عالمنا العصري يضرّ دماغنا

نشر في 31-01-2015 | 00:01
آخر تحديث 31-01-2015 | 00:01
في عصر البريد الإلكتروني، والرسائل النصية، وفيسبوك، وتويتر، يُطلب منا جميعنا القيام بمهام عدة دفعة واحدة. لكن حالة تعدد المهام المستمرة هذه تنعكس علينا سلباً. يوضح عالم الأعصاب دانيال ج. لوفيتين في ما يلي كيف يجعلنا إدماننا التكنولوجيا أقل فاعلية.
• أدمغتنا اليوم أكثر نشاطاً من أي وقت مضى. نتعرَّض لهجوم من الوقائع، وأشباه الواقع، والأخبار التافهة، والإشاعات، وكلها تتخذ شكل المعلومات. لا شك في أن محاولة معرفة ما تحتاج إليه وما يمكنك تجاهله عملية مضنية. إذاً، نقوم كلنا في الوقت نفسه بعدد أكبر من المهام. قبل ثلاثين سنة، كان عملاء السفر يحجزون لنا رحلاتنا الجوية أو في القطار، كان الباعة يساعدوننا في العثور على ما نبحث عنه في المتاجر، وكان المساعدون المحترفون الذين يتقنون استعمال الآلة الكاتبة يساعدون الأشخاص كثيري الأشغال في مراسلاتهم. أما اليوم، فنقوم بمعظم هذه المهام بأنفسنا. وهكذا ننجز عمل نحو 10 أشخاص، فيما نحاول في الوقت عينه عيش حياتنا بشكل طبيعي مع أولادنا وأهلنا وأصدقائنا ومهنتنا وهواياتنا وبرامجنا التلفزيونية المفضلة.

• تحوَّلت هواتفنا الذكية إلى ما يشبه السكين الصغير المتعدد الاستعمالات. تضم هذه الأدوات معجماً، آلة حاسبة، متصفح إنترنت، بريداً إلكترونياً، ألعاب فيديو، روزنامة مواعيد، مسجلة، ضابط إيقاع الغيتار، أحوال الطقس، نظام تحديد المواقع العالمي، تطبيقاً لكتابة الرسائل، تويتر، فيسبوك، وضوءاً. وهكذا صارت الهواتف الذكية أكثر قوة وأكثر قدرة على إنجاز عدد كبير من المهام، مقارنة بأكثر الكمبيوترات تطوراً في شركة IBM قبل 30 سنة. ونستخدم هذه الهواتف طوال الوقت لتصبح جزءاً من جنون القرن الحادي والعشرين الساعي إلى جمع كل ما نقوم به في لحظة واحدة من وقت فراغنا. نكتب الرسائل النصية فيما نعبر الشارع، نطلع على بريد إلكتروني فيما ننتظر في الصف، وخلال تناول الطعام مع أصدقاء، نتحقق سراً مما يقوم به أصدقاؤنا الآخرون. فيما نجلس إلى طاولة المطبخ في دفء منزلنا وأمانه، ندوِّن لوائح المشتريات على هواتفنا الذكية بينما نستمع إلى ذلك الإعلان المثقف والممتع على شبكة الإنترنت عن تربية النحل في المدن.

• لكن هذا النشاط الزائد لا يخلو من الأوجه السلبية. صحيح أننا نظن أننا نقوم بمهام عدة دفعة واحدة، إلا أن هذا مجرد وهم شرير وقوي. يوضح إيرل ميلر، عالم أعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأحد أهم الخبراء في العالم في مجال الانتباه المقسّم، أن دماغنا {لا يتمتع بالوصلات الضرورية للقيام بمهام عدة دفعة واحدة بنجاح... لذلك عندما يخال الناس أنهم يبرعون في إنجاز مهام عدة معاً، هم في الواقع ينتقلون من مهمة إلى أخرى بسرعة كبيرة. وكلما فعلوا ذلك، يُضطرون إلى دفع الثمن المعرفي}. إذاً، لا نبرع في إبقاء طابات عدة في الهواء مثل البهلوان الماهر، بل نشبه هاوياً فاشلاً يحاول إدارة أطباق عدة على أعواد طويلة. فننتقل بسرعة من مهمة إلى أخرى، متجاهلين المهمة التي لا نقوم بها حالياً، إنما قلقين من أن تتهاوى هذه المهام كافة على رأسنا في أي لحظة. صحيح أننا نظن أننا ننجز الكثير، لكن المفارقة أن تعدد المهام يجعلنا بالتأكيد أقل فاعلية.

