صغيرة تنقل الجنود إلى نقاط التفتيش. في بيروت، استقلوا طيارة متجهة إلى مدينة أضنه التركية ومنها انتقلوا إلى مرسين على الساحل، حيث استقبلهم رجل يعمل مع الرجل القصير الذي اتصلوا به عبر موقع فيسبوك. في هذا الموقع، رأى شيركو لاحقاً صور سفينتي الشحن Blue Sky M وEzadeen، اللتين نقلتا أكثر من ألف لاجئ إلى إيطاليا في أواخر شهر ديسمبر. وقد التقط أحد المسافرين صورة لنفسه على متن Ezadeen، فبدت الرحلة آمنة وسهلة. كتب رجلهم من مرسين، مستخدماً WhatsApp: {أسرعوا! السفينة تبحر خلال يومين}.

كانت هذه زيارة شيركو الأولى إلى تركيا، حيث يقيم اليوم نحو 1.6 مليون لاجئ سوري. لا يحتاجون إلى تأشيرة دخول، ومن المتوقع أن تصدر السلطات التركية رخص عمل محدودة في المستقبل القريب. رغم ذلك، يؤكد شيركو أنهم لا يشعرون أن تركيا ترحب بهم. يقول: {نريد الذهاب إلى ألمانيا لنعمل}. ثمة 60 ألف سوري في هذه المدينة التي تحوَّلت إلى مركز لتهريب البشر منذ أن أصبح عبور الطريق البري إلى اليونان بالغ الصعوبة. وهكذا ولدت أحلام لاجئين مثل شيركو مجال عمل قاسياً ومربحاً في مرسين.

نقل مساعد الرجل القصير السوريين من المطار إلى الفندق، الذي يقع عند محطة حافلات رئيسة. وهناك التقوا في الردهة الرجل القصير، سوري شديد النحول بعينيه الزرقاوين الجاحظتين وشعره البني. لم يكثر الكلام، إلا أنه تحوَّل إلى حبل إنقاذهم الوحيد خلال الأسابيع القليلة التالية. لم يخبر هذا الرجل شيركو أن شبكة التهريب تضم سوريين وأتراكاً، أن لكل منهم مسؤوليات مختلفة، وأنه مجرد حلقة صغيرة في طرف سلسلة طويلة.

يعمل المهربون السوريون باستمرار على رمي شباكهم وجذب مزيد من المسافرين، فيبتكرون صفحات على موقع فيسبوك وينشرون أرقام هاتف يستطيع الناس الاتصال بها لحجز رحلتهم. يعملون بعد ذلك على نقل الركاب، إيوائهم، ونقلهم إلى الشاطئ. وهناك ينقل الأتراك اللاجئين بمراكب صيد إلى سفن الشحن التي ترسوا في المياه الدولية على بعد 12 إلى 15 ميلاً بحرياً عن الساحل. وتستطيع السفن الكبيرة أن تبقى راسية طوال خمسة أيام من دون أن تواجه أي مشاكل من السلطات المحلية.

أخبر الرجل القصير شيركو أن ألفي دولار سعر جيد، فالرحلة على متن إحدى سفن الشحن Ezadeen إو Blue Sky M تكلف بين 5 آلاف و8 آلاف يورو. قرأ شيركو على شبكة الإنترنت أن السعر يعتمد على ما إذا كان اللاجئون سيصادفون نقاط تفتيش، فضلاً عن حالة الطقس ومدى صعوبة بلوغ المراكب سفن الشحن. كذلك قيل له إنهم سيعيدون إليه المال إن لم تفلح الرحلة. لتهريب اللاجئين قواعد واضحة، إلا أنه يعتمد في النهاية على الثقة. وأي خيار آخر كان أمام شيركو غير الوثوق بمهربه؟

تمرّ الطريق شرقاً من مرسين عبر حقول ومزارع برتقال. في كارادوفار، قرية صيد، كان مردوك يقف قرب الرصيف البحري. كان يعتمر قبعة صيادين، وكلمة Player (لاعب) طُبعت بأحرف كبيرة على قميصه. يقول إن هذا لقبه، وهو مستوحى من إحدى الشخصيات الرئيسة في المسلسل التلفزيوني A-Team. يُعتبر مردوك، وهو تركي، أحد الرجال الذين ينقل إليهم المهرب شيركو وأمثاله. فهو الحلقة التالية.

