دماغك لا يفهم القمر

نشر في 28-11-2014 | 00:02
آخر تحديث 28-11-2014 | 00:02
سألني لويد كوفمان، عالم نفس من جامعة نيويورك متقاعد منذ زمن: {ما آخر النظريات؟}. كنا نجلس إلى طاولة خشبية في مكتب منزله الصغير. كان قد كدس كل تقاريره عن أوهام القمر المطبوعة حديثاً على الأريكة المجاورة بانتظار أن التفت إليها. لكني لم أجد طريقة أفضل لنبدأ نقاشنا من أن أسأله عن النظرية الأخيرة التي تدعي تفسير ما ظل طوال آلاف سنين من دون تفسير: لمَ يبدو القمر أكبر عندما يقترب من الأفق؟
اقترب قليلاً من جهازه من نوع iMac. أمال رأسه وبدأ بمطالعة مقال MIT Technology Review الذي نبشته. ظننت أنني سأحظى ببضع لحظات، في حين كان يقرأ المقال، لأستمتع بمنظر مدينة نيويورك من نافذة شقته هذه في الطابق الثامن والعشرين من هذا المبنى في منتزه فلورال. ولكن في غضون دقائق قليلة، أجابني: {من الواضح أن هذا خاطئ}.
لم تكن هذه نظريتي حتى، إلا أنني ذهلت. وضع هذه النظرية باحثان، جوزف أنتونيدس (طالب جامعي) وتوسيرو كوباتو (عالم كمبيوتر) من جامعة ساسكويهانا في بنيسلفانيا بنيَا نموذجاً بصرياً تبدو فيه السماء مجاورة للأفق، ما سمح لهما بوضع القمر أمام السماء، حاجباً إياها. وبما أن نظرتنا إلى العمق تضع القمر على مسافة أبعد من الأفق، نواجه معضلة بصرية. اعتبر هذان الباحثان أن تضخم قمر الأفق يعود إلى محاولة دماغنا حل هذه المعضلة. لكن كوفمان أكد لي أن هذا خطأ لأننا {نرى هذا الوهم حتى لو كنا نملك عيناً واحدةً بكل بساطة}.

يشبه وهم القمر شخصية ريب فان وينكل في تاريخ العلوم. بخلاف المعضلات الفلكية الأخرى، يكتب فرانس إيغان، فيلسوف من جامعة راتغرز، أن وهم القمر {استمر رغم تبدلات كبيرة في نظريتنا الفيزيائية العامة وفي مفهومنا الكامل للمؤسسة العلمية}.

يعود الذكر الأول لوهم القمر، على حد علمنا، إلى نص مسماري محفور على لوح طيني عمره 3 آلاف سنة كان في المكتبة الملكية في نينوى. وفي القرن الثاني بعد الميلاد، أكد بطليموس أن هذه الظاهرة تعود إلى الخصائص المكبرة للرطوبة والوهج في الجو. فقد كتب: «يبدو هذا أشبه بالتكبير الواضح للأشياء في الماء، ما يزيد  عمق انغماسها». وكما لو أنها من سلطة عليا، قُبلت هذه النظرية الفيزيائية أو نظرية «انكسار الضوء» هذه بدون أي مناقشة أو تشكيك لنحو ألف سنة. وهذا مؤسف حقاً بما أن بطليموس نفسه طرح نظرية فيزيولوجية بديلة نُسيت عموماً حتى زمن نيوتن.

لا يمكن خداع الكاميرا

التقطت عدسة الكاميرا صوراً متسلسلة للقمر يرتفع خلف جسر «غولدن غايت» في سان فرانسيسكو. ولا تتأثر الكاميرا بوهم القمر. لذلك لم يتبدل حجمه في الصور.

تُعرف هذه النظرية النفسية اليوم بفرضية {زاوية النظر}، أي الزاوية التي تتخذها العينان أو الرأس بالنسبة إلى الأفق. فكلما كانت زاوية العينين مرتفعة إلى الأعلى، بدت الأشياء أصغر. ويعود ذلك إلى تركيبة جهازنا البصري الفيزيولوجية. ظلت فرضية «زاوية النظر» منسية طوال مئات السنين بعد بطليموس، إلى أن أعاد الفيلسوف الأيرلندي جورج بيركلي إحياءها في عام 1709 كجزء من مناقشة العلوم البصرية الهندسية الحديثة آنذاك التي وضعها رينيه ديكارت ونيكولا مالبرانش.

استند هذان العالمان إلى وهم القمر ليرهنا فكرتهما عن أن البصر ثلاثي الأبعاد، وأن بإمكاننا احتساب الحجم والمسافة باستخدام البصر وحده. ولكن بيركلي في مقاله «نحو نظرية بصرية جديدة» عارض وجهة النظرهذه، مشيراً إلى أنه من الممكن تفسير وهم القمر باستخدام فرضية زاوية النظر. كذلك ادعى أن ما نراه لا يُعتبر ثلاثي الأبعاد بطبيعته، بدلاً من ذلك، نتعلم كم الأشياء بعيدة أو كبيرة بالتنقل في العالم ولمسها لمس اليد. لكن ديكارت رفض هذا الرفض المبني على فكرة وهم القمر. عوضاً عن ذلك، تمسك بفرضية «البعد المفترض»، التي تعتبر أن قمر الأفق يبدو أكبر لأننا نعتبره أكثر بعداً.