• تبين أن تعدد المهام يزيد إنتاج هرمون الإجهاد، الكورتيزول، فضلاً عن هرمون الحالات الطارئة، الأدرينالين، الذي قد يفرط في تحفيز دماغنا ويسبب نوعاً من تشويش الذهن والتفكير غير الواضح. يولد تعدد المهام حلقة تغذية استرجاعية من إدمان الدوبامين، مكافئة الدماغ لفقدانه التركيز ولبحثه المستمر عن عوامل تحفيز خارجية. وما يزيد الطين بلة أن القشرة الجبهية الأمامية نمَّت تحيزاً إلى كل ما هو جديد، أي أن من السهل شد انتباهها إلى أمر جديد، على غرار اللعبة اللماعة التي نستخدمها لجذب انتباه الأطفال والقطط والكلاب الصغيرة. ولا شك في أن المفارقة واضحة في حالة مَن يحاولون التركيز وسط هذه النشاطات المتنافسة كلها: من السهل تشتيت انتباه منطقة الدماغ التي نحتاج إليها للتركيز على المهمة التي نقوم بها. نجيب على الهاتف، نبحث عن أمر ما على شبكة الإنترنت، نتحقق من بريدنا الإلكتروني، أو نبعث برسالة قصيرة، وهذه المهام كافة تنبه مراكز الدماغ التي تبحث عن الجديد والمكافأة، ما يسبب دفقاً من الأفيونيات في الدماغ (لا عجب في أننا نشعر بالسعادة)، إلا أنه يمنعنا من التركيز على المهمة التي نقوم بها. ويمكننا تشبيه هذه كلها بحلوى الدماغ التي تحتوي على كثير من السعرات الحرارية إنما من دون أي فوائد حقيقية. فبدل أن نجني المكافآت الكبيرة من الجهد المستدام المركَّز، نحصد مكافآت فارغة من إنجاز عدد كبير من المهام التي قد تبدو لنا ممتعة.

• في الماضي، كنا نتجاهل رنين الهاتف أو نخفت صوته، إن كنا مشغولين. وعندما كانت الهواتف كلها متصلة بأسلاك في الجدار، ما كان من الممكن الاتصال بنا في أي لحظة. أما اليوم، فقد فاق عدد مَن يحملون هواتف خلوية مَن يملكون حماماً، وولَّد هذا الواقع الجديد توقعاً ضمنياً: تتوقع أن تتمكن من الاتصال بشخص ما كلما رغبت في ذلك، بغض النظر عما إذا كان هذا ملائماً له.

• يُعتبر إمكان القيام بمهام عدة دفعة واحدة بحد ذاته مضراً للأداء المعرفي. يدعو غلين ويلسون، بروفسور زائر سابق في كلية غريشام بلندن متخصص في علم النفس، هذا الواقع جنون المعلومات. كشف بحثه أنك تخسر نحو عشر نقاط من معدل ذكائك الفاعل إن كنت تحاول التركيز على مهمة ما وأنت تدرك أن في بريدك الإلكتروني الوارد رسالة لم تقرأها. صحيح أن الناس ينسبون إلى الماريجوانا فوائد كثيرة، بما فيها تعزيز القدرة على الإبداع والحد من الألم والإجهاد، فمن المثبت أن مكونها الرئيس، الكانابينول، ينشط مستقبلات الكانابينول في الدماغ ويشوش الذاكرة وقدرتك على التركيز على عدد من المهام دفعة واحدة. لكن ويسلون برهن أن الخسائر المعرفية الناتجة من تعدد المهام تفوق بأشواط الخسائر المعرفية التي يسببها تدخين الحشيشة.

