بحث عن أجوبة في اعتداءات «شارلي إيبدو»

نشر في 26-01-2015 | 00:02
آخر تحديث 26-01-2015 | 00:02
No Image Caption
{كانا شابين عاديين ودودين}، بهذه الكلمات يصف على الأقل الجيران الأخوين شريف وسعيد كواشي. ويتذكرهما مدير دار رعاية الأطفال حيث ترعرعا قائلاً: {كانا صبيين لطيفين}. يعبر الناس في الحي الباريسي حيث عاش هذان الإرهابيان عن حيرتهم وخوفهم، حتى زوجتا الأخوين تؤكدان أنهما ما كانتا تعرفان أي أمر عن خططهما.

لم يكن شريف كواشي شخصاً مميزاً لا تنساه، وفق القاضي الذي ترأس أول تحقيق ضده قبل نحو عقد. ويؤكد معظم الناس أن أخاه سعيد كان أقل منه تميزاً بعد. لكن هذين الرجلين البسيطين تمكنا، مع شريكهما حمدي كوليبالي، من تنفيذ هجوم مزدوج كان له تأثير عالمي رغم تنفيذه البدائي. عادت {شبيغل} في بحثها عن الأجوبة إلى خلفية هذه الشخصيات الأساسية في الاعتداء.

طوال سنوات كانت سوزان عاملة رعاية الأولاد المسؤولة عن شريف كواشي. أعربت عن استعدادها للكلام، إلا أنها رفضت ذكر اسمها الحقيقي. تقول: {أشعر بالذنب}. عانت نوبات قلق. وعندما سمعت اسم القاتلين للمرة الأولى، ظنت أن ثمة خطأ ما. ولكن عندما رأت صور الرجلين، علمت أنهما الأخوين كواشي. أخرجت من ألبومها صوراً عن رحلة إلى البحر الأبيض المتوسط: بدا شريف بابتسامته الصبيانية وهو يحضن سوزان. وظهر في صورة أخرى وهو يقفز في حوض السباحة راسماً إشارة النصر بإصبعيه.

كانت مسؤولة عن شريف الذي اعتبرته المفضل لديها. توضح: {ما كنت أستاء منه مهما فعل}. كان باتريك فورنيه، مدير دار الرعاية، جالساً في مكتبه وعلى الطاولة أمامه نسخة عن ملفي الأخوين كواشي. صادرت شرطة باريس الملفين الأصليين. يعمل فورنيه (57 سنة) في الدار كمربٍّ من 30 سنة.

صدمة للولدين

وُلد الصبيان في باريس وأمضيا طفولتهما في شارع أبيرفيليه في الدائرة التاسعة عشرة، منطقة يسكنها محدودو الدخل في الجزء الشمالي الشرقي من المدينة، علماً أنهما عادا لاحقاً إلى هذا الحي. تكشف سجلات الشرطة أن الأخ الأكبر سعيد ولد عام 1980 فيما وُلد شريف عام 1982، ولديهما أخوان، عائشة وشعبان.

والدهما مختار من الجزائر، مات  بعد صراع مع  السرطان عام 1990، ورزقت والدتهما لاحقاً ببنت أخرى من رجل مختلف. يخبر مدير الدار أنها شعرت بعبء ثقيل مع عدد أولادها الكبير. وبدأت في تلك الفترة علامات الأخوين الدراسية تتراجع لأنهما تعرضا للإهمال. فأرسل مكتب رعاية الشباب في باريس الإخوة الأربعة الأكبر سناً إلى دار لرعاية الأولاد في ترينياك عام 1994. اعتادت الأم التحدث إلى أولادها باستمرار عبر الهاتف، إلا أنها لم تزرهم يوماً. فشكلت وفاتها المفاجئة في يناير عام 1995 صدمة كبيرة للأخوين، وفق مدير الدار.

