جرائم الحرب الإسرائيلية في غزّة ... يوميات عائلة مفجوعة

نشر في 27-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 27-08-2014 | 00:01
خلال أسبوع كامل، احتُجز ثمانية أشخاص من العائلة ذاتها، من نساء وأطفال ومسنين، داخل منزلهم في غزة. لم يتمكنوا من المغادرة ولم يستطع أحد مساعدتهم. قبل ساعة من وقف إطلاق النار، مُسحت العائلة عن وجه الأرض رغم اتصالها بأكثر من جهة متوسلةً النجدة وذلك بسبب القصف الإسرائيلي الهمجي. «شبيغل» خطّت يوميات رحلة العائلة المنكوبة  نحو الموت المشؤوم تحت أنظار عالمٍ لا مبالٍ.

كان زكي وهدان يبحث عن رأس... أو جثة... أو أشلاء ثمانية أشخاص يُفترض أن يكونوا هناك: الشقيقان الصغيران، الجدان، الأم، الشقيقتان، وابنة الأخت الصغيرة. وجد حتى الآن 13 ساقاً مع أقدام صغيرة وأخرى كبيرة. لكن كيف سيتمكن من التعرف إلى هوية الأشخاص استناداً إلى هذه الأقدام التي اسودّت بفعل التراب والدم؟

وقف زكي على أنقاض منزل والديه وتجول في المساحة التي كانت سابقاً غرفة المعيشة. لا بد من وجودهم في مكان ما من تلك النقطة، تحت المراتب الممزقة والملابس ودراجة الأطفال وأطنان من الإسمنت. هم قريبون جداً لكن لا يستطيع زكي الوصول إليهم. لو لم يعتقله الجيش الإسرائيلي، كان لينتهي به الأمر هو أيضاً في مقبرة الإسمنت هذه.

يأتي زكي وأشقاؤه الكبار إلى جبل الركام هذا كل يوم. وفق التقاليد الإسلامية، يجب دفن الجثث في أسرع وقت ممكن. لكن مرَّ أسبوعان تقريباً على وجودها تحت الأنقاض. تفوح في المكان رائحة الموت وتحوم حشرات حول الموقع. تجوّل زكي بين الركام ولم يعرف ما يجب فعله. بدا زكي، بوجهه العريض والطيب، كطفل أكبر من عمره. في عمر التاسعة عشرة، عاد ليصبح الابن الأصغر مجدداً. لكن ما معنى أن يكون الفرد ابناً إذا فقد والدَيه أو جدَّيه؟

سحب زكي قضباناً حديدية وحرّك قطعاً من الإسمنت. هل يجب أن يحفر بيديه؟ لا نفع من ذلك. يحتاجون إلى آلات الحفر لكنها كانت تُستعمل كلها في أماكن أخرى. اختفت أحياء كاملة في بيت حانون الواقعة في الزاوية الشمالية الشرقية من قطاع غزة. هُدم كل شيء في مكان إقامة عائلة  وهدان. كانت هذه العائلة تملك 14 مبنىً وقد أقام فيها 200 شخص منذ أربعة أسابيع. لم يبقَ شيء الآن إلا كومة واحدة من الأنقاض. نجد وراءها أرضاً قاحلة، وتقع الحدود مع إسرائيل على بُعد كيلومتر فقط. تمتد بيت حانون إلى داخل إسرائيل ويقع حي البورة الذي كانت عائلة وهدان تقيم فيه على طرفها.

اعتاد سكان بيت حانون (50 ألف نسمة) على الدبابات الإسرائيلية التي تجتاح البلدة. لكن أصبح هذا المكان الآن من أسوأ ساحات المعارك في هذه الحرب. مات نحو 91 شخصاً هناك، من بينهم 23 طفلاً و22 امرأة، فضلاً عن ثمانية أفراد من عائلة وهدان.

عنف غير متكافئ

وفق مصادر الأمم المتحدة، كان 85% من القتلى في قطاع غزة من المدنيين مع أن إسرائيل لا تعترف بأكثر من 60%. لكن ماذا تكشف هذه الأرقام فعلياً؟

ما حصل لعائلة وهدان مجرد حدث جانبي من فصول هذه الحرب حيث قُتل أكثر من ألفَي شخص. لكنه يفسر أيضاً كيف يتحول المدنيون الأبرياء إلى ضحايا الصراعات. يقدم مصير عائلة وهدان أجوبة عن سؤال متداول بين كثيرين: هل كانت هذه الحرب متكافئة؟

تحدثت صحيفة {شبيغل} مع أفراد العائلة وأصدقائها وجيرانها، ومع ناشطين في جمعيات حقوق الإنسان الفلسطينية، ومع عقيد في الجيش الإسرائيلي. أكد الجميع على تفاصيل عدة لكن لم يشأ الجيش أن يعلّق على مصير تلك العائلة بشكل خاص. استناداً إلى هذه التصريحات، وبفضل سجلات الدردشة، يمكن تصوّر الأيام الأخيرة من حياة ثمانية أشخاص قُتلوا في بيت حانون.

