غرابة لاركن

نشر في 29-01-2015
آخر تحديث 29-01-2015 | 00:01
 فوزي كريم لا غرابة في شعر الإنكليزي فيليب لاركن. قصيدتُه تمس الحياة المحيطة. مشاغلها تبدو مشاغل الناس، رغم أنها تغامر بك بعيداً عن المعاني اللصيقة بالكلمات. بعيداً إلى ما وراء تخوم اللغة. ولكن حياتَه الشخصية يتزاحم فيها الطبع الغريب. هذه الحياة (1922- 1985) بقيت عزباء بلا زوجة ولا أطفال، ولا حتى قطة أو كلب لا يعيش الإنكليزي دون صحبة من أحدهما. ظل يستخدم دراجته الهوائية 41 عاماً، ويسكن بيتاً مستأجراً. حياة مستتبة لا تعرف السفر، حدودها ضيقة باختيار شخصي صارم. شاعر لا يكتب أكثر من أربع قصائد قصيرة في السنة. لا يقرأ شعراً للجمهور، ولا يلقي محاضرة، ولا يقبل دعوة لحوار إذاعي أو تلفزيوني. وحين رُشح لموقع "شاعر البلاط" فزع، ورفض. قائلا: "حلمت مرة أني أصبحت شاعر بلاط، فاستيقظت من حلمي صارخاً".

 الكتب التي وُضعت عنه، عادة ما ترصدُ طبعه العكر، والرديء: "إباحي، كحولي، شهواني، عنصري، رجعي وسريع الغضب". (كتاب أندرو موشن عنه) يقول ساخراً: "لا أعداء لي. ولكن أصدقائي المقربين لا يحبونني". وحين نُشرت رسائله بعد وفاته كشفت عن أشياء من هذه الطباع، وأثارت زوبعة حينئذ.

 حياة لاركن لا تخلو من خلفية رمادية اللون. ولد لأب صراف، وأم زاولت التعليم. يصف لاركن العائلة بأنها "كانت سمجة، ولا تصلح لأن تكون سعيدة". وبالرغم من أن طفولته كانت محاطة بالحنو، فإن ذاكرته مليئة بالخوف والضجر. ولعل هذا الانطباع هو الذي منعه من الزواج. وكان يُكثر من علاقاته الغرامية، ولم يكن مخلصاً لواحدة.

 في عام 1940، دخل لاركن جامعة أكسفورد، وكان زمنَ حرب. الجامعة العريقة في حالة تقشف وقليلة الطلبة. تخرج فيها عام 1943، وبسبب ضعف في بصره عفي من الخدمة العسكرية، الأمر الذي اعتبره تحريراً. في عمر 21 حصل على أول وظيفة كأمين مكتبة محلية. وواصل هذا التخصص طوال حياته. يقضي طوال اليوم في العمل، ويتفرغ مساءً للكتابة. في الخمسينيات من عمرة ابتلي لاركن بالصمم النسبي، بالسمنة، وإدمان الخمرة.

 لم يكن الشعر طموحَ لاركن. كان يريد أن يكون روائياً. كان يرى الرواية أكثر غنى، أكثر اتساعاً، أعمق، وأكثر متعة من الشعر. في عمر 24 نشر روايتين "جِل" (1946)، و"فتاة في الشتاء" (1947). حين تعرف على الروائي الشاب كنغسلي أمس، الذي أصدر روايته الأولى عام 1954، وحققت نجاحاً كبيراً، توقف لاركن عن كتابة الرواية والتفكير فيها، وانصرف إلى الشعر وحده. وكأن الخيبة كانت عوناً لأمين المكتبة الشاب لينصرف إلى ما سيحقق له النجاح البديل. مع الشعر ابتعد عن تأثيرات شعرائه المفضلين آنذاك: ييتس وأودن، وانصرف لدراسة وتأمل شعر توماس هاردي، الذي ترك الرواية مثله للشعر. ولكن لاركن مع هذا التحول جلب حساسية الروائي إلى قصيدته. قصيدته حكائية، ولكنها تتسع لمحاور بالغة الأهمية: الحب، الطبيعة، الزمن، الحرية، والموت.

هذا الشاعر الغريب الطباع مُجيد على الدوام، وشهرته التي حققها لا تقل غرابة. فقد جاءته عبر حفنة من القصائد: "أبيات عن ألبوم فوتوغراف لسيدة شابة"، "أتذكر، أتذكر"، "إلى سِدني بيشيت"، "شعر للرحيل"، "ضفادع"، "زيارة الكنيسة". وبالرغم من أن هذه القصائد أصبحت علامات بارزة في الأدب الانكليزي، فإن لاركن لم يجد لها ناشراً حينئذ.

كان لا يثق بتيار الحداثة، ويمقت الحركات السياسية التقدمية، ويتجنب الأوساط الثقافية، ولا يحب كل فن غريب على بريطانيته تقريباً، باستثناء فن الجاز الأميركي، والصور الإباحية الأوروبية.

 هناك من النقاد من كشف عن حقيقة "أن أكثر مواقف وأحكام لاركن التي استُهجنت وانتُقدت، إنما كانت تصدر عن طبيعة تميل إلى النكتة والضحك. ظل لاركن مراهقاً أحمق يحاول بصورة ملحة أن يبدو أمام أصدقائه جافياً وهو يقول لهم أشياء شائنة بشأن الجنس، المرأة، الأقليات، الدين، الفن، الزواج، الأصدقاء، العائلة، أميركا، خصوصاً عن الشعراء من أصدقائه".

back to top