مصر... الديمقراطية لم تعد أولوية

نشر في 26-10-2014 | 00:01
آخر تحديث 26-10-2014 | 00:01
 ياسر عبد العزيز لا يكاد يوم واحد يمر من دون وقوع هجوم إرهابي يستهدف الدولة والمجتمع والأفراد في مصر منذ 30 يونيو 2013،

وإن تلك الهجمات دليل يأس وخواء، ولا تنتظم في استراتيجية واضحة، ولا تخدم تنظيم "الإخوان" وأنصاره وداعميه، ولا تزعزع عزيمة المصريين، ولا توقف عجلة العمل الوطني التي تمضي إلى الأمام في ثبات، لكنها مع ذلك تترك أثراً خطيراً، إنها تدعم الميل الاستبدادي، وتقيد فرص الانفتاح والتعددية والديمقراطية.

لقد كان شعار "ثورة يناير"، التي اندلعت في مطلع عام 2011، "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، كما أن الانتفاضة الثورية النادرة التي هزت أرجاء مصر والمنطقة في 30 يونيو من عام 2013، وأطاحت بحكم تنظيم "الإخوان"، اشتعلت لمناهضة الاستبداد والفاشية الظلامية، وطلباً للحرية ورفضاً للدكتاتورية؛ لذلك سيكون من الصعب جداً تفهم "تراجع الطلب الوطني العام على الديمقراطية في مصر" عقب هاتين الانتفاضتين الثوريتين، اللتين تكللتا بالنجاح.

مفهوم "الطلب الوطني" National Demand، هو أحد مفاهيم علم الاقتصاد، ويُقصد به "مجمل طلب المستهلكين على البضائع والخدمات على المستوى الوطني في وقت محدد"، فإذا تمت استعارة هذا المفهوم إلى ميدان السياسة، أمكننا القول إن مجمل "الطلب الوطني" لدى القطاعات الغالبة بين المصريين الآن يتمحور حول "دحر الإرهاب"، و"تثبيت دعائم الدولة"، و"حل مشكلة الاقتصاد"، و"تحسين الخدمات".

فإذا كان هذا التقدير صحيحاً، كما يظهر في استطلاعات الرأي، ونقاشات المجال العام، ووسائل الإعلام، فإن الطلب على الديمقراطية يبدو غير مدرج ضمن الأولويات، كما أن قبول "تقييد المجال العام، والنزوع التعبوي، والميل الاستبدادي" يبدو غير مستبعد.

يعطي تنظيم "الإخوان"، بتآمره، وإرهابه، وخطله، ومعاداته للدولة الوطنية، وانقياده إلى خدمة مصالح أعدائها، أفضل دعم لخطة تقليص الطلب على الديمقراطية، وتقبل النزعة الاستبدادية، وتؤدي الفوضى في ليبيا، والحرب الأهلية في سورية، والتشظى في اليمن، والانهيار في العراق إلى تكريس فكرة "الدولة المستبدة أفضل من اللادولة".

 وتسهم بعض الدول العربية والإقليمية بنصيب وافر في الجهود الرامية إلى إقناع المصريين بأن "مؤامرة دولية تحاك ضدهم لتقويض دولتهم"، وتشحذ هذه الدول عزائم المصريين لـ"التشبث بالمؤسسات القائمة، ومقاومة التغيير، واستبدال الاستقرار والأمن بالحلم الديمقراطي والرفاه الموعود في أعقاب إدراكه".

وتساعد الدول الكبرى خصوصاً الولايات المتحدة، بسياساتها البراغماتية، ونزوعها الانتهازي، وعدالتها الانتقائية، وتناقضها الجوهري، في تعزيز فكرة السلطوية كـ"تعبير عن التماسك الأهلي والمركزية والوحدة الترابية والمجتمعية"، في مقابل فكرة الحرية والتنوع كـ"مدخل للانقسام والتفكك".

تتحالف كل تلك الجهود والأنساق المتباينة سابقة الذكر لخدمة هدف واحد يتعلق بالمسار الذي سيتخذه المصريون نحو مستقبلهم، ويبدو أن المصريين يبلورون، في مجموعهم العام، توجهاً محدداً في هذا الصدد.

