بين المطرقة والسندان مفكّرو بولندا يحذّرون من روسيا

نشر في 20-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-12-2014 | 00:01
لا يفوق أيّ مكانٍ وارسو قدرةً على عكس تاريخ بولندا، فهي مدينة تجاور فيها الهندسة المعمارية السوفياتية ناطحات السحاب الغربية. هي مدينةٌ يُدرّس فيها علم النفس في مبنى كانت قد سكنت فيه وحدات الأس أس. هي مدينةٌ عُرضت فيها أنقاض المنزل الذي وُلد فيه وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز لبضعة أيّام أمام معرض زاكيتا الوطني للفنون. وارسو مدينة تعبر فيها النساء المتبرّجات بإفراط بمحبّي موسيقى الجاز بين مطعم ماكدونالدز وما يُعرف في بولندا بمقاهي الحليب. هي مدينةٌ يوزّع فيها المتقاعدون صوراً من الورق المقوّى للبابا يوحنا بولس الثاني، في حين تلاعب الرياح بطاقات العمل التي توزّعها بيوت الدعارة.

وارسو عاصمة مدينةٍ تقع في قلب أوروبا وعلى الهامش في آنٍ، تغنيها ثقافةٌ تميّزها {ميلٌ غربي نحو الشرق أو ميل شرقي نحو الغرب}، كما كتبت يوماً المفكّرة ماريا جانيون. هي مدينةٌ اختفت عن الخريطة لـ 123 عاماً، وقسّمها الجيران، واجتاحها لعقودٍ طيف شبحٍ دُعيَ بالشيوعية. تقودنا هذه الرحلة إلى كتّابٍ مهمّين في بولندا، البلد الواقع بين الشرق والغرب، لنتطرّق إلى أمرٍ واحد لا آخر سواه: الخوف. لطالما اعتبرت بولندا نفسها واقعةً بين مطرقة الشرق وسندان الغرب، ما أدّى إلى معاناةٍ تاريخية مهمّة. وقد جعل الاعتداء الروسي على أوكرانيا الكثيرين في البلد يتخوّفون ممّا هو أسوأ، إذ يخشى كبار الكتّاب البولنديون أنّ الغرب لا يبذل جهوداً كافية. جورك سكوربالا كتب التحقيق التالي في {شبيغل}؟

تنبعث من شقة جاسك دينيل رائحة شبيهة برائحة البرتقال اليوسفي والتدفئة عبر الغاز. يبرز في إحدى زوايا الغرفة نحو عشرين عصاة مشي، وهي أكسسوارات شابٍّ يبدو كأحد الرجال الأنيقين والحكماء. الكتب مكدّسةٌ في كلّ مكان، تصل إلى السقف وتلاصق الجدران في شقة الشاعر الذي يتألّف من ثلاث غرفٍ، ويقع في قلب وارسو، على ضفاف نهر فيستولا.

تطلّ الشقة على قصر الثقافة والعلوم، وهو مبنى شاهق ومدبّب يمثّل معلماً مهمّاً في العاصمة البولندية ورمزاً عن الحقبة السوفياتية. وقد أطلق سكّان وارسو عليه ألف لقبٍ ولقب، ومن بينها {محقنة ستالين}.

تحيط به اليوم مبانٍ فخمة صمّمها مهندسون معماريون غربيون. فناطحات السحاب الشائكة المحيطة به أشبه بأطياف ضيوفٍ تلوح في الشفق بين الشرق والغرب، تذكّر بأيّما غموض بواحدةٍ من قصائد دينيل: {تبرز الأشباح خارجاً في الظلال، يأتي الظلام ليزورني عند النافذة}.

ينتصب أمام المحقنة تمثالٌ للشاعر البولندي القومي آدم ميتسكيفيتش، وفي الشارع أمام التمثال، تلمع أسماء علاماتٍ تجارية غربية ليلاً، كأنّما بالشاعر المبدع يعتريه ارتعاش خوفٍ فيما يومض الأمل أمام عينيه.