لم يعانِ سعيد وشريف مشاكل سلوكية خلال مراهقتهما. يصف فورنيه شريف كواشي بقوله إنه كان أشبه بشعاع نور في الدار، فضلاً عن أنه برع في كرة القدم. ولعب مع نادٍ في بلدة تبعد نحو ثمانية كيلومترات. ولا تزال الصور التي يظهر فيها معلقة على جدار في مقر النادي.

كان باسكال فارغيتاس (55 سنة)، مدرب كواشي طوال سنتين. ويؤكد أن الأخير لم يتغيب يوماً عن التدريب أو المباريات. يقول: {كانت كرة القدم دينه، إلا أنه كان يدخن أيضاً الحشيشة، لديه صديقة، ويهوى الحفلات}.

في المقابل، بدا سعيد كواشي أكثر اهتماماً بمشاهدة الأفلام في السينما منه بلعب الكرة. كان أكثر هدوءاً وجدية من أخيه. ومع أنه واجه صعوبات في المدرسة، كان طموحاً أيضاً. في سن الثامنة عشرة، تقدَّم بطلب لإطالة إقامته في ترينياك كي يتمكَّن من إنهاء برنامج تدريب كطاهٍ، وقد أنهاه بنجاح.

عندما تخرَّج شريف في الثانوية وبدأ برنامج تدريب في كهرباء السيارات والآلات، انتقل إلى مدرسة داخلية في سان جونيان على بعد 80 كيلومتراً. كان يعود إلى ترينياك في نهايات الأسبوع للعب الكرة. لكن حلمه بالاحتراف تحطم عندما لم يعرب أي من النوادي العريقة عن اهتمام به. فقرر العودة إلى باريس، رغم جهود  مدربه لإقناعه بالبقاء.

جهاد من المنتزه

تبين أن هذا القرار مصيري. بعد أربع سنوات، أوقفت الشرطة عام 2005 شريف كواشي قبيل قيامه برحلة كان يخطط لها إلى العراق للمشاركة في الجهاد. وعندما سئل عن المسألة، أخبر قصته لمسؤول في وكالة الاستخبارات الفرنسية.

 استُجوب شريف 12 مرة وشقيقه سعيد 10 مرات. تحدَّث الأول عن إقامته مع خاله في ضاحية أبيرفيليه لبضعة أيام. لكن خاله طلب منه الرحيل، فأقام مع أصدقاء له أو في فنادق صغيرة. وطوال سنتين، عمل في متاجر، باع الحشيشة، وارتكب سرقات إلى أن صادف أحد معارفه من دار الرعاية. أسكن مايكل ك. الأخوين في شقة والدته في مساكن المحدودي الدخل في الدائرة التاسعة عشرة.

أخبر شريف المحققين أنه بدأ آنذاك يقرأ الكتب. اصطحبه أخوه سعيد إلى مسجد بري سان جيرفيه. قال: {لم يسبق لي أن صليت لأنني كنت صغيراً ولم يخبرني أحد في الدار أي أمر عن  المسألة. في البداية، قصدت المسجد أيام الجمعة، ما ساعدني على الشعور بالسكينة. لذلك صرت أذهب باستمرار}.

في عام 2003، التقى رجلاً في مسجد الدعوة في الدائرة التاسعة عشرة بدَّل حياته: كان الإمام المزعوم فريد بن يطو (22 سنة) يبدو آنذاك أشبه بالهيبي. اطلع بن يطو، ابن زوجين جزائريين، على أفكار الجهاد في سن مبكرة. فصهره الإرهابي المعروف يوسف زيموري أوقف في مايو 1998 لاتهامه بتخطيط لاعتداء على كأس العالم في فرنسا.

تجادل بن يطو مع أئمة تُعتبر خطبهم معتدلة في رأيه ومُنع من دخول المسجد. وهكذا صار يعلِّم عقيدته  لمجموعة صغيرة من أتباعه في منزله. وشمل أتباعه الأخوين كواشي وثامر بوشناق. ودعوا بن يطو {أبو عبد الله}، علماً أنه ترك تأثيراً كبيراً في شريف وآخرين.