لم تُقبل أي من هاتين الفرضيتين حتى أربعينيات القرن الماضي، حين أحرزت نظرية زاوية النظر تقدماً مؤقتاً من خلال عمل عالم النفس إدوين بورينغ من جامعة هارفارد. وكان ذلك قبل دخول كوفمان هذا المعترك عام 1956، باحثاً عن موضوع لأطروحة الماجستير التي كان يعدها في علم النفس. وعندما سألت كوفمان عن سبب قراره تخصيص كل اهتمامه لهذه المعضلة من بين كل ألغاز العلوم غير المحلولة، قدم حججه كما لو أنها بديهية وواضحة: «جذبني تحدي حل معضلة تشبه ما عجز عن حله غاليليو ونيوتن».

في تقرير أعده كوفمان وزميله إيرفن روك عام 1962، دحضا نظرية زاوية النظر. فقد أشارا في مقطع عنوناه «أسباب للحذر» إلى أنك إن نظرت إلى قمر الأفق وذقنك إلى أسفل وعيناك مرفوعتان يستمر وهم القمر رغم ذلك. كذلك انتقدا الأسلوب الذي اتبعه بورينغ في تجاربه وتقييمه لفرضية ديكارت عن البعد المفترض

خلال السعي للتوصل إلى تفسير جديد، أجرى كوفمان وروك سلسلة من التجارب، مستخدمَين جهازاً يضع قرصاً من الضوء في السماء لكي يبدو {كما لو أنهما ينظران إلى القمر من خلال النافذة}. فجربا رفع العينين داخل المنزل وخارجه، بدلَا لون القمر ولمعانه، وحجبا في بعض التجارب القدرة على رؤية المساحة الممتدة أمام الناظر. فلاحظا أن المتغيرين الأولين لم يتركا أي أثر في هذه الظاهرة، بخلاف الثلاث الذي بدا أساسياً. نتيجة لذلك، استخلصا أن وهم القمر يختفي حين يعجز الناظر عن رؤية المسافة الممتدة أمامه.

بدا أن هذه الملاحظة تدعم نظرية البعد الظاهر: زاد وجود المسافة الممتدة أمام الناظر الإحساس الشخصي ببعد القمر. إذاً، صحيح أن حجم القمر لم يتبدل، إلا أن جهاز الرؤية الخاص بالإنسان {يستخلص: أنه أكثر بعداً، ما يضخّم حجمه. رفض بورينغ فرضية البعد الظاهر لأن الناس اعتبروا قمر الأفق أكثر قرباً، لا بعداً. ولكن كما يشير عالم النفس السلوكي جي. تي. إنرايت، يبدو أن معضلة الحجم والمسافة هذه تتطلب نوعاً من الفصل بين نظرتنا الواعية وغير الواعية إلى المسافة: نضخّم القمر ليكون أكبر بما أنه يبدو أكثر بعداً، ومن ثم نرى أنه أقرب. يكتب إنرايت: {يجب أن يبقى انطباعنا عن المسافة، بعد أن يحدد البعد الظاهر، محتجزاً في اللاوعي بشكل نهائي. تبدو هذه معضلات لا حل لها}.

تشير بيانات كوفمان  بكل وضوح إلى أهمية المسافة الممتدة أمام الناظر، على غرار تجارب أخرى. حتى إن كوفمان سأل رائد الفضاء إد لو، عندما كان في الفضاء في مركبة الفضاء الدولية عما إذا رأى وهم القمر في الفضاء: فأجاب نفياً. أخبرني كوفمان: {لا ترى هناك سوى كرة الأرض. ما من مسافة}. وتابع مخبراً أنه سأل الطيارين الذين يشاركون في اختبار الطائرات ({يتمتع هؤلاء بنظر ثاقب كالنسور}) عما إذا كانوا قد رأوا وهم القمر. فأجابوه: {نعم بالتأكيد، ولكن عندما ننزل إلى علو منخفض فحسب}.

في تقرير نشره هوفمان عام 2007، ناقش بوضوح معضلة {المسافة-الحجم}. شمل الوصف التقليدي لهذه المعضلة ثلاثة أعمال رؤية متتالية: نرى أولاً القمر البعيد بسبب المسافة أمامنا، ثم نراه أكبر لأنه أكثر بعداً، وأخيراً نراه أقرب لأنه أكبر حجماً. لكن كوفمان يوضح: {لا تسبب الرؤية رؤية مختلفة}. نتيجة لذلك، قد تشمل واحدة أو أكثر من الخطوات في هذه السلسة حكماً واعياً بدل رؤية لاواعية أو قد تنجم عن شبكة تحفيز معقدة من الروابط والاستدلالات التي لا ندركها. يجب ألا ننسى، وفق كوفمان، أن {هذه الرؤية تنجم عن عمليات حسابية أكثر عدداً وتعقيداً من الرؤية بحد ذاتها}. فقد يكون الحكم والرؤية مترابطات، إلا إنهما لا يسببان أحدهما الآخر.

أخبرني أنه من الصعب بالتأكيد تحديد الخطأ {لأن هذا ليس بطبعنا}. وأضاف: {عندما أحاول إظهار ذلك، أواجه صعوبة كبيرة. نتيجة لذلك، وضعت جانباً البحث الذي كنت أعمل عليه}. لكن توضيح آليات نظرنا معضلة يتشارك في حلّها كوفمان مع عدد من زملائه: كتب كيبلر قبل أربع عقود {لا علاقة للرؤية بمسألة البصريات بل بدراسة كلّ ظاهرة رائعة}.

back to top