رومانسية الأطلال

نشر في 27-10-2014
آخر تحديث 27-10-2014 | 00:01
 فوزية شويش السالم قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل / بسقط اللوى بين الدخول فحومل... "معلقة امرئ القيس"

لخولة أطلال ببرقة ثمد / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد... "معلقة طرفة بن العبد"

هل غادر الشعراء من متردم / أم هل عرفت الدار بعد توهم... "معلقة عنترة بن شداد"

أمن أم أوفى دمنه لم تتكلم / بحومانه الدراج فالمتلثم... "معلقة زهير بن أبي سلمى"

هيج القلب مغان وصير دراسات، قد علاهن الشجر/ ورياح قد أزرت بها تنسج الترب فنونا، والمطر

ظلت فيه ذات يوم، واقفا أسأل المنزل، هل فيه خبر... "معلقة عمر بن أبي ربيعة"

الأبيات السابقة مختارات من معلقات شهيرة لشعراء الجاهلية الذين خصصوا أبياتا شعرية تتذكر وتبكي فراق الحبيب الذي لم يُبقِ لهم إلا أطلالاً لسيرة مكانه ومسكنه.

عندما كانت هذه القصائد مقررة علينا في المنهج الدراسي، كنت أتساءل ما الجمال الذي يكمن فيها، وما الذي يأتينا من رؤيتنا لخرائب وأطلال الأمكنة والمنازل المهدمة والمهجورة التي تلعب فيه رياح الهجر والفراغ الصامت الذي يُحيطها؟

ما ماهية هذا الجمال المتأتي من الخراب وبقايا الهجر المتروك في حجارة وطوب وأبواب مخلوعة ورمال متطايرة من حولها؟

ما الجميل فيها الذي أثار الشاعر وحرك شجونه ليكتب عنها هذه القصائد التي خلدها التاريخ ومجدها في كتابات وكتب قُررت دراستها في كل مدارس العالم العربي، ووصلت شهرتها إلى القاصي والداني؟

هذه الأسئلة لم تجد الجواب لها في ذاك العمر الصغير الجاهل لمعنى ومفهوم الجمال من منظورات مختلفة، فهذا الخراب الذي استطاع أن يحرك كوامن الإحساس بالشجن العميق لدى الشاعر حتى عصره، وأخرج من روحه لواعجها وحنينها واستحضارها لذاكرة المكان ومن عاش فيه ورسم على ترابه صدى صوته وصورته التي بثت الحياة فيها، وأبكت الشاعر لذكراها، لابد أن يكون هذا الخراب وأطلاله أيقونة للجمال الرومانسي القادر على تحريك المشاعر والأحاسيس التي تأتي من عصف الشجن في قلب وذاكرة الرائي لها، أكتب هذا الكلام من بعد مروري بتجارب كثيرة وكبيرة رأيت فيها وشعرت وأدركت كم رومانسية هذه الأطلال مثيرة ومغمسة بالوجد وظلال الذاكرة والهجر التي تلوح وتراود التراب والحيطان المتآكلة والأبواب المنخورة المتكئة على أحجار كانت فيما مضى حارسة الأسوار وأهل الدار، وباتت الآن خرائب وطللاً يعبث به الزمن وتطلق الريح منه مزاميرها.

وأصبحت رومانسية الأطلال والخرائب أكثر ما يسحرني ويشدني في الترحال والسفر، كل الأمكنة التي غادرها أصحابها سواء بالموت أو بالهجر، صارت تناديني لصحبتها فكل ما فيها يحرك المخيلة والخيال، ويدفع الحياة بشدة في عروق وشرايين الخراب المتلفع بشجن سريته وأسراره المدفونة في صمت المكان، فتعود الأصوات تدب فيه من كل الجهات تأتيه، حتى ينتعش الفراغ ويمتلئ بحكاياته التي لا تنتهي بنهاية من كانوا فيه.

من أجمل وأروع الأطلال التي رأيتها وعشقتها وذوبت قلبي رؤيتها، أطلال خرائب قلعة" كلينورث "التي تشهق الروح حين مشاهدتها، فهذه الأطلال ذات الصخور والأحجار الحمراء المتبقية من بنائها العظيم الممتد كنسيج دانتيل مخرم بالفراغات المتآكلة فوق التلال الخضراء المنبسطة على مد النظر والتي يخترقها عبور النهر المنساب بعذوبة وكسل في أراضي الرعاة وثغاء قطعانهم.

هذه الأطلال أبقتها إنكلترا على حال الخراب الذي هي فيه ولم تقم بترميمها وإصلاحها، لأنها باتت وهي في هذي الحال أكثر جذباً للسياحة، فجمالها لا يستوي مع غيرها، ولا تتشابه مع أي أثر آخر، وليس لسحرها مثيل في أي مكان آخر.

لهذه القلعة تاريخ وزمن طويل لتعدد ملاكها، لكنها في النهاية كانت لأحد النبلاء واسمه "روبرت دودلي" الذي كان يحب الملكة "اليزابيث الأولي"، فبنى لها هذه القلعة الرائعة في عام 1575 على طراز الرنيسانس، وأحاطها بالحدائق المسماة "باليزابيثين جاردن"، ويعد هذا الطراز من الحدائق المحببة لدى الإنكليز.

غاب النبيل العاشق وغابت معشوقته المدللة، وانتهى زمنهما وأعقبته أزمان وأزمان، والكل انتهى إلى غايته، فلا تقل شيئاً فإن الحب شاء، وهو ما بقي في هذه الأطلال التي تنطبق عليها كلمات الشاعر إبراهيم ناجي وشعراء المعلقات كلهم "كان صرحا من خيال فهوى".

back to top