سلوك أفضل

خلال التحقيقات، ذكر شريف: {لم أعتقد أنني مسلم صالح}. حاول أن يصلي بانتظام، إلا أنه لم ينجح دوماً، وخصوصاً في فترات كان يدخن فيها كميات كبيرة من الماريجوانا. تابع: {أنا ممن يدعون مسلمي الأحياء. أعيش مع صديقة وأمضي في حياتي. عندما يتملكني شعور بالندم، أقصد الإمام فريد الذي يساعدني على التصرف بشكل أفضل}.

زرع بن يطو الحقد تجاه الولايات المتحدة بين أتباعه، وخصوصاً في مسألة غزو العراق عام 2003. واعتاد كواشي مقابلة بن يطو السبت والأحد.

أصبح بن يطو قائد شبكة بوت-شومون الجهادية، التي حملت اسم منتزه في الدائرة التاسعة عشرة. هو يبرع في التلاعب بأتباعه وحضّهم على الجهاد. أكَّد شريف أن {الإمام فريد لم يخبرنا مباشرة أن علينا الذهاب}، إلا أنه اعتاد اقتباس آيات وأقوال تحض على الجهاد. وأخبر المحققين: {أقنعني بتصرفاته}.

شكَّل أبو بكر الحقاني، أول شخص من أتباع بن يطو يذهب إلى الحرب، مثالاً أعلى للمجموعة. قبل الغزو الأميركي، سافر إلى العراق ليكون درعاً بشرية ضد الأميركيين. وصاح في مقابلة مع شبكة RTL عام 2003: {أبو عبد الله، هذا أنا! أنا في العراق. سنقتل الأميركيين كلهم. نحن مجاهدون ونريد الموت. نريد الجنة}.

لكن الحقاني لم يبلغ الجنة. بعد الإطاحة بصدام، أوقف في سورية ورُحل إلى فرنسا ليُطلق سراحه بعد فترة ويعود إلى العراق، حيث قاتل إلى جانب {القاعدة} في الفالوجة. أخبر شريف العملاء الفرنسيين أنه هو وثامر بوشناق أرادا السفر إلى سورية لشراء سلع خططا لبيعها في فرنسا وجني الأرباح. ولكن خلال جولة الاستجواب الرابعة استسلم، قائلاً: {كنت مستعداً للموت في سبيل الجهاد. أما اليوم، فأظن أن الشيطان قادني إلى هذه التجربة}.

للموت هناك

سأله المحققون عما إذا كان يعتقد أن الجهاد في فرنسا مبرراً، فأجاب: {فرنسا بلدي. أمتنع عن القيام بأمر مماثل}.

ما كان كواشي وبوشناق يعرفان الكثير عن الجهاد، إلا أنهما حاولا الاستعداد، مستخدمين منتزه بوت-شومون للتدرب. ركضا حول المنتزه لتقوية جسديهما للجهاد ولعبا كرة القدم لساعة يومياً. كذلك قصدا مقاهي الإنترنت لتأمل بنادق الكلاشنكوف واحتفظا برسم لتعلم استخدامها. ثم بدأ كواشي يتحدَّث عن إحراق متاجر اليهود ومطاعمهم في باريس وقيادة شاحنات مليئة بالمتفجرات نحو قواعد عسكرية أميركية.

ولكن خلال التحقيق، أقرَّ بأنه كان خائفاً. إلا أنه أكد أن الفخر تملَّكه وقرر السفر في النهاية. {قلت لنفسي إنني إذا استسلمت، فسيظن الآخرون أني جبان}. تقدَّم بطلب للحصول على جواز سفر واشترى بطاقة إلى دمشق مقابل 462 دولاراً. وفي الأسبوع الأخير قبل رحيله، أعطاه بن يطو تعليمات شخصية عن الجهاد: {أخبرني عن سبعين من الحور العين وعن منزل كبير في الجنة}.

