د. حورية الخمليشي: الشعر العربي الحديث بعيد عن أي أيديولوجيات عرقية ودينية

نشر في 09-11-2014 | 00:02
آخر تحديث 09-11-2014 | 00:02
تقديراً للشعر ورسالته الكونية وإيماناً منها بقدرة القصيدة على إبراز جماليات الحضارة العربية العريقة، أصدرت الباحثة المغربية الدكتورة حورية الخمليشي كتاباً بعنوان «الكتابة والأجناس» (دار التنوير بيروت ودار الأمان الرباط)، يتضمن أول دراسة نقدية فنية في العالم العربي، ترصد ملامح الكمال في الشعر المعاصر المنفتح على أنماط الفنون من تشكيل ومسرح وموسيقى وتعبير جسدي وسينما وغيرها.

يندرج الكتاب ضمن الخط الذي انتهجته الكاتبة في مد جسر تواصل بين الحضارتين الغربية والمشرقية، وتبيان أثر الحضارة العربية في الآداب الأوروبية وفي الأدباء الذين نهلوا منها الكثير وما زالوا من بينهم ريجيس بلاشير، أحد أكبر علماء الاستشراق الفرنسي المهتمين بدراسة اللغة العربية وآدابها وترجمتها.

د. حورية الخمليشي حائزة دبلوم دراسات عليا في اللغة العربية وآدابها تخصص الشعر الحديث في جامعة محمد الخامس- الرباط، وشهادة دكتوراه في الأدب العربي حول موضوع: «الترجمة والتأويل في النص العربي القديم، رجيس بلاشير نموذجاً» في الجامعة نفسها.

من أبرز مؤلفاتها: «اللغة والتواصل في رحاب الجامعة»، «الشعر المنثور والتحديث الشعري»، «ترجمة النص العربي وتأويله عند ريجيس بلاشير»، «الخطاب الشعري العاشق والإبداع»، ترجمة كتاب «قواعد نشر وترجمة النصوص العربية» لريجيس بلاشير.

 حول كتابها الجديد ومفهومها للعلاقة بين الحضارتين الشرقية والغربية وتفاعلهما المتبادل  كان الحوار التالي مع د. حورية الخمليشي.

كيف تحددين العنوان «الكتابة والأجناس»؟ وما الذي دفعكِ إلى وضع هذه الدراسة النقدية؟

عرف التصنيف الأجناسي للقصيدة العربية الحديثة الكثير من الغموض والالتباس في زخم التجربة الحداثية، إلا أن الساحة النقدية تخلو من دراسة تهتمّ بمسألة الكتابة والأجناس الشعرية. بالإضافة إلى ما أثاره سؤال «الكتابة» من جدل في الثقافة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة، ذلك كله دفعني إلى الاهتمام بمفهوم الكتابة في الشعر العربي الحديث وبأعلامها وروادها، وما قدّموه من أعمال توضّح تجليات الكتابة عند شعراء كبار، وضعوا أُسساً لتأسيس مفهوم الكتابة الجديدة، فقدّموا للشعر العربي أعمالاً شعرية رائدة احتلّت مرتبة الصّدارة في هدم الحدود بين الأجناس الشعرية والكتابية، وحظيت بتقدير كبير عربياً وعالمياً.  

جاءت فكرة وضع هذه الدراسة بعد كتاب «الشعر المنثور والتحديث الشعري» لِما لمستُه من التباسٍ وغموضٍ في تحديد مصطلح الجنس الشعري، بما فيه مصطلح الشعر المنثور، لعدم وجود إطار نظري يحدّد مفهومه وأعلامه ونماذجه، إلى جانب ما أفرزته الحداثة من تسميات وأجناس شعرية جديدة عملت على تقريب الشعر من النثر وأدّت إلى نشوء ثقافة شعرية وفنّية متفاعلة مع الشعر العالمي.

هل لعصر الإنترنت وثقافة الصورة والتمازج بين الشعر والفن دور في وضع هذا الكتاب؟

في عصرنا الذي هو عصر ثقافة الصورة والثورة التكنولوجية، ساعدت الرّقمنة في انتشار الشعر على مواقع التواصل الاجتماعي، ونشر قصائد الشعراء، والأنشطة الثقافية في المواقع الثقافية الخاصة بالشعر. أدّت هذه التقنيات دوراً في حفظ الشعر ونشره من خلال تقنيات التصوير والحاسوب والفيديو والفوتوغرافيا، ما جعل النص الشعري لا يُنشَد فحسب، إنما يُشاهَد ويُسمَع.