• اكتشفت روس بولدراك، عالمة أعصاب في جامعة ستانفورد، أن تعلم المعلومات أثناء القيام بمهام عدة معاً يؤدي إلى تخزين هذه المعلومات الجديدة في الأجزاء الخاطئة من الدماغ. على سبيل المثال، إن درس الأولاد وشاهدوا التلفزيون في آن، تُخزن المعلومات من وجباتهم المدرسية في الجسم المخطط، منطقة مخصصة لتخزين الإجراءات والمهارات الجديدة لا الوقائع والأفكار. ومن دون مصادر إلهاء مثل التلفزيون، تُخزن المعلومات في الحصين حيث تُنَظم وتُجَدوَل بطرق مختلفة، ما يجعل استرجاعها سهلاً. يضيف إيرل ميلر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: {لا يبرع الناس في القيام بمهام عدة معاً. وعندما يدعون أنهم يستطيعون ذلك، يكونون واهمين}. ويتضح أن الدماغ بارع في تطوير أوهام مماثلة.

• يجب ألا ننسى أيضاً الكلفة الأيضية. فالطلب من الدماغ تحويل الانتباه من نشاط إلى آخر يدفع القشرة الجبهية الأمامية والجسم المخطط إلى حرق الغلوكوز المدعم بالأوكسجين، علماً أن هذا الوقود عينه الذي تحتاج إليه لتواصل التركيز على المهمة التي تقوم بها. ولا شك في أن عملية التنقل السريعة والمتواصلة التي تترافق مع تعدد المهام تجعل الدماغ يحرق هذا الوقود بسرعة كبيرة، لذلك نشعر أننا منهكون ومشوشو الذهن بعد فترة قصيرة. في هذه الحالة، نكون قد استنفدنا فعلاً المواد المغذية في دماغنا. ويؤدي هذا الأمر إلى تراجع أدائنا المعرفي والجسدي على حد سواء. نتيجة لذلك، يسبب تبديل المهام المتكرر، من بين مشاكل عدة، القلق، ما يرفع بالتالي معدلات هرمون الإجهاد الكورتيزول في الدماغ. ويؤدي هذا بدوره إلى أنماط سلوك عدائية ومتهورة. في المقابل، يتحكَّم التلفيف الحزامي الأمامي والجسم المخطط في عملنا عند التركيز على مهمة واحدة. وعندما ننشط النمط التنفيذي المركزي، يستهلك التركيز على مهمة واحدة طاقة أقل من تعدد المهام، فضلاً عن أنه يحد من حاجة الدماغ إلى الغلوكوز.

• ما يزيد الطين بلة واقع أن تعدد المهام يفرض على الإنسان اتخاذ القرارات: هل أجيب على هذه الرسالة النصية أم أتجاهلها؟ كيف أرد عليها؟ كيف أحفظ هذه الرسالة الإلكترونية؟ هل أواصل العمل على ما أقوم به الآن أم أستريح قليلاً؟ ولكن تبين أن اتخاذ القرارات يستنفد أيضاً مواردنا العصبية، وأن القرارات البسيطة تتطلب القدر ذاته من الطاقة كما القرارات الكبيرة. ومن بين الأمور الأولى التي نخسرها في هذه الحالة قدرتنا على التحكم في ميولنا. وسرعان ما يتفاقم الوضع لندخل حالة من الاستنفاد التي تودي بنا، بعد اتخاذ كثير من القرارات غير المهمة، إلى القيام بقرار سيئ جداً في مسألة بالغة الأهمية. فلمَ نرغب في زيادة عبء حمل معالجة المعلومات التي نتعرض لها يومياً بمحاولتنا القيام بمهام عدة معاً؟

• عند مناقشة مسألة عبء المعلومات المفرط مع أبرز شخصيات تصنيع Fortune 500 (كبار العلماء، الكتاب، الطلاب، وأصحاب الشركات الصغيرة)، اتضح أن البريد الإلكتروني يمثل مشكلة دائمة. لا يقوم أساس هذه المشكلة على معارضة فلسفية للبريد الإلكتروني بحد ذاته، بل على عدد الرسائل الإلكترونية الكبير والمربك الذي نتلقاه. عندما سئل ابن زميلي عالم الأعصاب جيف موغيل (رئيس مختبر علم وراثة الألم في جامعة ماكغيل) البالغ من العمر 10 سنوات عما يقوم به والده في الحياة، أجاب: {يجيب على الرسائل الإلكترونية}. وأقر جيف بعد قليل من التفكير أن هذا الجواب ليس بعيداً عن الواقع. يفيد العاملون في الحكومة، الفنون، والصناعة أن حجم الرسائل الإلكترونية التي يتلقونها مخيف ويستهلك جزءاً كبيراً من يومهم. فنحن نشعر أننا ملزمون بالرد على بريدنا الإلكتروني، ولكن من المستحيل القيام بذلك وإنجاز مهام أخرى.