كان بوشناق وشريف كواشي سعيدين. فقد شعرا أنهما مختاران ومميزان، حسبما أوضح دومينيك ماني، المحامي الذي مثَّل بوشناق.

خططا للسفر إلى دمشق عام 2005. وأرادا استعمال 8 آلاف يورو كانا يحملانها لشراء بنادق كلاشنكوف من العاصمة السورية. وتوقعا بعد ذلك أن يُنقلا إلى العراق. وكان من المقرر أن يمضيا الأمسية الأخيرة قبل سفرهما في شقة بن يطو. لكنهما اعتُقلا في تلك الأمسية. وقبل أن تتمكن الشرطة من الإمساك به، خاف شريف وألقى بهاتفه الخلوي على سكة قطار الأنفاق.

أقرَّ لمحاميه لاحقاً أنه شعر بالراحة لأنه اعتُقل. صحيح أن فكرة الجهاد أيقظت فيه الرغبة بأمر ذي معنى في حياته، غير أنه لم يرد الموت. اتُّهم شريف كواشي بتشكيل منظمة إرهابية واعتُقل بانتظار محاكمته. أما أخوه سعيد، الذي يشكل أيضاً جزءاً من مجموعة بن يطو، فظل طليقاً. وخلال عمليات الاستجواب، ادعى مراراً أنه كان يجهل خطط أخيه.

السجن والرجل الثالث

بدل أن يكون السجن خلاصه، كان نقطة تحول مصيرية ثانية في حياته لأنه صار أكثر تطرفاً فيه. في سجن فلور-ميروغي، حصن إسمنتي مخيف يضم أكثر من 4 آلاف سجين ويُعتبر السجن الأكبر في أوروبا، انضم إلى مجموعة من السلفيين يقودهم {أبو حمزة}. اسمه الحقيقي جمال بغال، وهو فرنسي من أصول جزائرية كان أحد أتباع أسامة بن لادن. حُكم عليه بعشر سنوات لتخطيطه تنفيذ اعتداء ضد السفارة الفرنسية في باريس عام 2001. وبعد بن يطو، تحوَّل بغال إلى شخصية بارزة في درب شريف كواشي نحو الإرهاب.

قبل تقاعده، ترأس جان-لوي بروغيار، قاضٍ في الحادية والسبعين من عمره، تحقيقات مهمة مناهضة للإرهاب في فرنسا، بما فيها تحقيق شبكة بوت-شومون. يخبر أن شريف كواشي لم يكن شخصية مميزة، ويعتقد أن في فرنسا اليوم نحو مئة إلى مئتين مثل كواشي.

في المقابل، كان بغال، الذي أوقفه بروغيار أيضاً، في {مستوى مختلف تماماً}: عالي الذكاء، وسيم، متطرف جداً، ومتعالٍ، وفق هذا القاضي. يصف خليل مرون، رجل دين مسلم كان يتردد على السجن آنذاك، بالواثق من نفسه والقوي الشخصية. ويضيف: {كان مثقفاً  ومهذباً. يبتسم ويتمتع بذكاء لافت}.

يؤكد القاضي أن بغال مَن دفع بشريف كواشي إلى التطرف. ويتابع: سجن الإرهابيين مع مجرمين عاديين خطأ فادح. السجون مكتظة والأحوال فيها صعبة، ما يجعل السجناء سريعي التأثر بأشكال التطرف}. ويدعو المؤرخ أندرو هوساي في كتابه {الانتفاضة الفرنسية} تلك السجون {غرفة المحرك في عملية التطرف الإسلامي في فرنسا}.