عمل من المعاناة

يذكر مردوك، رجل وقور قلما يبتسم: {أنظم المراكب التي تتوجه إلى السفن الكبيرة}. ثم يصعد بضع درجات إلى مطعم حيث يعزف رجل على الكمان في الطابق العلوي وآخر يصدح بأغانٍ عربية. جلس إلى طاولة وطلب السمك المقلي. ثم أمضى الساعات الأربع التالية في الحديث عن حياته وعن العمل في التهريب.

مردوك رجل في الخامسة والأربعين من عمره من وسط الأناضول. اعتاد تهريب السجائر إلى ثكنات الجيش، كذلك باع وقود الديزل بأسعار غير خاضعة للضريبة في البحر. انتقل بعد ذلك إلى مجال تهريب اللاجئين، ناقلاً العراقيين والفلسطينيين إلى قبرص. وهكذا حقق دوماً الأرباح من معاناة الآخرين، إلى أن أتى دور السوريين.

يخبر مردوك أنه نقل كمية كبيرة من البضائع قبل أربعة أسابيع: 400 لاجئ نقلهم إلى مرسين من مختلف أرجاء تركيا عدد من المهربين السوريين. التقى المجموعة، وقبيل منتصف الليل طلب من الصيادين نقلهم من ثلاثة مواقع مختلفة على طول الساحل وإيصالهم إلى سفينة الشحن. لكنه أقلّ أيضاً عدداً من اللاجئين في مركبه في مناسبتين. يضيف: {راحوا يرقصون ويصفقون بعد مغادرتهم. كانوا ينتظرون هذه اللحظة منذ فترة طويلة}.

لا يعرف مردوك اسم السفن. ولكن من الممكن أن تكون Blue Sky M أو Ezadeen.

تشير سجلات الشحن وأنظمة المرور إلى أن Sky Blue M، سفينة بطول 81 متراً تملكها شركة الشحن الرومانية Info Market SRL، انطلقت من كورفيز في شمال شرق تركيا في 14 ديسمبر 2014، متوجهةً على ما يبدو إلى رومانيا. لكنها عبرت بحر مرمرة، وبدءاً من 20 ديسمبر، صارت تتنقل بشكل عشوائي وبسرعة كبيرة في المياه بين سواحل تركيا الجنوبية وقبرص. وفي 21 ديسمبر، بين الساعة 2:22 بعد منتصف الليل والثامنة مساء، شوهدت جنوب سيليفكي قرب مرسين. وكانت تسير بسرعة 0.5 عقدة، أي ببطء كافٍ لإصعاد الركاب على متنها. طوال يومين، أبحرت على طول طريق منحنٍ متجهة إلى سورية لتعود مجدداً. وفي الحادي والثلاثين من ديسمبر، بلغت إيطاليا مع 797 لاجئاً على متنها. حاول القبطان، وهو سوري، الاندساس بين اللاجئين، إلا أن أمره افتضح واعتقل.

خلال استجوابه في مدينة ليتشيه الإيطالية، قال شركس راني إنه استؤجر بحجة نقل الأخشاب والحديد إلى مصر. ولكن بعد إيصاله الشحنة، استُدعي إلى مرسين حيث أُرغم على نقل اللاجئين إلى إيطاليا. لكن أدلة كثيرة تُظهر أن راني يكذب. يوضح المحققون أنه أنزل عن شبكة الإنترنت معلومات عن الطقس قبل انطلاقه. كذلك التقط لنفسه صوراً على متن السفينة، وأقلَّ معه أقارب له من سورية.

أما Ezadeen التي تُعرف بالسفينة الشبح، فأنهت رحلة مماثلة. انطلقت سفينة نقل الماشية هذه، التي يبلغ طولها 74 متراً وتحمل على متنها طاقم عمل من ثمانية أشخاص يترأسهم قبطان سوري، من مرفأ فاناغوستا في قبرص في العاشر من ديسمبر. وبما أن نظام التتبع على متن السفينة قد أُطفئ، لم تبث Ezadeen أي معلومات خلال الأيام القليلة التالية. ويعتقد خبراء الشحن أن هذه السفينة كانت في سورية خلال تلك الفترة. في الثاني والعشرين من ديسمبر، كانت السفينة تتنقل ببطء على طول ساحل قبرص الشمالي وجنوب مرسين. لم تبث أي إشارات طوال خمسة أيام، حتى الأول من يناير حين وصلت إلى إيطاليا وعلى متنها 359 لاجئاً.