إثارة القلق

يمكن تحسّس الخوف أينما ذهبت، تجده على الصفحات الأولى في الجرائد والمجلّات، ينسلّ من شاشات التلفاز ويتسلّل إلى الأحاديث في الحانات ويعشّش في عقول الناس. هو الخوف من روسيا فلاديمير بوتين، من أنّ أوروبا لا تردّ بقوّة كافية على الأزمة في أوكرانيا، من أنّ بوتين لن يتقدّم إلى ضفاف نهر دونتس وحسب، بل سيصل قريباً إلى ضفاف فيستولا أيضاً. هو الخوف من بوتين نفسه الذي أشار قبل أيّام معدودة إلى {قرونٍ من التاريخ القديم والمشترك} التي تربط البولنديين والروس، وهذه كلماتٌ كانت كافية لتثير القلق في وسائل الإعلام البولندية، إذ إنّها تشبه خطاب الاحتضان البارد الذي خصّصه الرئيس الروسي لأوكرانيا.

برز هذا الخوف في رسالةٍ مفتوحة عنوانها {من دانزيغ إلى دونيتسك}، ناشد فيها 20 مفكّراً بولندياً أوروبا أن تهبّ إلى النجدة. نُشرت في الأوّل من سبتمبر في صحف {غازيتا فيبورتشا} و}لو موند} و}لا ليبر بلجيك} و}داي فيلت}، وفي مجلة {إيكونوميست}، وفي وسائل الإعلام الأوكرانية. وتفيد الرسالة: {أيّ شخصٍ لن يقول لبوتين اليوم إنّه لن يمرّ يوافق على تدمير النظام الدولي. وكلّ من يعتمد اليوم سياسة {العمل كالمعتاد} في ما يتعلّق بالنزاع الروسي الأوكراني يغضّ النظر عن الهجومات التي تشنّها قوّات بوتين الإمبريالية على البلدان، واحداً تلو الآخر. البارحة كان دور دانزيغ، واليوم دور دونيتسك: لا يمكننا السماح بوضعٍ تعيش فيه أوروبا مجدّداً ولعقودٍ طويلة بجروحٍ مفتوحة تنزف دماً}.

الشاعر دينيل أحد الموقّعين على الرسالة. صحيحٌ أنّه يبلغ 34 عاماً، لكنّه أحد أكثر كتّاب بولندا شهرةً. قصائده عبارة عن مفارقاتٍ تاريخية وأبيات تعود مئة عامٍ إلى الوراء. أمّا أبطال دينيل، فيحيطون به من كلّ حدبٍ وصوب: ميتسكيفيتش هنا، دوستويفسكي هناك، وثمة لوحةٌ أمام أعمال هؤلاء الكتّاب العظماء كُتب عليها: {غوته ليس هنا أبداً}.

يشرح دينيل: {على ألمانيا أن تفهم أنّ خوفنا من بوتين ليس من قبيل الصدفة}. على العكس، هو نتاج مراقبةٍ واسعة النطاق لجيران البلد من الشرق ومن الغرب. ويضيف: {تتمتّع بولندا بعلاقاتٍ وثيقة مع ألمانيا، ونحن عازمون عبر هذه الرسالة أن نحافظ عليها}.

يشعر دينيل بأنّ موقف ألمانيا تجاه الأزمة في أوكرانيا ضعيفٌ للغاية، وهو ليس الوحيد الذي يعتقد ذلك. فالصحافية آن آبلبوم، زوجة وزير الخارجية البولندي السابق رادوسلاف سيكورسكي، اتّهمت بدورها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالفشل في جهودها الدبلوماسية لحلّ الأزمة، واعتبر الصحافيون البولنديون أنّ ماضي ألمانيا المظلم خيّم على موقفها، من حمّام الدم في الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى القتل الجماعي في الاتّحاد السوفياتي ومعركة ستالينغراد.

{ستقصف القنبلة التالية برلين}

يكتّف دينيل يديه ورجليه، ثمّ يلخّص رسالته إلى الألمانيين كالآتي: {إذا أسقط بوتين قنبلةً نوويةً على وارسو، ستقصف القنبلة التالية برلين}.

تعبّر إشارته إلى أكثر الأسلحة فتكاً عن حجم هذا الخوف المهول وألفته. إنّه خوفٌ تغذّيه قصص الآباء والأجداد، خوفٌ تنامى بفعل التجربة، خوفٌ من أنّ التاريخ سيعيد نفسه.