كان لبغال تأثير كبير في شريف كواشي وحمدي كوليبالي، الذي أصبح لاحقاً المعتدي الثالث وكان أيضاً محتجزاً في ذلك السجن في تلك الفترة. نمت الصداقة بين شريف وكوليبالي، وصارا يتمرنان معاً كل يوم طوال الأشهر السبعة التي أمضوها معاً في السجن.

قروض وملاعب

ولد كوليبالي في جوفيسي-سور-أورج عام 1982 في عائلة ضمَّت سبعة أولاد من مالي، وكان هو الصبي الوحيد. ترعرع في لا غراند بورن في غريني، إحدى الضواحي المتدنية الدخل الأكثر بشاعة جنوب باريس.

يخبر الموظفون الاجتماعيون في هذه المقاطعة أن كوليبالي بدأ يسرق في سن المراهقة. وهكذا انزلق إلى حياة الجريمة مبكراً وعُرف بأنه لص، وشارك في عمليات سرقة حوكم بسببها في عامَي 2001 و2004. وبعد ارتكابه سطواً مسلحاً على أحد المصارف في أورليان، حكم عليه بالحبس لست سنوات وأرسل إلى سجن  فلور-ميروغي.

حياة طبيعية كاذبة

عندما حصل شريف على إطلاق سراح مشروط عام 2006، بدا حزيناً وجاداً. عثر على عمل في قسم السمك في أحد المتاجر، وتزوَّج من الزانة حميد، ابنة مهاجرين مغربيين تكبره بسنتين ترعرعت في منطقة شارلفيل-ميزيار قرب الحدود البلجيكية. كانت مسلمة ملتزمة وترتدي الحجاب منذ الخامسة عشرة من عمرها. عقدا قرانهما في مارس 2008، وكان أخو شريف، سعيد، الإشبين.

عندما كان يُحاكم لتورطه في الخلية الجهادية في الدائرة التاسعة عشرة. ظهر في تصوير على شاشة التلفزيون وهو يرتدي سترة بقبعة غطى بها رأسه فيما سار خارجاً من غرفة المحكمة. خلال حديثه، أصرَّ على أنه وصديقه ثامر بريئان، ثم صاح في وجه الصحافيين: {لم يرتكب بن يطو أي ذنب أيضاً}.

يروي المحامي دومينيك ماني دعابة تُظهر مدى تشدد شريف في تلك المرحلة. خلال المحاكمة، رفض المدعى عليهما الوقوف أمام قاضية وأرغمهما رجال الشرطة على ذلك. أدين شريف بالسجن مدة ثلاث سنوات، مع خضوعه خلال نصف هذه المدة لإطلاق سراح مشروط. وهكذا اكتفت السلطات بالمدة التي كان قد قضاها في السجن وأطلقت سراحه.

سافر العروسان إلى مكة. بعد ذلك، ارتدت حميد البرقع، تركت عملها، وبدأت تؤدي فروض الصلاة الخمسة. يؤكد زوجان عاشا بجوارهما في جينيفيليه أنهما لم يريا وجهها مطلقاً. وعندما كانت حميد تصادف رجلاً عند المصعد، كانت تصعد الدرج. لكنَّ شريف كواشي لم يلفت الانتباه. فقد وصفه الجيران بالرجل المهذب، العادي، وغير المعقد.

واصل سعيد كواشي سعيه للعثور على ملجأ في الإسلام. في عام 2007، بدأ العمل كأحد {سفراء إعادة التدوير} في باريس. لكن تفسيره الصارم لمعتقداته الدينية تحوَّل تدريجاً إلى عائق كبير أمام عمله. فقد رفض مصافحة النساء، وقاطع عمله لأداء  الصلاة.

صحيح أن حياة شريف بدت طبيعية، إلا أنه واصل لقاءاته مع زميله السابق في السجن كوليبالي. كان أحياناً يدعو كوليبالي وزوجته حياة بومدين لزيارة منزله. واعتادت المرأتان أن تمضيا وقتهما في الدردشة في المطبخ. كذلك قام الزوجان في بعض نهايات الأسبوع برحلة إلى الريف لزيارة صديق من أيام السجن، جمال بغال الذي كان خاضعاً آنذاك للإقامة الجبرية.

