مريم

نشر في 01-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 01-11-2014 | 00:01
No Image Caption
قالت مريم كلمتها الأخيرة، ثمَّ أدارت ظهرها لخالد وقفلت راجعةً إلى بيتها.

كان هذا المساء من تموز 2009 بارداً على غير العادة في مدينة بالانيا الساحليّة، وبينما كانت تسير مطرقةً في الأرض، قلقةً ممّا يمكن أن يقوم به خالد، لفحتها نسمةٌ قويّة، أطارت الشال الخفيف الذي يغطّي شعرها، فتابعت سيرها غير مكترثةٍ من ثقل الأفكار السيّئة التي تجول بخاطرها.

ما الذي سوف يفعله؟ هل سينفّذ تهديده؟ وكيف؟

مرّت ثماني عشرة سنةً على الزلزال الذي كاد أن يدمّر حياتها. حاول خالد خلالها ابتزازها بخسّةٍ ووضاعةٍ من دون أن ينال من غرورها وكبريائها، ثمَّ اختفى فجأةً. ومنذ اختفائه، لم يعد أحدٌ يذكّرها بعذابات تلك الفترة وآلامها، مع أنّها أبت أن تفارقها، وظلّت جاثمةً في مكانٍ ما من وجدانها تتربّص بها، فلا تكاد تنساها لبرهة، حتّى تعود فتنقضّ عليها كطيرٍ كاسر، ينهش قلبها من جديد ببراثنه، ولا ينقذها منه إلاّ البكاء المرير.

واعتقدت مع مرور الزمن أنّ خالداً غاب من غير رجعة، حتّى شكله البغيض كانت قد نسيته. ولكن، ها هو يعود منذ شهرٍ إلى بالانيا، ترافقه حرماه وأولادٌ سبعة، وقد ازداد بشاعةً بلحيته الطويلة كهرمٍ عبثيٍّ رأسه إلى الأسفل، وها هو يشرئبُّ من جديدٍ في تربة حياتها الهادئة كفطرٍ سامٍّ عملاق، بنغّص عيشها من دون أن يترك فرصةً تعتب عليه لتذكيرها بما حصل، تارةً تلميحاً، وطوراً بشكلٍ مباشرٍ ووقح، مصرّاً على الحصول عليها، راضيةً أو مكرهةً، زوجةً أو عشيقةً، ما همّ.

وبينما كانت تجرّها رجلاها إلى بيتها كالمخدّرة، كإنسانٍ آليّ، عقلها في وادٍ وجسدها في وادٍ آخر، استرجعت تفاصيل تلك الأيام العصيبة وكأنّها تحصل اليوم، وكانت كلّما وصلت إلى مفصلٍ تنهمر دموعها فتمسحها بسرعةٍ بسبّابتها حتّى لا تراها عيون الناس الحشريّة.

قطع عليها حبل أفكارها فتىً يهرب مذعوراً من صبيةٍ يلاحقونه، ولكنّها ما لبثت أن عادت إلى مأساتها عندما اختفى الأولاد في الزاروب المقابل، وقالت لنفسها بهمسٍ مسموع: “آهٍ لو لم أقبل الذهاب مع ذاك الشابِّ إلى قلعة “المرقب”! ما الذي دهاني وقتها لأقوم بما قمت به؟ ولكن ما ذنبي وأنا لم أكن سوى مراهقةٍ لم أبلغ بعد السادسة عشرة من عمري؟”.

كانت العتمة قد بدأت تتسلّل بخجلٍ بين البيوت حين بدأت تقترب من منزلها، ولكن هل ستدخل بهذا الوجه المتجهّم؟ سوف يقلق ولداها دون شكّ. وفضّلت أن تعرّج على بيت والدها القريب، فمن لها غيره، وقد تعوّدت أن يخفّف من آلامها كلّما أصابتها نائبة. عرف بحكمته ووقاره أنّ هناك أمراً جسيماً يشغل بالها، ولم يسألها، بل انتظر أن تبوح له بمكنون صدرها تلقائياً كعادتها، ولكنّها شردت بعيداً بعينين هائمتين، ثمَّ هزّت رأسها ببطءٍ صعوداً ونزولاً ووقفت مصمّمةً على مواجهة خالد مهما كلّف الأمر.

