الإيبولا... رعب يفوق الخيال!

نشر في 25-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 25-09-2014 | 00:01
No Image Caption
مع تفشي وباء الإيبولا في غرب إفريقيا وخروجه عن السيطرة وإصابته آلاف الناس في ليبيريا وسيراليون وغينيا وتهديده آلافاً آخرين، كان رد فعل العالم بطيئاً وجامداً ومميتاً. في الأسابيع الأخيرة فقط، بدأ رؤساء الدول يتعاملون مع المشكلة بجدية. حتى اليوم، قتل الفيروس أكثر من 2600 شخص. إنه عدد صغير نسبياً عند مقارنته بالأمراض الأكثر ترسخاً مثل الملاريا والإيدز والإنفلونزا وغيرها.
 دفعت عوامل عدة بعدد من كبار الاختصاصيين في مجال الصحة في العالم إلى الشعور بقلق شديد حيال الإيبولا:

• معدل الوفيات: خلال هذه الموجة من المرض تحديداً، تشير الإحصاءات إلى موت %54 من المصابين، مع أن الأعداد المعدّلة تشير إلى أن النسبة هي أعلى بكثير.

• النمو النسبي: في هذه المرحلة، بدأ عدد المصابين يتضاعف كل ثلاثة أسابيع تقريباً، ما جعل بعض علماء الأوبئة يتوقعون أن يتراوح عدد الحالات بين 77 و277 ألف في نهاية عام 2014.

• فظاعة طريقة القتل: يخترق الفيروس الخلايا ويتنقل في أنحاء الجسم لإصابة جميع الأعضاء، ما يجعل الضحايا ينزفون بشدة.

• سهولة نقل العدوى: من خلال الاحتكاك بسوائل الجسم، بما في ذلك العرق والدموع واللعاب والبول والمني.... وحتى لمس الأغراض التي احتكّت بسوائل الجسم (مثل شراشف السرير، الملابس، الإبر) والجثث.

تهديد الطفرات: عبّرت شخصيات بارزة عن مخاوف جدية من احتمال نقل المرض عبر الهواء، وتتعدد الآليات الأخرى التي يمكن أن تستعملها الطفرة لجعله معدياً.

رغم الرعب الذي تبثه هذه العوامل، لم يتضح لي ما إذا كان أيٌّ منها يعكس الجانب المأساوي الحقيقي للمرض.

الأمر الصادم في شأن الفيروس هو طريقة انتشاره. صحيح أنه ينتقل عبر سوائل الجسم، لكنّ الاكتفاء بالتركيز على هذا الجانب يعني تجاهل الظروف التي تسهّل الاحتكاك الجسدي. تبدو الآلية التي يستعملها فيروس الإيبولا أكثر خطورة. يبحث الفيروس عن الرعاية والحب فيستهدف أعمق الفضائل البشرية وأكثرها تميّزاً. يكون المصابون في معظمهم من الأطباء المحترفين وأفراد العائلة، فيلتقطون عدوى الإيبولا خلال الاعتناء ببشر آخرين. أكثر ما يثير الصدمة أن %75 من ضحايا الإيبولا هم من النساء: إنهم الأشخاص الذين يقدمون أوسع حملات الرعاية في أنحاء إفريقيا وبقية مناطق العالم. باختصار، الإيبولا تتطفّل على إنسانيتنا.

أكثر من معظم الأمراض الوبائية (ملاريا، كوليرا، طاعون...) وأكثر من الأمراض المتناقلة عبر الهواء (زكام، إنفلونزا الخنازير، {إتش 5 إن1}) والتي تصيب الجميع من دون انحياز، يمر المرض بكميات دقيقة جداً من سوائل الجسم. يمكن أن يلتقط الشخص الذي يقدم الرعاية العدوى عبر احتكاك بسيط بشخص مصاب.