بعد 75 سنةً على بداية الحرب العالمية الأولى، أحيت الأحداث الأخيرة ذكرى كانت في سباتٍ عميق في الوعي الجامعي للأمّة البولندية: البروتوكول السري الذي أُلحق بالميثاق الذي أُبرم بين هتلر وستلين، واتّفق فيه الألمان والسوفيات على التقسيم الرابع لبولندا فيما قسّم الطرفان المناطق في أوروبا الشرقية إلى مناطق نفوذٍ، وهي فكرةٌ دافع عنها بوتين أخيراً. ففي الأوّل من سبتمبر 1939، زحف الجيش الألماني إلى بولندا، وتبعه الجيش الأحمر في 17 سبتمبر، فيما ظلّت أوروبا تتفرّج. ويتمّ التذكير بخيانة بولندا هذه على يد الأوروبيين في كلّ مقابلةٍ في هذه الرحلة.

يُدعى القطار من وارسو إلى كراكوف بكوسيوسكو، تيمّناً ببطلٍ قومي بولندي كان قد انتصر على الروس في إحدى المعارك قبل أكثر من 200 عام. يسافر رجال ثملون على متن القطار، فيرقصون ويطلقون النكات فيضحك باقي الركّاب والسائقون. وفي محطة الباص في كراكوف، نحو 300 كلم جنوب وارسو، يمكن أن يرى الركّاب المنتظرون أنفاسهم في الهواء البارد. تصل الحافلة، وهي من نوعٍ ألماني قديم، إلى وجهتها أخيراً. تشقّ المركبة طريقها وتعبر قلعة فافل الملكية الأثرية، التي تقوم كاتدرئيّتها مقام المثوى الأخير لبولنديين بارزين كثيرين، كتاديوس كوسيوسكو وميتسكيفيتش وسائر الملوك البولنديين. تتابع الحافلة طريقها، فتخرج من كراكوف وتصل إلى محافظة بولندا الصغرى، التي كانت أجزاءٌ من أراضيها تابعةً حتى العام 1918 لمملكة غاليسيا ولودوميريا. والأخيرة أرضٌ ملكية في الإمبراطورية النمساوية المجرية، جاورت فيها البلدات اليهودية الصغيرة بعضها البعض. تقف الحافلة في غورليس، حيث تبعد الحدود السلوفاكية نحو نصف ساعةٍ جنوباً، فيما تبعد أوكرانيا شرقاً نحو ساعتين في السيّارة.

يقلّنا أندريه ستاسيوك، البالغ من العمر 54 عاماً، في سيّارةٍ رباعية الدفع، وهو لا يكتفي بالقيادة، بل يسارع ليصل إلى مقصورته. يُعتبر ستاسيوك، الذي وقّع أيضاً على الرسالة المفتوحة، أحد أكثر كتّاب بولندا شهرةً عالمياً. يدير أيضاً دار نشر كزارنيه، التي تنشر أعمالاً يترجمها إلى البولندية كتّابٌ عالميون، كالكاتبة الألمانية والرومانية هيرتا مولر، والكاتب الأوكراني يوري أندروخوفيتش. أمّا في ألمانيا، فتنشر دار شوركامب كتب ستاسيوك، التي يروي فيها عن أسفاره والشرق، بما يختزن من ماضٍ وجمال وحزنٍ. يبدو ستاسيوك تماماً ككتبه، فيظهر أحياناً كولدٍ اكتشف لتوّه معنى السخرية، وكرجلٍ عجوزٍ يحدّق بحزنٍ في الأفق البعيد في أحيانٍ أخرى.

نجّنا من الشرير

يتفتّت الطين الجاف الذي يغطّي لوحة القيادة في السيارة الرباعية الدفع. قد يكون طيناً بولندياً، أو ربما روسياً، أو حتى صينياً أو منغولياً. هو على كلّ حالٍ طينٌ من الشرق، تراكم في سيارة ستاسيوك التي تشقّ طريقها في بولندا الصغرى وبقايا جمهورية بولندا الشعبية، وهذه مجموعةٌ من المزارع المشتركة قديماً يملكها اليوم أحد المليونيرات. وتنتشر على جوانب الطرق رموزٌ دينية: يسوع المسيح، نجّنا من الشرير.

