حتى نرى الجمال من جديد!

نشر في 19-10-2014
آخر تحديث 19-10-2014 | 00:01
 د. ساجد العبدلي منذ أيام كنت موجوداً في سنغافورة، فطلبت من صديقي "جون" وهو مصور ومعلم تصوير محترف، يمكن التعرف عليه أكثر من خلال موقعه (www.johnarifin.com)، أن يأخذني إلى أماكن مميزة لالتقاط الصور، فقصدنا الكثير من الأماكن الجميلة مشياً على الأقدام، وذلك في مسير تجاوز العشرة كيلومترات، انتهى ليلتها باستغراقي في نوم عميق لم يمر علي مثله!

أحد الأماكن التي قصدناها كان شرفة تطل من الدور السابع والعشرين، إن لم تخني الذاكرة، لأحد المباني السكنية في الحي الصيني، وصلنا إلى الموقع قبيل غروب الشمس بدقائق قليلة، فنصبنا حوامل الكاميرات، وشرعنا في البحث عن الزوايا المناسبة عبر الشرفة، والتقاط الصور الاختبارية مع تجربة مختلف الإعدادات، بانتظار اللحظات المناسبة للتصوير.

أثار مشهدنا ونحن منهمكون في عملنا انتباه ساكني تلك البناية، فتجمهروا وأخذوا يحيطون بنا من كل جانب، وما أثار انتباهي حينها أنهم لم يكونوا مهتمين بنا وبما معنا من معدات مختلفة بقدر اهتمامهم بالبحث عن المشهد الذي كنا نستعد لتصويره، فأخذوا ينتظرون معنا لاكتشاف الأمر. دخلت اللحظات المناسبة، فشرعنا بالتصوير، وأخذنا نشركهم في كل مرة بمشاهدة ما نلتقطه ويظهر على شاشات الكاميرات، من باب شكرهم لاستضافتنا في شرفة بنايتهم، وهم منبهرون بجمال ما يرون، واستلوا بدورهم هواتفهم "الذكية" المزودة بالكاميرات الرقمية ذات الجودة العالية، وأخذوا يلتقطون الصور للمشهد نفسه!

في الحقيقة أننا لم نكن نهدف إلى تصوير شيء محدد، إنما تصوير المشهد العام الذي تطل عليه الشرفة في وقت الغروب، وهو ما اكتشفه ساكنو البناية في تلك اللحظة، وهو نفسه المشهد الذي كان يمر عليه بعضهم يوميا لعشرات السنوات الماضية من عمره دون أن يوليه أي انتباه. يومها قلت لصديقي جون: هل شاهدت كيف تجمهروا عند الشرفة وكأنهم يرون مشهد الغروب ولمعان أضواء مدينتهم في الأفق في ذلك التوقيت لأول مرة في حياتهم؟!

هكذا يكون أغلب الناس في هذه الحياة يا أصدقائي، ننشغل في الدوران في عجلتها فتأخذنا الانشغالات عن الانتباه والتوقف ولو للحظات لرؤية الأشياء الجميلة من حولنا، وتصبح المشاهد مألوفة فتذوب وتبهت ألوانها وتفاصيلها حتى تتلاشى عن أعيننا أو تكاد، فلا نعود نحس بها ناهيك عن أن ندرك جمالها.

كتبت منذ فترة ليست بالقصيرة مقالا حول قصة عازف الكمان الشهير، جوشوا بيل، الذي هو أحد أشهر وأفضل الموسيقيين في العالم، حين جلس في إحدى محطات المترو في واشنطن، وأخذ يعزف واحدة من أبدع وأهم المقطوعات الموسيقية العالمية لتمر عليه الساعات دون أن يوليه أحد أي اهتمام أو حتى انتباه، وتساءلت يومها: هل لدينا القدرة على استشعار الجمال من حولنا بعدما نألفه في روتين الحياة؟ وهل نعطي أنفسنا الفرصة للتوقف لتقدير الجمال؟ وهل نستطيع أن نميز ونكتشف الموهبة والإبداع في مكان غير متوقع؟ والسؤال الأهم: إذا لم يكن لدى الناس الوقت للوقوف لحظة، وسماع أعظم عزف لواحدة من أجمل المقطوعات الموسيقية في تاريخ الفن، فكم من الأشياء الجميلة الأخرى التي نمر بها دون وعي، ودون أن نشعر بقيمتها، ودون أن نفيها حقها؟! (يمكنكم قراءة المقال من خلال البحث في غوغل عن "فتش عن الطفل في نفسك").

كلنا، وأنصح نفسي أولا، بحاجة لأن يوقف نفسه عنوة عن هذا الجري المحموم في رحى هذه الحياة الطاحنة، حتى يسعه أن ينتبه لما حوله من أشخاص وأشياء وأماكن، وحينها سيكتشف كم هو مقدار الجمال المحيط به والذي كان قد ضاع منه واختفى!

back to top