تبدو الصور الآتية من إفريقيا مرعبة: فتيان صغار متروكون وحدهم في الشارع من دون أهلهم، فيرتجفون ويمرضون من دون أن تلمسهم حشود الناس من حولهم؛ رجال ناضجون يرتجفون على باب المستشفى ويأملون الحصول على الرعاية اللازمة فيما يقف أهلهم عاجزين ويتساءلون كيف يمكن أن يقدموا المساعدة؛ آباء وأمهات يحاربون الضعف والإرهاق للانتقال نحو طرف خيمة لمشاهدة لمحة بعيدة وأخيرة من فيديو حضّره أولادهم حيث يتمنون لهم الشفاء العاجل.

إذا لم يتم ردع الإيبولا، قد يدمر المرض عائلات كاملة خلال شهر، ثم سيطاول أقارب تلك العائلات ثم أصدقاء هؤلاء الأقارب بعد فترة قصيرة وهكذا دواليك.

يحاربون بكل يأس

يعمل أعضاء فِرَق الإغاثة الآن بكل حذر على فك هذه الروابط، فهم يحاربون بكل يأس الميول الطبيعية التي تدفع الناس إلى حب المرضى والاعتناء بهم. لقد أطلقوا حملات توعية مكثفة، ووزعوا معلومات مستحدثة على نطاق واسع، وطلبوا معدات وأجهزة إضافية، واستدعوا الجيش، وحاولوا كبح الهستيريا السائدة واتخذوا تدابير أخرى. لكن لا يمكن أن يعيق أي حاجز من البلاستيك أو اللاتكس هذه الميول البشرية.

من الشائع في هذه الأيام أن نركز على الأعمال السخيفة للبعض. يُقال إن سيراليون تشمل معالِجة تقليدية وهي تخبر الناس بأنها تستطيع معالجة الإيبولا. قبل بضعة أسابيع في مونروفيا، اقتحم مواطنون غاضبون إحدى العيادات وأخرجوا المرضى من قسم الرعاية. قيل إنهم راحوا يهتفون {لا وجود للإيبولا!}. في الفترة اللاحقة، نشرت أكبر صحيفة في ليبيريا مقالة تشير إلى أن الإيبولا هي مؤامرة من نسج الولايات المتحدة بهدف إضعاف إفريقيا. لكنّ الأمر المؤسف على الأرجح أن فريقاً من العاملين في مجال الصحة والصحافة تعرض للقتل الوحشي في غينيا. بعبارة أخرى، يسهل أن ننسب تفشي المرض إلى الغباء أو الأمية أو الطقوس التقليدية أو نظريات المؤامرة أو أي عدد من العوامل غير المنطقية.

لكن تخيّل للحظة أنك أب وأن ابنك مرض فجأةً وأصيب بالحمى. هل تنبذ ابنك وترفض لمسه؟ هل تغطي وجهك وذراعيك؟ هل تطلب منه أن يتراجع لأنه قذر؟ أم أنك تواسي ابنك حين يناديك فاتحاً ذراعيه ويطلب منك أن تجعل الألم يزول؟

تخيل أنك تعيش في منزل مع خمسة أفراد آخرين من العائلة. ثم تمرض شقيقتك وتصاب على ما يبدو بعدوى الإيبولا، أو ربما الملاريا أو التيفوئيد أو الحمى الصفراء أو الإنفلونزا. أنت تدرك الخطر المحيط بك وبأفراد عائلتك الآخرين، لكنك لا تملك أبسط الوسائل لنقلها، وهي أضعف من أن تتحرك وحدها. ما العمل في هذه الحالة؟

تخيل أنك طفل في الخامسة من عمره ووالدتك مريضة. تتوسل إليك كي تبتعد عنها. لكنك خائف. كل ما تحتاج إليه هو معانقتها والبكاء.

من يمكن أن يلوم الناس على هذا السلوك؟ إنها معضلة مريعة وفظيعة. إنها معضلة أخلاقية. هل يجب ملازمة المكان ومواساة المصابين ومنح الحب والرعاية لجميع المحتاجين أم يجب صدّهم وعزلهم أو حتى عدم رؤيتهم مجدداً؟ يا له من قرار غير إنساني!