رحلة إلى الحرية

يخبر مردوك: {يراقب رجالي المكان طوال أسبوع قبل أن تغادر إحدى مراكبي كارادوفار}. والرجال الذين يتحدث عنهم هم 10 قرويين يجلسون في سياراتهم ليلاً. وإن أتى رجال الشرطة، يخرجون بسرعة من سياراتهم ويبدأون بالعراك لإلهائهم. أما إذا سارت الأمور على خير ما يُرام، يتصل الرجال بمردوك ويقولون: {الطقس جيد، يمكن الاصطياد}.

يتصل بعد ذلك مردوك بقبطان السفينة الكبيرة. يكون أحد قادة حلقة التهريب عادةً على البر ويرسل في الوقت عينه وسيطاً يُعرف بـ}توتو}. يضع توتو نصف مال الركاب في جيبه. يتصل به اللاجئون ما إن يبلغوا السفينة الكبيرة. عندئذٍ يدفع المال لمردوك وطاقمه: نحو 1000 إلى 1500 دولار عن كل لاجئ.

كل يوم، ينتظر شيركو اتصالاً من الرجل القصير، الذي ينتظر بدوره اتصالاً من وسيط مثل مردوك، الذي ينتظر أيضاً اتصالاً من القبطان.

في اليوم التالي، بدا شيركو واثقاً من نفسه ليغامر بالخروج من الفندق لساعتين. سار على طول الشاطئ وهو يرتدي قميصاً بنفسجياً وسروال جينز، وصوت الموسيقى يصدح من جهاز iPhone في جيبه. كان يفكر في سفينة رأها قبل بضعة أيام، علماً أنها تكون قد رحلت متوجهة إلى إيطاليا. البحر هائج، إلا أن شيركو أدرك ذلك لأنه اطلع على ارتفاع الأمواج في ذلك اليوم على تطبيق يُدعى {أحوال البحر} (SeaConditions) أخبره عنه الرجل القصير، الذي يستخدمه أيضاً.

يبدو شيركو مضطرباً، فقد تشاجر مع صديق يظن أن من الضروري ألا يغادر الفندق لأنه قد يفوت عليه الاتصال. لكنه يؤكد أنه ما عاد يود الانتظار. لم يغسل سرواله الجينز وقميصه منذ شهر لأنه قلق من أن الرجل القصير قد يتصل قبل أن تجف ملابسه حين تبدأ الرحلة نحو الحرية.

{أسدي للسوريين خدمة}

لما كان خفر السواحل يصبون اهتمامهم كله على مراقبة سفن التهريب إلى الغرب، باتجاه اليونان، نقل المهربون نشاطهم إلى الشرق.

أضاف مردوك قليلاً من عصير الليمون الحامض إلى السمك، وراح يستفيض في الكلام. يقول: {أسدي السوريين خدمة}. يدخل البلد لاجئون جدد كل يوم، وصار عددهم كبيراً جداً، حتى بالنسبة إلى تركيا. ويؤكد أن السلطات في مرسين لا تبذل قصارى جهدها لوقف نشاطات التهريب، فرجال الشرطة وخفر السواحل، على حد قوله، يقبلون الرشاوى مقابل المعلومات وغض النظر.

يقول مردوك إن سفن التهريب تكون بطول 65 إلى 85 متراً وتستطيع نقل 800 شخص. تكون هذه سفناً غير مرخص لها أو مشتراة بطريقة غير مشروعة لقاء ثمن زهيد. كذلك قد تكون هذه سفن شحن مرخصاً لها، إلا أنها تعود إلى شركات شحن لا وجود لها إلا على الورق: شركات وهمية لسفن أشباح. فما من دليل على أعمال Uni Marine Management، الشركة التي يُفترض أنها تملك Ezadeen في طرابلس بليبيا، حيث يقع مقرها المزعوم. لم يسمع أحد في طرابلس بهذه الشركة.

يأتي أخو مردوك مسرعاً إلى المطعم في كارادوفار. يقول إنه تلقى بعض الأخبار. فقد ألقى خفر السواحل القبض على حلقة مهربين وهي تنقل لاجئين على متن سفينة في الميناء في وقت باكر من مساء أمس على مرأى من قرية الصيادين هذه. ولا شك في أن السلطات اعتبرت هذه المحاولة وقحة جداً.

back to top