قبل البريد الإلكتروني، كان علينا أن نخصص قليلاً من الجهد، إن رغبنا في مراسلة أحد. كنت تجلس على الطاولة وأمامك قلم وورقة أو آلة كاتبة وتؤلف الرسالة بدقة. فما كان هذا الوسيط يتيح لك تدوين بعض الملاحظات السريعة من دون أن تمعن التفكير فيها. ويعود ذلك في جزء منه إلى عملية الكتابة بحد ذاتها، فضلاً عن الوقت الذي تحتاج إليه لتدوين الرسالة، العثور على مغلف وكتابة العنوان عليه، لصق الطابع البريدي، والتوجه إلى علبة البريد. وبما أن كتابة الرسالة تطلبت هذه الخطوات كافة واستهلكت فترة طويلة من الزمن، فلم نكن نتكبد هذا العناء الطويل ما لم نكن نملك أمراً مهماً نود قوله. ولكن بسبب فورية البريد الإلكتروني، ما عاد كثيرون منا يترددون في تدوين بعض العبارات التافهة التي تطرأ على بالهم ليضغطوا بعد ذلك على زر الإرسال، فضلاً عن أن الرسائل الإلكترونية لا تكبدك أي كلفة.

• لا شك في أنك دفعت ثمن الكمبيوتر ووصلة الإنترنت، إلا أنك لا تتكبد كلفة إضافية كلما أرسلت بريداً إلكترونياً. قارن ذلك بالرسائل الورقية. في كل مرة، تدفع ثمن الورق والمغلف والطابع البريدي. صحيح أن كلفتها ليست كبيرة، إلا أن مخزونها محدود. وفي كل مرة تنفد، عليك أن تقصد متجر بيع القرطاسية ومكتب البريد لشراء المزيد، لذلك تستخدمها بحرص. أدت هذه السهولة في إرسال البريد الإلكتروني إلى تبدل في السلوك. فصار المرسل أقل تهذيباً في طلب ما يريده من الآخر. ويروي لنا محترفون كثر القصة عينها. ذكر أحدهم: {أتلقى عدداً كبيراً من الرسائل الإلكترونية من أناس لا أعرفهم جيداً. رغم ذلك، يطلبون مني في رسائلهم أن أقوم بأمور تكون عادةً خارج ما أعتبره نطاق عملي أو علاقتي بهم. يسهل البريد الإلكتروني، على ما يبدو، على الناس طلب أمور لا يتجرؤون مطلقاً على سؤالها عبر الهاتف، أو البريد العادي، أو شخصياً».

• بالإضافة إلى ذلك، ثمة أوجه اختلاف مهمة بين البريد العادي والبريد الإلكتروني ترتبط بالطرف المتلقي. في الماضي، كنا نتلقى البريد مرة في اليوم، ما أتاح لنا الوقت الكافي خلال النهار لنقصد علبة البريد وننظمه ونطلع عليه. والأهم من ذلك أن البريد كان يتطلب بضعة أيام ليبلغ وجهته، لذلك ما كان المرسل يتوقع أن تعمل بموجبه في الحال. لذلك إن كنت منهمكاً بنشاط آخر، تترك البريد في العلبة في الخارج أو على طاولة المكتب إلى أن تصبح مستعداً لمعالجته. لكن البريد الإلكتروني اليوم لا ينفك يتدفق، ويتطلب معظم الرسائل الإلكترونية عملاً ما: انقر على هذه الوصلة لتشاهد شريط فيديو عن باندا صغير، أو أجب عن سؤال من زميل في العمل، أو ضع خططاً لتناول الطعام مع صديق، أو امحِ هذه الرسالة لأنها إعلان. تمنحنا كل هذه النشاطات إحساساً بأننا ننجز أموراً كثيرة، وقد نكون محقين في بعض الأحيان. لكننا نضحي بالفاعلية والتركيز العميق عندما نقاطع نشاطاتنا الأهم لنجيب على رسالة إلكترونية.