ما يجعل فيروس الإيبولا مرعباً لهذه الدرجة ليس معدل الوفيات أو نموه النسبي أو طريقته المشينة في قتل الناس أو سهولة انتقال العدوى أو تهديد الطفرات، بل إن الأشخاص الذين يهتمون بغيرهم لا يستطيعون فعل شيء عدا الجلوس على الهامش ومراقبة تفاقم الوضع.

تهديد

تساءل كثيرون إذا كان فيروس الإيبولا سيصل إلى الغرب (إنها مقاربة مريعة، وكأننا نقول {لا داعي للقلق في شأن أي مأساة ما لم تطرح تهديداً مباشراً علينا}). حصلنا على تطمينات بأن المرض لن ينتشر على نطاق واسع هناك، لأن شبكات الصحة العامة قوية جداً والمستشفيات مجهّزة بما يكفي. قد يكون الأشخاص الذين يطمئنونا محقين في هذا الشأن. لكنهم ليسوا محقين حين يقولون إن المرض لا يطرح تهديداً علينا.

لكن تخيل أنك أب وأن ابنك مرض فجأةً وأصيب بالحمى. هل ستنبذ ابنك؟

في المقام الأول، ورغم جميع الادعاءات، الغرب ليس محصناً من التفكير السخيف وغير العلمي. لدينا ما يكفي من الجهل العلمي والشكوك والطقوس الغريبة والغباء. لكن عدا ذلك، يبدو أن القواسم المشتركة بيننا، وليس اختلافاتنا، هي التي تجعلنا ضعفاء أمام هذا الوباء. نحن بشر. ويبدو أن فيروس الإيبولا يستهدف كل آلية نملكها للرعاية (اللمس، المعانقة، الإطعام، اللعب، الدفء، المواساة، المداعبة) وكل آلية نستعملها للارتباط بعائلاتنا وجيراننا. لا يمكن أن نحجز أنفسنا داخل غرف معزولة ونتوقع أن تنتهي المجزرة من تلقاء نفسها عند خروجنا. نحن بشر ومن الطبيعي أن نهتم بأولادنا وعائلاتنا، حتى لو عنى ذلك أننا قد نموت للقيام بذلك.

دروس

الدرس الذي يمكن استخلاصه في هذا المجال محوري: الناس لا يتخلون عن الإنسانية بهذه السهولة. حتى لو أقنعنا جميع الشعوب بالتخلي عن طقوس مثل غسل الموتى، لن نقنع الأهالي بسهولة بضرورة الامتناع عن معانقة أولادهم المرضى، ولن نستطيع منع الأولاد من الالتصاق بأهلهم المرضى أو من اللعب والعراك والاحتكاك ببعضهم. حاولنا تغيير تلك السلوكيات مع مرض الإيدز. بدا وكأن مقولة بسيطة كانت تكفي لوقف ذلك المرض: {يكفي أن تتخلى عن إقامة علاقة مع المصابين بالمرض}. لكننا تعلّمنا على مر العقود أن الناس لا يتخلون عن الجنس بهذه السهولة.

إذا كنت تظن أن تقليص النشاط الجنسي صعب، سيكون تقليص مظاهر الحب والتعاطف أصعب بكثير. لن يتخلى البشر عن هذه المشاعر مطلقاً: لا يمكن أن نتخلى عنها لأنها جزء أساسي من هويتنا. تبدو المشكلة مزدوجة. تهدد عدوى الإيبولا الإنسانية من خلال قتل الإنسانية. يقضي أبسط حل بأن ندمر الإنسانية بنفسنا، أي عزل كل شيء وترك المرض ينطفئ من تلقاء نفسه. لكنّ القيام بذلك يعني تدمير الذات لإنقاذ الذات، وهو ليس حلاً بأي شكل.