أعمال إباحية

خضع الثلاثة لمراقبة مشددة من السلطات، التي اشتبهت بأنهم يخططون لتحرير الإرهابي المسجون اسماعيل آية علي بلقاسم، عضو في الجماعة الإسلامية المسلحة وأحد العقول المدبرة لسلسلة اعتداءات على نظام القطارات في ضواحي باريس عام 1995.

أدت الشبهات إلى توقيف شريف وكوليبالي في مايو عام 2010. وعندما فتش رجال الشرطة شقتيهما، وجدوا خليطاً غريباً من ملفات دينية وأعمال إباحية للأطفال على حاسوبيهما. ربما كان هدف الملفات إلهاء المحققين عن الخطط الفعلية. كذلك عثروا على أسلحة.

خلال الاستجوابات التالية، ما عاد شريف صريحاً وميالاً إلى الدردشة كما كان خلال عام 2005. قال للمحققين: «لا أملك ما أقوله». ولم تتوصَّل الشرطة إلى أي دليل على أنه ارتكب جرماً.

في يوليو عام 2011، سافر سعيد كواشي إلى سلطنة عمان ثم إلى اليمن برفقة مواطن فرنسي آخر على الأرجح، تدعي السلطات اليمنية أنه أخوه شريف. في مقابلة تلفزيونية مع محطة BMF TV قبل بضع ساعات من موته، ذكر شريف أنه تلقى التمويل من أنور العولقي، إمام أميركي جنَّد الإرهابيين لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وخطط لاعتداءات ضد الغرب، بما فيها الاعتداء الفاشل بواسطة ما دُعي مفجر الملابس الداخلية، عمر فاروق عبد المطلب.

عاد سعيد كواشي إلى باريس بعد ثلاثة أسابيع من دون أن يواجه أي عقبة من السلطات الفرنسية. تفيد التقارير الإعلامية الفرنسية بأن الأميركيين وحدهم كانوا يراقبون تحركاته، مع أنهم أبلغوا نظراءهم الفرنسيين برحلته في نوفمبر من السنة عينها.

{كلكم كفار}

التقى واحد من الأخوين على الأقل العولقي، حسبما يُفترض، وتلقى تدريباً على استعمال الأسلحة. صحيح أن الأخوين كواشي تلقيا على الأرجح تدريباً عسكرياً وعملية غسل دماغ دينية في اليمن، حيث ناقشا بعض الأهداف المحتملة، إلا أن الاعتداء على {شارلي إيبدو} لم يُنفذ في الغالب بأمر من السلطة المركزية. ويدعم هذا الاحتمال واقع أن العولقي لقي حتفه خلال هجوم لطائرات أميركية بلا طيار بعيد زيارة الأخوين إلى اليمن في  سبتمبر 2011.

لم يلفت شريف الاهتمام في المسجد الذي قصده أحياناً، وفق الإمام محمد بن علي. ولم يسمع أحد بشريف وأخيه سعيد إلا بسبب حادثة وقعت عام 2012. قبيل الانتخابات الرئاسية، حض الإمام مَن في المسجد على الاقتراع. وقف سعيد كواشي وقال إن الإمام لا يحق له أن يطلب من الناس القيام بأمر مماثل. صاح قبل أن يرغمه رجال الأمن على الخروج من المسجد {كلكم كفار}، وفق بن علي.

أقفلت القضية ضد شريف في يوليو 2013 ليختفي وأخوه بعيد ذلك عن أنظار السلطات. عُلقت عملية مراقبة شريف في أواخر 2013 وأخيه سعيد في يونيو  2014، وفق تقارير إعلامية فرنسية.