الشاعر المعاصر لا يكتب بالكلمات بل يكتب بصورة المشهد السينمائي والمسرحي، أيضاً. أصبحنا نتحدّث عن سينمائية الصورة الشعرية بما فيها الكاميرا والسيناريو وشاشة العرض والموسيقى التصويرية وغيرها. كذلك أصبحت القصيدة منجزاً تشكيلياً بصرياً. هذه الوسائل تقدّم لنا قراءة جديدة للشعر الحديث والمعاصر، وهي فنون تتقاطع مع الشعر في كثير من السمات المشتركة. وكلها مجالات تعبيرية من إنتاج الحداثة، تقدّم قراءة للشعر بعناصر غير كلامية. وهذا الأمر يحتاج إلى متلقٍّ قادر على قراءة الشعر وتذوّق جمالية صوره والكشف عن مكوِّناته التي تجمع بين أنماط الفنون المتعددة.

وفّرت التكنولوجيا الرّقمية والانفجار المعلوماتي للقصيدة تعدّد وسائل نقلها للمتلقّي، وأصبحت العروض المسرحية التي يمتزج فيها الشعر بالفنّ تلقى إقبالاً وتفاعلاً من الجمهور، مع العلم أن جمهورنا العربي يبقى أقلّ انفتاحاً من نظيره الأجنبي على ثقافة الصورة.  

 

ما المعيار الذي اتبعته في اختيار الشعراء موضع الدراسة؟

اعتمدت على تجارب فردية لشعراء أساسيين في المشهد الشعري العربي والعالمي لعمق تجربتهم الشعرية وتأسيسهم لمفهوم الكتابة، وسعيهم إلى تحرير الشعر من هيمنة التّقليد من خلال تحديث اللغة. هؤلاء قدّموا أعمالاً شعرية برؤية جديدة منفتحة ومتفرِّدة، انطلاقاً من البيانات الشعرية التي يضمُّها كتاب «البيانات» الصادر عن مجلة «كلمات» البحرينية، من بينها: بيان أدونيس ومحمد بنيس وقاسم حداد بالاشتراك مع القاص والسينمائي أمين صالح. ولهذا الكتاب أهمّيته وخطورته في مسار الثقافة العربية كما يرى مُقدِّم الكتاب محمد لطفي اليوسفي.

هذه البيانات تأسيسية لحدث الكتابة ومشروع فكري جديد يسعى إلى بلورة منهج جديد في الشعر العربي الحديث. وهي أيضاً وعي باللّحظة الحضارية التي اقتضت الخروج من الموروث الأدبي الذي كرّسه الدّيني والسياسي. وقد حاولنا تتبّع مسار الكتابة عند هؤلاء الشعراء لما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن من صدور هذه البيانات، نظراً إلى الأعمال الشعرية الكبرى والكُتب الفنّية التي شكّلت ثورة على التّقليد وثورة على التّصنيف الأجناسي.

إلى أي مدى أسهمت الفنون في قراءة الشعر الحديث؟

 

نجح الفنّ في مقاربة الشعر إلى حدّ كبير. فالشعر طاقةٌ للخيال والإبداع وواسطة العقد في الفنون كافة. إنه منبع الفنّ ومنه تستمدّ الفنون جماليتها، بل يمكن أن نقول إن الشعر أوسع مجالا من الفنون كافة. فعلى إيقاع كلماته تؤلَّف السمفونيات الموسيقية وتستمدّ اللّوحات ألوانها وأشكالها من الرسم بالكلمات.

لننظر إلى هذا الزّخم الهائل من المسرحيات المستوحاة من الشعر والمشاهد السينمائية، بالإضافة إلى اللّوحات التشكيلية الرّائعة ورقصات السينوغرافيا وغيرها. لم يحصل في تاريخ الفنّ أن احتضنت الفنون الشعرَ واحتفت به كما هو الشأن في زمننا الراهن. ظاهرة التمازج بين الفنون قديمة، تمت في عصور متتالية وبرزت في أعمال القدماء والمحدثين. إنه نوع من الحوار بين الشعر والفنون. فالشعر في زمننا جوهر الإبداع الفني. وقد شهد تمازجاً وتداخلاً بين فنون متعددة في ظلّ الحداثة ووحدة التّجربة الإنسانية لمقاومة العولمة الاستهلاكية وسيادة الخصخصة.  

والآن تشترك فرق موسيقية إلى جانب فنّانين تشكيليين ومسرحيين من جنسيات مختلفة في الاحتفاء بالشعر. وهذا كلّه دليلٌ على الانفتاح الجمالي بين الشعر والفنّ.  