ترى أشجار البرقوق والصنوبر كيفما أشحت بناظريك. كانت تحلّ مكانها البيوت حتى نهاية أربعينيات القرن المنصرم. يذكّر ستاسيوك بصوتٍ منخفض وأجش: {عاشت هنا أقلية أوكرانية تدعى بالليمكن حتى العام 1947، وقد أعاد البولنديون توطينهم بالقوّة}.

يتشارك البولنديون والأوكرانيون تاريخاً مضطرباً، فقد ذبح الجيش المتمرّد الأوكراني آلاف البولنديين في خلال الحرب العالمية الثانية، ولا تزال الأحكام المسبقة لدى البولنديين قائمةً حتى الساعة. ويشرح ستاسيوك: {لا يرى كثيرٌ من البولنديين الأوكرانيين إلّا بوصفهم عمّالاً أو عاملات تنظيفٍ، ومن الضروري إذاً أن أساعد في تغيير ذلك. تنشر دار النشر التي أسّستها معظم نتاج الكتّاب الأوكرانيين المُتَرجم إلى اللغة البولندية}. ويتقدّم حصانٌ معدنيٌ العجلةَ على لوحة القيادة في سيّارة ستاسيوك، التي كان بعض الأصدقاء الأوكرانيين قد أهداه إيّاه، بمثابة طلسمٍ يظهر الاتّجاه الذي يجب أن يسلكه السائق.

يقف ستاسيوك أمام مقصورةٍ عند طرف الغابة، وهو المكان الي يختلي إليه للكتابة. يصف المقصورة بأنّها {بسيطة غير معقّدة}، وقد رفع أمامها أعلام قرغيزستان وطاجيكستان وأوكرانيا – التي شكّلت تذكاراتٍ من أسفاره – لكنّه أزال العلم الروسي.

ويردف: {ظنّ الجميع بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أنّ الصراع القديم بين الشرق والغرب قد انتهى. تبّاً! لم يكن هذا إلّا هراءً!}.

في شهر أغسطس، عَنوَنت جريدة {غازيتا فيبورتشا} صفحتها الأولى: {ألمانيا لن تدافع عنّا}، فالخوف القديم أطلق العنان لعناوين صحف جديدة. ويشرح ستاسيوك: {لن يدافع الألمان عنّا إن هاجمنا بوتين. يكفي أن تصرخ اسم روسيا في ألمانيا حتى يندفع الجميع مبتعداً}.

أخذت الأسفار ستاسيوك بعيداً نحو الشرق، غالباً عبر روسيا، ففي الصيف المنصرم، ذهب في آخر رحلاته إلى البلد الذي يجب زيارته، على حدّ قوله، ليفهم لمَ يتصرّف الناس، الذين يؤيّدون بمعظمهم بوتين، على هذا النحو. ويشرح ستاسيوك: {بوتين أشدّ ذكاءً من الغرب، ولطالما كانت روسيا كذلك. أخشى حقّاً اندلاع حربٍ ما، قبل أن يجتمع مجلس الأمن في الأمم المتّحدة ويعرب عن قلقه، سيكون بوتين قد حطّ رحاله في سيليزيا}.

تمرّ الطريق من غورليس إلى سيليزيا بكراكوف قبل أن تتابع اتّجاهها غرباً، وبمحطة توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم في تارنوف، التي تشكّل الساحة الأمثل لفيلم بشأن الكآبة بسبب الشرق. تمرّ الطريق أيضاً بأوشفيتز وبمدنٍ يتساقط الجص فيها من واجهات الأبنية التي تشبه وجوه كبار السنّ الذين شاهدوا كلّ شيء. أهلاً بك في سيليزيا العليا، جنوب غربي بولندا، التي تبعد أقلّ من ساعةٍ في السيّارة من الحدود التشيكية.

وشوم وثيابٌ أنيقة

يحذّر سكزيبان تفاردوخ: {لا أريد أن أرى أيّ دبابةٍ روسية هنا}. الرجل السيليزي البالغ 34 عاماً هو بمثابة الولد الشقي في الأدب البولندي. يعيش في قرية بيلشوفيس، بالقرب من مدينة غليفيتش.