رسائل نصيّة

• أصبحت الرسائل النصية وسيلة التواصل الأولى. هي تمنحهم خصوصية لا نحصل عليها مع الاتصالات الهاتفية، وميزة فورية لا نتمتع بها مع الرسائل الإلكترونية. حتى إن خطوط الأزمات الساخنة بدأت تقبل بتلقي رسائل نصية من شبان معرضين للخطر. فضلاً عن ذلك، تقدم لهم هذه الوسيلة ميزتين مهمتين: يمكنهم التواصل مع أكثر من شخص في آن، ويمكنهم نقل المحادثة إلى خبير، إن دعت الحاجة، من دون قطع المحادثة.

• لكن الرسائل النصية تواجه معظم مشاكل البريد الإلكتروني، فضلاً عن عدد من مشاكلها الخاصة. فبسبب عدد أحرفها المحدود، لا تشكل وسيلة مناسبة لحوار عميق أو الخوض في أي تفاصيل. علاوة على ذلك، تُضاف مشاكل إدمان وسيلة التواصل هذه إلى إلحاح الرسائل النصية المفرط. تحتاج الرسائل الإلكترونية إلى بعض الوقت لتنتقل عبر الإنترنت. كذلك تتطلب منك أن تتخذ خطوة واضحة: فتح الرسالة الإلكترونية. لكن الرسائل النصية تظهر بسحر ساحر على شاشة هاتفك وتتطلب انتباهك في الحال. أضف إلى ذلك التوقعات الاجتماعية: قد يشكل عدم الرد على رسالة نصية إهانة للمرسِل. تشكل الرسائل النصية أيضاً وسيلة إدمان: عندما تتلقى رسالة، تنشط مراكز التجدد في دماغك. فترد عليها وتشعر أنك حظيت بمكافأة لأنك أنجزت مهمة (مع أنك ما كنت تملك أدنى فكرة عن هذه المهمة قبل 15 ثانية). تزود كل من هذه الرسائل دماغك بجرعة من الدوبامين، فيما يروح جهازك الحوفي يصيح: {المزيد! المزيد! أعطني المزيد!}.

رسائل إلكترونية

حتى وقت ليس ببعيد، كانت لكل أسلوب من أساليب التواصل الكثيرة والمتنوعة أهميته، حاجته، وهدفه. على سبيل المثال، إن أراد الحبيب التواصل معك بواسطة قصيدة أو أغنية، يمكنك أن تتوقع، حتى قبل أن يتضح لك معزى الرسالة، طبيعة محتواها وقيمتها العاطفية. أما إذا تواصل معك هذا الحبيب نفسه عبر استدعاء على يد موظف من المحكمة، تتوقع رسالة مختلفة حتى قبل أن تطلع على الوثيقة. على نحو مماثل، كانت الاتصالات الهاتفية تُستخدم لأغراض مختلفة، مقارنة بالبرقيات ورسائل العمل. إذاً، شكل الوسيط إشارة إلى المحتوى. لكن هذا الوضع تبدل تماماً مع البريد الإلكتروني، مع أننا نتجاهل غالباً وجهه السلبي هذا. يُستعمل البريد الإلكتروني الأغراض كافة. في الماضي، اعتاد الناس تقسيم كل الرسائل البريدية إلى فئتين: الرسائل الشخصية والفواتير. وإذا كنت مدير شركة بجدول أعمال حافل، فقد تنظم رسائلك الهاتفية على هذا النحو لترد عليها. لكن البريد الإلكتروني يُستعمل لشتى الأغراض في الحياة. نتيجة لذلك، تتحقق تلقائياً من الرسائل الإلكترونية التي تصلك لأنك لا تعلم ما إذا كانت الرسالة التالية دعوة إلى حفلة، فاتورة متأخرة، عملاً عليك القيام به، سؤالاً... قد تحمل أمراً يمكنك القيام به الآن أو لاحقاً، خبراً يبدل حياتك، أو بعض المعلومات التافهة.