لمّا وصلت بيتها وهمّت بفتح الباب، سمعت قهقهةً في الداخل، فتوقّفت قليلاً وفركت المفتاخ بأصابعها النحيلة، ثمَّ مشطت شعرها الأملس براحة يدها وأخذت نفساً عميقاً وولجت المنزل. كان ابنها البكر عمر يتكلّم بينما أخته دنيا وابنة جارهم يمُّ تضحكان بفرحٍ، وعمر ينظر إلى يمّ بعشقه المفضوح المعتاد، وحين رأوها وقف ثلاثتهم احتراماً، واقتربت يمُّ منها فقبّلتها مريم بحرارةٍ واضطراب، ما جعل الفتاة تبعدها سائلةً:

في شي عمتي؟ شو إلّي مزعلك؟

أجابت باقتضابٍ وهرعت مسرعةً إلى غرفتها مخافة أن تفضحها تقاسيم وجهها.

وقفت أمام شبّاك غرفتها، تنظر إلى شجرات الحور التي زرعتها منذ سنواتٍ في الجنينة الخلفيّة لبيتها، يتحرّش الهواء بها بخفةٍ فتصفّق أوراقها بفرح. ثمَّ تسطّحت على سريرها شاخصةً ببصرها إلى السقف الغائم فوقها. كان صدرها يغلي حزناً وألماً، وكأنّ شعوراً باطنيًّا ينبئها أنَّ حياتها تدخل الآن في المجهول، ولكن ما عساها تفعل. لقد تخطّت في حياتها محناً كبيرة ولن تجبن هذه المرّة، فقالت لنفسها: “بكرا بيدوب التلج وبيبان المرج”، وغفت على صوت حفيف الحور الهادئ.

أمّا خالد فقد وصل جواب مريم الحاسم إلى سمعه كطعنة الخنجر، ولم يكن يتوقّع أن تذلّه في وسط الشارع أمام أعين الناس. ظنّ أنّها حين قطع عليها الطريق وبدأ كلامه معها تهديداً وترغيباً، سوف تخاف من أعين الناس وتتحاشى إحراج نفسها، ولكنّها بالعكس، قذفته بأقذع العبارات. عاد إلى منزله، نهر زوجتيه آمراً أن تنزويا في الغرفة الملاصقة، وأمسك سيجارته وأشعلها بيدٍ مرتجفة، وبدأ يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً. وبدل أن يهدّئ من روعه ويتماسك، فإنّه كان يرمي فوق سعير قلبه المتأجّج القشّة الملتهبة تلو القشّة، ويفكّر في خطّة الانتقام الأكثر ألماً، التي سوف تحوّل حياتهما جحيماً.

حين غادر بالانيا ظنّ أنّه سوف ينساها؛ لقد هرب كي ينساها، وذهب أبعد ما يستطيع فالتحق بحركة طالبان في أفغانستان، وبقي هناك حتّى خسارة طالبان لمعركتها مع الأميركييّن، والتي شارك فيها بشراسة، ثمّ هرب إلى باكستان. وقصد العراق بعد سقوط صدّام حسين، وعاد لمحاربة الأميركييّن، وكان يدخل إلى سوريا ويخرج تحت أعين النظام، إلى أن اعتُقل فجأةً وزُجّ به في السجن، ولم ينس للحظةٍ الضابط اللئيم الذي استجوبه، وكانت رغبته بالانتقام منه لا تقلُّ عن رغبته بالحصول على مريم، وكأنَّ قلبه عبارة عن تنوّرٍ تشتعل فيه جمرات حقدٍ تنتظر وقودها.

بقي في السجن خمس سنوات. ولمّا أُفرج عنه، ذهب وجاء بعائلته قابلاً بشرط النظام أن لا يتعاطى السياسة أبداً. ولكنّه لم يف بوعده، وبدأ يعمل سرًّا، ونجح بسرعةٍ قياسيّةٍ في أن يجمع حوله حلقةً من الشبّان المتشدّدين في الدين، أصبحوا يؤمنون به ولا ينادونه إلاّ بالأمير خالد.