يبدو أن زوجتي شريف كواشي وكوليبالي تحدَّثتا عبر الهاتف نحو 500 مرة منذ ذلك الحين. وتعتقد السلطات أن الرجلين كانا يستخدمان هاتفي زوجتيهما. ولكن كيف ارتكبت السلطات الفرنسية سلسلة أخطاء وهفوات مميتة؟ أقرَّ رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس بعيد الاعتداء: {تعني وفاة 17 شخصاً أن الأخطاء ارتكبت}. وتعهد بإنشاء 500 منصب جديد في وكالة الاستخبارات.

ممرض في مستشفى

فتحت الشرطة 70 تحقيقاً بحق أشخاص أثنوا على الاعتداء في مواقع التواصل الاجتماعية، أحدهم الفكاهي المناهض للسامية ديودونيه، أحد أبطال الضواحي الفقيرة. فقد كتب: {أنا شارلي كوليبالي}.

لكن المفاجئ أن أحد مَن أدانوا  الاعتداء كان فريد بن يطو، الإمام المتطرف ذاته الذي دفع الأخوين كواشي إلى الأصولية. أخبر أولاً {لو فيغارو} أنه {يعارض بشكل قاطع} ما حدث. كذلك أفادت الصحيفة أنه أخرج شعار {أنا شارلي} من جيبه خلال المقابلة.

حُكم على بن يطو بالسجن لست سنوات في عام 2008 بسبب {علاقاته  بمنظمة إرهابية}. وعندما أطلق سراحه عام 2011، بدأ برنامج تمرين كممرض في مستشفى بيتيه سالبيتريار في باريس، حيث عمل كممرض مقيم في الطوارئ. والمفارقة أن المستشفى عالج بعض جرحى اعتداء باريس.

سارع المستشفى إلى إزالة بن يطو من برنامجه. في اليوم التالي، غادر الشقة حيث كان يقيم مع والدته في الدائرة التاسعة عشرة. وعندما تمكَّنت {شبيغل} أخيراً من التواصل معه عبر هاتفه، رفض لقاء المراسلين لأنه كان يدرس للامتحانات. كذلك نأى بنفسه عن الأخوين كواشي، قائلاً: {هذه أعمال إجرامية ويدينها الإسلام}.

يؤكد بن يطو أن دوره في الشبكة الجهادية في الدائرة التاسعة عشرة مبالغ فيه، لا بل أنه يعارض الجهاد. يزعم: {عندما أتى إلي الطلاب في الماضي وسألوني عما إذا كان عليهم الذهاب إلى العراق، قلت لهم: كلا. لم نتطرَّق حتى إلى مسألة الجهاد} في الدروس. لكن هذا يتعارض مع كل ما أخبر به شريف والتلامذة الآخرون الشرطة في تلك المرحلة.

شارف بن يطو (33 سنة) على إنهاء تدريبه، إلا أنه من المستبعد أن يحصل على عمل في مستشفى بيتيه سالبيتريار. فبسبب سجله الإجرامي، يحظر عليه العمل في وظيفة عامة.

إذاً، لمَ قرر المشاركة في برنامج التمريض في المقام الأول؟ للخدمة في سورية؟ هذا ما يعتقده البعض، بمن فيهم القاضي بروغيار الذي أجرى التحقيق السابق ضد بن يطو. يذكر : «لا يمكن حضّ المرء على العودة عن تطرفه».

عندما سئل بن يطو عمَّا ينوي فعله مع تدرّبه ، أجاب أنه غير واثق بعد.

ضائعون في كروا-روج

في كروا-روج، مدينة فرنسية شمال شرق ريم، يقع عدد من المباني المتداعية، إلا أن الأخوين كواشي عاشا في أحدها بعد أن رُمم. وقد أقام سعيد كواشي مع زوجته وولديه في المبنى  طوال سنة ونصف السنة.