يجب أن نجد طريقة لتقديم الرعاية من دون لمس أو احتكاك مباشر. تبقى الحواجز الفيزيولوجية ضرورية في الوقت الراهن. لكن لا يمكن أن نمنع الناس من الاهتمام ببعضهم، لذا يجب أن نبتكر في هذه المرحلة آليات للرعاية. بما أننا لن نتمكن مطلقاً من استرجاع الإنسانية، يجب أن ننسق النشاطات الإنسانية داخل العائلة وعلى المستوى المحلي والعالمي.

الطريقة الوحيدة لمحاربة المرض الذي يتطفل على إنسانيتنا هي إغراقه بموجة أكبر من الإنسانية. يجب تحصين إفريقيا وبقية أجزاء العالم بجرعة من الإنسانية على أن تكون قوية بما يكفي كي تمنع ترسّخ المرض. للتغلب على هذا الفيروس، لا بد من تحويل أقوى قناة فيه وأقوى سلاح لدينا ضده.

خطوات يمكن اتخاذها لمواجهة المرض:

التبرع لمنظمات بارزة تعمل بلا كلل للسيطرة على هذا المرض. تحتاج إلى متطوعين وإمدادات طبية ومنشآت ووسائل نقل وأغذية...

تقاسم المعلومات عن فيروس الإيبولا كي يعلم الناس عنه ويعرفوا طريقة التعامل معه عند انتشاره.

إبلاغ الآخرين ومساعدتهم. في وقت الأزمة، من الطبيعي أن ندعو إلى إغلاق الحدود وبناء الأسيجة والجدران التي تفصلنا عن التهديدات الخارجية. لكن لا يسهل عزل مرض يجتاح الإنسانية بهذه الطريقة. كل ما تفعله مقاربة العزل هو إنشاء بقع غير محصنة من الإنسانية وبث الانقسامات بيننا وبينهم: عائلتي وعائلتك؛ هذه القرية وتلك القرية؛ الداخل والخارج.

ملاحظة

حين قام {برينس بروسبيرو}، بطل قصة إدغار آلن بو، {قناع الموت الأحمر} (The Masque of the Red Death)، بحجز نفسه في قصره لتجنب العدوى التي اجتاحت بلده (مرض سبّب {نزيفاً غزيراً في المسام})، كان مخطئاً حين افترض أن الحل المنطقي الوحيد لمشكلته يقضي بالانسحاب من الساحة. فعاش ببذخ طوال أشهر وكان محاطاً بحاشيته وبالمستشارين والمهرجين والموسيقيين، فابتعد عن مصادر الخطر في حين كان الوباء يستفحل في الخارج.

كما في معظم مؤلفات بو، لن تكون نهاية قصة بروسبيرو سعيدة. طوال ستة أشهر، كان الوضع هادئاً. استمتع هو وحاشيته بحياتهم بكل أمان وعزلوا أفسهم عن الوباء الذي اجتاح الأرياف. لكن خلال حفلة تنكرية، تسلل {الموت الأحمر} إلى القصر واختبأ وراء قناع ورداء وأصاب بروسبيرو والمحتفلين، فأوقعهم واحداً تلو الآخر في {القاعات المغمّسة بالدم}. كان أمن بروسبيرو ظاهرياً، ما سمح للظلام والفساد بترسيخ {هيمنة غير محدودة على الجميع}. أما التسلل اللاحق الذي كان سيقضي عليه، فهو ينذر بمخاطر أن نظن أننا نستطيع تجنب مشاكل العالم من خلال الابتعاد عنها.

إذا كنا نبحث عن الأمان من خلال عزل أنفسنا عن بقية أجزاء العالم، فلا شك في أننا سنصطدم بواقع بشع ووحشي. الطبيعة قاسية لكن تبقى عدوى الإيبولا حيلتها الأكثر وحشية وخداعاً على الإطلاق.

back to top