وكانت قلّةٌ قليلة من أهل بالانيا تعرف تاريخ خالد، فزوجتاه الأفغانيتان تقبعان كالسجينتين في المنزل، لم تكلّما أحداً، ولم يرهما أحدٌ، ورفاق أولاده لم يلبثوا أن اعتادوا على زيّهم الغريب ولكنتهم المكسّرة، بعد أن كانوا يهزأون منهم في البداية. إلاّ مريم، فقد عرفت دون غيرها ما قد أصبح عليه، وأخبرها، عن سابق إصرارٍ وتصميم، ما هو قادرٌ على فعله من إجرام.

لم يراقب خالد خلال هذا الشهر مريم فقط، بل راقب أيضاً العمّال الذين يشتغلون عندها في صيد السمك. فمنذ امتلكت زورقين بكدّها وتعبها، لم تعد تعمل بيديها، بل أصبح عندها عمالٌ كثر، تشرف عليهم بعدلٍ وصرامة، فاستحقت عن جدارةٍ لقبها في الحيِّ: “أخت الرجال”. وأكثر ما لفت انتباه خالد كان وليد، ذراعها اليمنى، بقامته الطويلة ووجهه الوسيم، الذي تفضحه نظراته التي يحتوي بها مريم كلّما وقع نظره عليها أثناء العمل، نظراتٌ ولهى عطشى كانت تغيظ خالداً وجعلته يشكُّ بعلاقةٍ بين الاثنين، وخصوصاً عندما تحرّى عنه وعرف أنّه عازب يكبرها بسنتين، فلماذا تأخّر بالزواج؟ هو حتماً ينتظرها، ولا بدَّ من إيجاد حلٍّ سريعٍ لهذا العائق الطفيليّ.

وراقب أيضاً أولادها، ولم يجد لسوء حظّه شيئاً يستطيع اللعب عليه في حياة ابنتها دنيا، فهي فتاةٌ هادئةٌ وديعة، واضحة الشخصيّة، لا تخفي شيئاً، لا تخطو أيّة خطوةٍ من دون معرفة والدتها وجدّها. إنّما عرف أنّ ابنها عمر متيّمٌ بابنة جارهم يمَّ التي تصغره بعامٍ واحد، وأنًّ العائلة كلّها تتكلّم عن حتميّة زواجه بها عندما يكبران، فوجد فيه مجالاً رحباً للضغط على مريم، ومن بوّابة يمَّ بالذات.

في الصباح، نادى على أحد أتباعه بلال، وكان يعرف بغرامه هو أيضاً بيمّ، وأسرَّ له، آمراً بما يجب عليه القيام به.

2

منذ ولادة عمر سنة 1992 حتّى ظهور خالد، كانت حياته هادئةً تملؤها الطيبة والسعادة، ولم يكن ليخطر في باله أن تنقلب في لحظةٍ رأساً على عقب.

وككلِّ سكان الحيِّ الملاصق لساحة السمك، حيث تتراكم البيوت والأكواخ المتواضعة ككتلةٍ واحدة، فقد أمضى طفولةٍ فيها من الهناء والأمان ما يعوّض عن الفقر والعوز.

ولمّا بلغ الخامسة من عمره، أراد جدّه وضعه في مدرسة “عماد عرنوق” المحافظة، إلاّ أنَّ أمّه عارضت رأي والدها وأصرّت أن يدخل مدرسة “جليل خدام”، حيث يختلط التلاميذ السُنّة بإخوانهم المسيحيّين والعلويّين، ولحقت به يمُّ ودنيا بعد سنة، في المدرسة نفسها.

وكان لا يتوقّف عن اللهو واللعب. لا يتّسع الفضاء الرحب لانشراح صدره، وخصوصاً عند لقياه يمّ، التي كانت تقضي نهارها في دارتهم الصغيرة تلعب مع أخته كالتوأمين. وكان منذ بداية وعيه يعتبرها ملكيّته، فالويل، كلّ الويل، لأيّ طفلٍ آخر يحاول التقرّب منها، فقد كان ينصبُ له العداء، ويتحوّل إلى نسرٍ جارحٍ يدافع عن حبيبته الوحيدة.

back to top