يؤدي عدم اليقين هذا إلى خلل كبير في نظام التصنيف السريع الذي نعتمده، يعرضنا للإجهاد، ويلقي على كاهلنا عبء فيض من القرارات التي علينا اتخاذها. تتطلب كل رسالة إلكترونية قراراً. هل أرد عليها؟ وإذا كان الرد ضرورياً، فهل أقوم بذلك الآن أم لاحقاً؟ ما مدى أهميتها؟ وما ستكون العواقب الاجتماعية، الاقتصادية، أو المهنية إن لم أرد عليها أو إن لم أرد في الحال؟

لكن البريد الإلكتروني يتحوَّل تدريجاً إلى وسيط تواصل قديم الطراز. يعتبر معظم الناس تحت سن الثلاثين البريد الإلكتروني وسيلة تواصل بالية يستخدمها {المسنون} فحسب. بدلاً من ذلك، يستعملون الرسائل النصية، وما زال بعضهم يلجأ إلى التعليقات على موقع فيسبوك. يربطون الوثائق، الصور، أشرطة الفيديو، والوصلات برسائلهم النصية وتعليقاتهم على فيسبوك تماماً كما يفعل مَن تخطوا الثلاثين من عمرهم في بريدهم الإلكتروني. حتى إن عدداً من الشبان الذين لم يبلغوا بعد العشرين من العمر يعتبرون فيسبوك وسيطاً لجيل أكبر سناً.

مركز المتعة

• في تجربة معروفة، وضع زميلايا في جامعة ماكغيل بيتر ميلنر وجيمس أولدز، عالما أعصاب، قطباً صغيراً في أدمغة جرذان في بنية صغيرة من الجهاز الحوفي تُدعى النواة المتكئة. تتولى هذه البنية ضبط إنتاج الدوبامين، وتنشط عندما يفوز مقامر خلال لعب الميسر، عندما يتناول مدمن الكوكايين، أو عندما يختبر الإنسان النشوة الجنسية. لذلك دعاها ميلنر وأولدز مركز المتعة. تسمح رافعة في القفص للجرذان بإرسال إشارة كهربائية صغيرة مباشرة إلى النواة المتكئة. فهل تظن أنها أحبتها؟ نعم بالتأكيد. أحبتها إلى حد أنها لم تكف عن استعمالها، حتى إنها نسيت تناول الطعام والنوم. ومع أنها كانت تشعر بجوع كبير، تجاهلت الطعام اللذيذ كي تحظى بفرص الضغط على تلك القبضة الصغيرة المصنوعة من الكروم. حتى إنها تغاضت عن فرصة التزاوج. راحت الجرذان تضغط على الرافعة مرة بعد أخرى إلى أن ماتت من الجوع والتعب. هل يذكرك هذا بأمر ما؟ لقي رجل في الثلاثين من عمره حتفه في غوانغزو بالصين بعدما لعب بألعاب الفيديو بشكل متواصل طوال ثلاثة أيام. وعلى نحو مماثل، مات رجل آخر في دايغو بكوريا بعدما لعب بألعاب الفيديو بشكل متواصل تقريباً طوال 50 ساعة، ولم يتوقف إلا عند إصابته بنوبة قلبية.

• في كل مرة نرسل بريداً إلكترونياً، نشعر أننا حققنا إنجازاً ما، وتحصل أدمغتنا على جرعة من هرمونات المكافأة، ما يجعلنا نحس أننا أنجزنا أمراً مهماً. وفي كل مرة نتحقق من تغريدة أو تعليق على فيسبوك، نصادف أمراً جديداً ونشعر أننا نعمِّق علاقتنا الاجتماعية (بطريقة إلكترونية مجردة غريبة)، فنحظى أيضاً بجرعة من هرمونات المكافأة. ولكن لا تنسَ أن الجزء الغبي من الدماغ الذي يبحث عن الجديد هو ما يحرك جهازك الحوفي، ما يمنحك شعوراً بالمتعة. إذاً، لا تعود هذه المشاعر الجيدة إلى مراكز التفكير المخططة والمنظمة العالية المستوى في القشرة الجبهية الأمامية. إذاً، لا شك في أن التحقق من البريد الإلكتروني، فيسبوك، أو تويتر يشكل إدماناً عصبياً.

back to top