يندرج كتابك الجديد ضمن الخط الذي انتهجته في إلقاء الضوء على تفاعل الغرب مع الثقافة العربية كما في كتابك «ترجمة النص العربي القديم وتأويله عند ريجيس بلاشير»، ما الهدف من ذلك؟

التفاعل بين الحضارات مطلب أساسي للتكامل الثقافي الذي يُغني التجربة الإنسانية. وكان للمستشرقين قديماً وحديثاً دورٌ بارزٌ في ترجمة الأدب العربي، إذ ترجموا أمّهات الكتب وكثير من الدراسات والأعمال الأدبية، ما أتاح للثقافة العربية أن تدخل ثقافة الغرب. وقد أسهمت مدرسة الاستشراق الفرنسية منذ 1795 على يد المستشرق سلفستر دي ساسي في نقل علوم الثقافة العربية إلى أوروبا. وزادت عنايتهم بالأدب العربي منذ القرن الثامن عشر، بعد حملة نابوليون على مصر، والمدّ الاستعماري. فقد عمل معظم المستشرقين في الجامعات العربية  لا سيما المغرب والجزائر وتونس. وجاء اهتمامي بريجيس بلاشير لأنه من أكبر علماء الاستشراق الفرنسي الذين اهتمّوا بترجمة ودراسة اللغة والثقافة العربية. كذلك امتاز بغزارة إنتاجاته وأخصّ بالذّكر ترجمته ودراسته لديوان شاعر العروبة أبو الطيب المتنبي. فبلاشير مدرسة أدبية متميّزة في دراسة التراث العربي القديم. وكان لمدرسته الدور الكبير في تكوين باحثين وعلماء من جنسيات مختلفة، سواء من طلابه أو من طلاب طلابه، على غرار شارل بيلا وأندري ميكيل وأمجد الطرابلسي وجمال الدين بن الشيخ وصالح الأشتر وغيرهم.

برأيك، ما الذي دفع ريجيس بلاشير إلى البحث في الأدب العربي والتعمق فيه؟

لم يكن استشراق بلاشير استعمارياً ولا متعصّباً، فقد عُرِف بدفاعه المستميت عن استقلال شعوب إفريقيا الشمالية. كذلك تميّزت أعماله وترجماته بحبّه وإخلاصه للتراث العربي، لِما يطبعها من رؤية عاشقة لقراءة التّراث العربي، بدا فيها بلاشير الفرنسي عاشقاً للعروبة والإسلام. ولعلّ موقف المثقّفين العرب من الاستشراق أدّى إلى إغفال أعماله في الدّراسات العربية. فبلاشير مثقّف موسوعي، وكان شارل أندري جوليان شديد الإعجاب بثقافته وشخصيته، فربَط فكره النّقدي بمونتيني وفولتير ورينان وستاندال. كان بلاشير، أيضاً، شديد التأثّر بالبيئة المغربية التي عاش فيها طفولته لدرجة أنه أوصى قبل وفاته بأن يُكفَن بجلبابه المغربي، كما جاء في رسالة بعث بها تلميذه أندري ميكيل إلى زميله محمود المقداد، لعُمق الصِّلة الروحية التي تربطه بأهل المغرب وبيئته التي يعود إليها الفضل في اتجاهه إلى دراسة العربية.

تحملين هم الحداثة الشعرية، ولك كتاب الشعر المنثور والتحديث الشعري، فأين مكانة الشعر الحديث اليوم؟

 

النّموذج التّحديثي للشعر المنثور بحث عن مجهول القصيدة في خريطة الأجناس الشعرية. فقد دخل الشعر المنثور من نافذة أميركية، كما دخلت قصيدة النثر في مرحلة لاحقة من نافذة فرنسية. وظهرت أجناس شعرية غير معهودة أفرزت تسميات وأشكالاً شعرية جديدة.

يعيش الشعر العربي الحديث اليوم تجربة الكتابة والأجناس برؤية شعرية منفتحة. به نكتشف عوالم وقارّات جديدة. وبالانفتاح لا بالانغلاق ننتقل بحرّية مطلقة في عوالم نعرفها ولا نعرفها. وهو في زمننا الراهن يعيش أجمل مراحل العبور والانفتاح على الثقافات العالمية في مغامرتها الشعرية الكونية، بعيداً عن أي إيديولوجية عرقية أو دينية أو هوياتية. لا ينتصر إلا للجميل والسّامي المُنفتح على تجارب شعرية كونية أوروبية ويابانية وهندية وصينية وفارسية وأميركية وغيرها. وهذا دليل على أن الشعر لم يفقد حضوره البهي في حياة الناس، وأن ثمة عناية فائقة بالشعر عند كل الأمم والحضارات، فتبوّأ عرش الفنّ واستوحى منه الفنّانون أجمل اللوحات والمعزوفات الموسيقية والرقصات والمسرحيات وغيرها.

back to top