يدعى أحد شوارع غليفيتش الرئيسة أوليكا زفيسيتفا، أي شارع النصر، وهو شارعٌ يفصل بين المباني الرمادية بلون السخام. تبتسم إحدى النساء الجميلات في إحدى الواجهات. تفوق أسنانها أيّ شيءٍ في غليفيتش بياضاً. لكنّه مجرّد إعلان لسلسلة الأزياء {سي أند أي}. وعلى بعد خطواتٍ معدودة، كتب أحدهم على أحد الجدران عبارة {أس أس} النازية وشعاراً همجياً يقول: {سوف ندمّر أولئك الذين لا تعني لهم سيليزيا أيّ شيءٍ}.

يقود تفاردوخ السيارة الرباعية الدفع في شارع النصر وفي سيليزيا العليا، حيث يتحوّل الرمادي إلى أخضر فيما نعبر حقول الذرة، والمباني المصنوعة من الطوب، والمزارات الصغيرة المكرّسة للعذراء مريم. نحن الآن إذاً في مسقط رأس تفاردوخ وأسلافه لأكثر من 300 عامٍ. وفي خلال الحرب العالمية الثانية، شهدت هذه المنطقة معارك بين الجيش الألماني والجيش الأحمر السوفياتي.

يبدو تفاردوخ كأحد النبلاء البريطانيين الذين يشتركون في مجلّات أسلوب الحياة. له بعض الوشوم ويرتدي ثياباً أنيقةً، أمّا جذوره السيليزرية فقد أضعفت لغته البولندية بعض الشيء. ويعترف: {أعلم أنّني لست بألماني، وأعلم أنّني لست ببولندي}.

إنّها لهوية وحيدة، حسبما وصفها تفاردوخ ذات مرّةٍ في إحدى مقالاته، لكن لا يزال يسعه، على حدّ قوله، التكلّم نيابةً عن البولنديين، وقد كان من جملة من وقّعوا على الرسالة المفتوحة. ألّف تفاردوخ روايته {مورفين} في اللغة البولندية، وهي كتابٌ أحدث جلبةً في بولندا لأنّه يروي قصّة مقاتلٍ في المقاومة البولندية في خريف العام 1939 لا يسعى إلّا إلى تعاطي المخدّرات وممارسة الجنس في وارسو التي أنهكتها الحرب. وقد غدا {مورفين} أحد أكثر الكتب مبيعاً، فأنفق تفاردوخ الإتاوات على بناء بيتٍ في بيلشوفيس.

المعرفة والعمل

عمر هذه الأسطورة من عمر بولندا. إنّها تسود في أعمال آدم ميتسكيفيتش، الذي ينتصب تمثاله في وارسو، حيث تبثّ محقنة ستالين الخوف فيه. في مسرحيته الشعرية {عشية الأجداد}، التي كتبها قبل نحو 200 عامٍ في وقتٍ لم يكن البولنديون قد أسّسوا فيه دولتهم، صوّر ميتسكيفيتش بولندا بوصفها مسيح أوروبا الذي مات لأجل خطايا جيرانه. فالقيصر الروسي إبليس والألمان معاونوه. هذه إذاً أسطورة بولندا، بكونها آخر حصون الحرية غير الفاسدة في أوروبا، قبل أن يبصر الشرق النور. هي أسطورةٌ تشرّع الخوف.

وتتضمّن الغرفة التي تخصّصها توكارتزوك للكتابة مذبحاً، ينتصب عليه تمثالٌ كوري لبوذا، فيما تنتصب الإلهة الهندوسية دورغا إلى جانبه، ممثّلةً المعرفة والعمل.

توضح توكارتزوك: {صحيحٌ أنّ العقوبات الأوروبية على بوتين بدأت تأتي مفعولاً، لكن هل هذا يعني أنّ أوروبا أبدت رفضاً قاطعاً في وجه الأعمال التي ينتهجها بوتين؟ لا أعتقد ذلك}.