لقد أعلن مركز "كارتر" إغلاق مكتبه في مصر، وعدم قيامه بمراقبة الانتخابات البرلمانية المقبلة، بسبب قلقه من "توافر الشروط الديمقراطية اللازمة لإنجاح الانتخابات في تلك الأثناء"، لكن أحداً لم يهتم بهذا الخبر، باستثناء قطاع محدود في النخبة المصرية.

ثمة تقارير عديدة تصدر من منظمات مجتمع مدني شهيرة في الغرب تتناول أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في مصر تناولاً مسيئاً، لكن قطاعات كبيرة من المصريين لا تحفل بتلك التقارير، كما أن معظم وسائل الإعلام تتعامل معها بوصفها "هجمات على الدولة المصرية من مراكز حقوقية مأجورة وعميلة"، ويبدو أن شرائح مؤثرة من الجمهور تتبنى هذا الموقف كذلك.

قبل أيام قليلة، نشرت "نيويورك تايمز" مقالاً مؤثراً تناول الأوضاع في مصر بشكل مسيء للتطور الديمقراطي فيها، وهو مقال تلا افتتاحية شهيرة نشرت قبل أكثر من أسبوعين حرضت خلالها الصحيفة الإدارة الأميركية على عدم مساعدة الحكومة المصرية الراهنة لأنها "تعادي الديمقراطية". لقد شن الإعلام المصري، مدعوماً بحس جماهيري واضح، حملة قوية ضد الصحيفة، واعتبرها "جزءاً من مؤامرة صهيونية لإضعاف مصر".

تُنتهك حرية الرأي والتعبير في مصر، وتحاول السلطة التنفيذية السيطرة على المنظومة الإعلامية، وتمارس قوات الأمن انتهاكات بحق المواطنين، وترفض الدولة تعديل قانون التظاهر، لكن الجمهور، في مجموعه العام، لا يعترض، ولا يكترث.

لا أعتقد أن بيئة استطلاعات الرأي العام في مصر يمكن أن تنتج معرفة حقيقية مسؤولة، لأسباب جوهرية عديدة؛ منها ما يتعلق بعدم انفتاح وتحرر المستطلعة آراؤهم وعدم تمتعهم بما يكفي من الشعور بالأمن والكفاية، ومنها ما يتعلق بقصور أدوات المستطلعين سواء كانوا محليين أو دوليين.

لكن على أي حال، فقد كانت آخر ثلاثة استطلاعات رأي دولية ومحلية مهمة صدرت في شأن نسبة رضا المصريين وثقتهم بالنظام القائم تشير إلى ارتفاع معدلات التأييد بشكل كبير محسوس... أنا أصدق هذه المؤشرات، لأنني ببساطة أتحدث مع الجمهور يومياً، وأحلل توجهاته بقدر الإمكان.

يقول بسمارك: "إن الرأي العام هو التيار اليومي الذي يغلب صوته صوت الآخرين في الصحافة وجلسات البرلمان"،

ويرى مكيافيللي أنه "لا يمكن لأي حكم أن يتجاهل الرأي العام في القضايا ذات الطابع الجماهيري. الجمهور قد يرتكب أخطاءً في ترتيب الأولويات، لكن أخطاءه إذا وقعت ستكون نتائجها محدودة قياساً بالأخطاء التي يمكن أن تنشأ نتيجة لتجاهل الحكومة آراء الجمهور".

سأجازف وأقول إن مجموعة من العوامل تضافرت بشكل قاد الجمهور المصري، في مجموعه العام والمؤثر، إلى التشبث بالدولة "مهما كانت مستبدة وقمعية"، على حساب "الحلم الديمقراطي مهما كان مزدهراً وواعداً"، وسأجازف أكثر وأقول إن النظام الحالي يدرك ذلك ويتصرف على أساسه.

إن تنظيم "الإخوان" له الفضل الكبير في صناعة تلك الحالة في مصر، لأن القطاعات الغالبة بين المواطنين باتت تدرك أن خطته المعلنة هي "إسقاط الدولة"، ولأن دولاً بعينها تناصر هذا التنظيم علناً، فقد فاض "الحس الوطني" في عروق المصريين دفاعاً عن دولتهم، التي ستستخدم بعض الوسائل الخشنة لحماية نفسها من الأعداء... وفي الطريق سيتم تأجيل "الحلم الديمقراطي" إلى أجل غير منظور.

* كاتب مصري

back to top