يُدعى إمام تلك المنطقة عبد الحميد الخليفة (57 سنة)، إلا أنه لا يملك أي معلومات عن سعيد، غير أنه أدار متجراً في الجوار لفترة وجيزة.

دان الإمام اعتداء باريس قائلاً: {لا يتغاضى ديننا عن العنف. بارتكابهم عملاً مماثلاً، هددوا الأمن في هذا البلد، بما في ذلك أمننا}. لا شك في أن ظروف الحياة صعبة في كروا-روج، وفق الخليفة. {لكني أعرف شباناً لا يرغبون في العمل بكل بساطة. كنت مهندساً في سورية، إلا أني أعمل هنا في السوق في الصباح وفي متجري بعد الظهر}.

يؤكد الخليفة أن على الشبان أن يبذلوا مجهوداً أكبر. ويضيف: {بدلاً من ذلك، يتسكعون، حتى إنهم لا يشاركون في صلاة الجمعة. إنهم ضائعون، ما يجعل التلاعب بهم سهلاً}.

أصدقاء الإرهابيين

التقت ياسمين صديقتها حياة بومدين للمرة الأخيرة في أكتوبر عام 2014. دعتها بومدين إلى مأدبة طعام في شقة والدها في جنوب شرق باريس للاحتفال بعودتها من الحج إلى مكة مع كوليبالي. تعرف ياسمين بومدين منذ كانت في السابعة من عمرها، وقد ذهبتا إلى المدرسة الابتدائية ذاتها. فقدت حياة والدتها وترعرعت مع عدد من العائلات الربيبة. لكن درب ياسمين كان مختلفاً: أنهت دروسها الجامعية، وهي تملك اليوم وظيفة محترمة في إحدى الشركات وتتقاضى راتباً جيداً، رغم اسمها العربي وترعرعها في أحياء فقيرة. تخبر: «لا أصدق أن حياة تورطت في أمر مماثل. أعتقد أن زوجها أرغمها على ذلك».

أسهم أحد المعارف المشتركين في لقاء بومدين وكوليبالي في عام 2007. فجابا العالم من كريت إلى جمهورية الدومينيكان وماليزيا. وعندما ارتدت بومدين الحجاب عام 2009، بعد زواجهما بنحو سنة، خسرت عملها في المخبز، فارتدت البرقع. لكن ياسمين تؤكد أنها لم تشعر أن صديقتها متطرفة.

في مارس عام 2014، انتقل كوليبالي وبومدين إلى شقة في إحدى الضواحي جنوب باريس، حيث أقاما في مساكن تدعمها الحكومة في شارع ماكس دورموي. يقول الجيران هناك إنهما كانا متحفظين وودودين. ويخبر العامل الاجتماعي عمار حني أنه التقى كوليبالي في مقهى قبل أسبوع من الهجوم وكان يبحث عن عمل. وقبل ساعات من اعتداء شارلي إيبدو، تعرَّض عدَّاء لإطلاق نار قرب منزل كوليبالي. ربطت الشرطة لاحقاً أغلفة الرصاصات بمسدس استخدمه كوليبالي خلال الاعتداء على متجر الأطعمة اليهودية في بورت دي فيسين.

تفيد وكالة {فرانس برس}  أن كوليبالي، بومدين، وأربعة آخرين سافروا إلى مدريد قبل الاعتداء ببضعة أيام. ومن هناك سافرت بومدين وشريكها في السفر إلى اسطنبول. بعد الاعتداء على المتجر، ظهر شريط فيديو يعلن فيه كوليبالي مسؤوليته عن قتل شرطية وعن الاعتداء بحد ذاته، معرباً عن ولائه لداعش. وفي خطاب تالٍ، يثني قائد بارز في داعش على أعمال كوليبالي، إلا أنه لا يعلن مسؤولية هذه المجموعة عنها. ذكر كوليبالي أنه {نسَّق} الاعتداء مع الأخوين كواشي.

back to top