إن لم تبدِ أوروبا رفضاً، فمن سيفعل؟ تجيب: {أعتقد أنّ دونالد تاسك سيضطلع بتأثيرٍ ما في هذه الأزمة}. فحتى شهر سبتمبر الأخير، كان تاسك رئيس الوزراء البولندي، لكنّه بات اليوم رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي القوي، وقد اتّهم بوتين بأنّه يتجاوز صلاحياته. وتختم: {يعتمد البولنديون، في ظلّ خوفهم هذا، على تاسك وعلى أوروبا}.

تضمّ توكارتزوك كفّيها مشيرةً بأصابعها إلى فوق، كما لو أنّها تصلّي.

ما التالي؟

يرى تفاردوخ الخوف في وجوه أصدقائه، وتشابهاً في الكتب التي تصف الوضع قبل مئة عام، ويشرح: {قبل الحرب العالمية الأولى، اعتقد كثيرون أنّ أيّ أوروبا لن تشهد أيّ حربٍ أخرى، ونعلم جميعاً ما الذي حدث في ما بعد}.

الخوف من الحرب قديمٌ، لكنّه مهمٌّ، كما يجمع الكتّاب كلهم. لا نهاية للتاريخ، كما لا ينفكّون يكرّرون. يصرّون على أنّ الأزمة في أوكرانيا ليست إلّا البداية، وكثيراً ما يتكرّر هذا التصريح، أشبه بصوتٍ متكرّرٍ لناقوس الخطر. لكن إن كانت هذه الأحداث البداية وحسب، فما التالي؟

يوضح تواردوخ: {ستستمرّ هذه الحرب، مشتعلةً حيناً وباردةً أحياناً أخرى. إمّا يضطرّ بوتين إلى الرضوخ، أو ينال ما يريد، أي الحدود القديمة للإمبراطورية}. يحدّق تفاردوخ لفترةٍ طويلة في الشرفة، حيث تنتشر ألعاب أولاده.

تنتقل بنا المرحلة التالية من رحلتنا إلى خارج قرى الألف اسم واسمٍ بولندي وألماني وسيليزي، إلى شمال غربي بولندا، أي من الريف إلى المدن. على مسافة 180 كلم من منزل تفاردوخ، تظهر مدينة فروتسواف، على ضفاف نهر أودر الذي يتحوّل شمالاً إلى الحدود الفاصلة بين بولندا وألمانيا. وفي ضواحي فروتسواف، تجرّ أمهات بولنديات عربات الأطفال في الحدائق التي تجاور المباني السكنية. يكتشف المتقاعدون الألمان جذورهم في المدينة القديمة التي أعيد إعمارها بمودّة بفضل أموال الاتّحاد الأوروبي. فقد كانت فروتسواف يوماً موطناً للشاعر الألماني هوفمان فون فاليرسليبن، وهي أيضاً المدينة التي اعتبرها أدولف هتلر قلعةً في العام 1944، فأمر بضرورة أن تتمّ حمايتها مهما يكن الثمن.

تستلقي امرأةٌ على سرير من الجماجم فيما يتفجّر الحليب من ثديها ويستلقي طفلٌ على بطنها. تقول أولغا توكارتزوك البالغة من العمر 52 عاماً، وواحدة من أكثر الكتّاب البولنديين شعبيةً: {إنّها صورة غير تقليدية لمريم العذراء، أليس كذلك؟}. إنّها لوحةٌ معلّقة في مطبخ الكاتبة، في منزلها في فروتسواف الذي تمّ بناؤه في العام 1912 وسكنه الألمان واليهود والبولنديون في خلال القرن المنصرم.

وقّعت توكارتزوك أيضاً الرسالة المفتوحة، أمّا كتاباتها فغالباً ما تكون على شكل أمثالٍ تقع أحداثها في المنطقة الحدودية، حيث تلتقي بولندا وألمانيا وجمهورية التشيك. وحيثما تجد حدوداً، تقع على قصصٍ تنشئ أساطير، وتردف توكارتزوك: {تعيد الأزمة في أوكرانيا لسوء الحظّ إحياء أسطورة في بولندا، أسطورةٌ تدّعي أنّه علينا أن نشكّل ستاراً يحمي الغرب من الشرق الوحشي}.

back to top