نتيجة المعطيات المتوافرة، يبدو أن الجيش الإسرائيلي تقبّل، عن سابق معرفة، أن تموت عائلة وهدان في هذه الحرب. تعرّض منزل العائلة للقصف، مع أن الجيش الإسرائيلي يُفترض أن يعرف بوجود رجل مسنّ وثلاثة أولاد وأربع نساء في الداخل. قُتلوا لأنهم عجزوا عن الهرب ولأنهم كانوا سجناء في منزلهم.

تحصل الأخطاء في الحرب وغالباً ما يسقط المدنيون عن غير قصد. ربما ارتكب أحد الأشخاص خطأً حين ألقى القنبلة. لكن هل يمكن أن تكون وفاة ثمانية أشخاص مجرد غلطة؟ متى تعبّر هذه الحوادث عن الإهمال؟ ومتى تدخل في خانة جرائم الحرب؟

8 يوليو – بدء الحرب

غادر معظم أفراد عائلة وهدان منازلهم قبل بدء العملية المعروفة في إسرائيل باسم {السور الواقي}. سرعان ما اضطرب الوضع وبدأ الجيش يطلق النار من الحدود. لكن مثل فلسطينيين كثيرين، لم يكن جدّا زكي مستعدَين لمغادرة المنزل الذي عاشا فيه طوال عقود. كان ذلك المنزل أثمن ما يملكان، وهو عبارة عن مبنى أبيض يتألف من ثلاثة طوابق وفيه غرف كثيرة كي يسع مختلف أفراد العائلة الكبيرة. في الخلف، حديقة فيها شجر زيتون وخلايا نحل.

لم يسبق أن وقعت أحداث طارئة. بقي أفراد عائلة وهدان في منزلهم خلال الحربين السابقتين في غزة. شعروا بالأمان لأنهم كانوا قريبين جداً من الحدود. لطالما كانوا تحت أنظار الجانب الإسرائيلي وكانت الطائرات بلا طيار تحلّق فوقهم. لم يطلق أحد أي صواريخ من البورة حيث كانوا يعيشون. كان أفراد عائلة وهدان يظنون أن الجنود يعلمون أنهم أشخاص سلميون ويهتمون بشجر البرتقال أكثر من السياسة، فقد كانوا ينشغلون بتربية النحل أو يعملون في مجال البناء، وبقي معظمهم عاطلاً عن العمل. كان أفراد تلك العائلة يعتبرون قطاع غزة الصغير كبيراً بالنسبة إليهم، لذا نادراً ما كانوا يغادرون بيت حانون.

تغير الوضع حين بدأت الحرب في 8 يوليو. في اليوم الأول، أطلقت حركة {حماس} 158 صاروخاً على الأقل نحو إسرائيل، وهاجم الإسرائيليون 223 هدفاً في غزة. كانت القنابل تنهمر على بيت حانون يومياً. أدرك أفراد عائلة وهدان الذين لازموا مكانهم أن الوضع زاد خطورة الآن وهو لا يسمح لهم بالمغادرة. كما أنهم لم يعرفوا إلى أين يذهبون. تعرضت غزة كلها للقصف ولم يعد أي مكان آمناً.

تواجد 15 شخصاً في المنزل حينها: الجد زكي وزوجته سعاد، وهما في منتصف  الستينات، والأب حاتم (51 عاماً)، والأم بجدات (50 عاماً)، وستة من أبنائهما: الولدان الأصغران حسين (10 سنوات) وأحمد (14 سنة)، فضلاً عن زكي (19 عاماً) ومحمد (20 عاماً) وبهجت (29 عاماً) ورامي (30 عاماً)، والابنة صمود (22 عاماً) مع ابنتها غنى (سنة ونصف). تواجد اثنان من أشقاء الأب هناك أيضاً.

كانت شقيقة زكي، زينب (27 عاماً)، آخر فرد يدخل إلى المنزل. كانت تعمل كخبيرة تقنية في مجال الطب في مستشفى قريب داخل بيت حانون حيث أمضت ثلاثة أيام وهي تعتني بالجرحى وتفحص عينات الدم. عادت إلى المنزل حينها كي تستحمّ وترتاح قليلاً. زينب واحدة من أفراد العائلة القلائل الذين يجنون راتباً ثابتاً، وكانت تتولى دفع تكاليف أدوية والدها المصاب بالسرطان. كانت تحلم بمغادرة غزة والتوجه إلى مصر لنيل شهادة ماجستير. كانت تحب الموسيقى الشعبية العربية وكان شقيقها زكي الذي يعيش في المنزل يعمل حيناً في مجال البناء ويتلقى أحياناً المال من والده.

بدا الشقيقان زكي وزينب متشابهين: كانا أعزبَين وسعيدين ويحبان الحياة. تربّيا في غزة وشهدا حربين لكنّ شيئاً لم يحضّرهما لما كان سيحصل في المرحلة اللاحقة.

17 يوليو – الهجوم البري

عشية يوم 17 يوليو، كان زكي وشقيقه أحمد يشاهدان قناة {الأقصى} التابعة لحركة {حماس}. لم يكن الشقيقان ينتميان إلى {حماس}، لكن كانت قناة {الأقصى} وحدها تبث التقارير حول القتال والجنازات والمباني المدمرة على مدار الساعة. قال أحمد الصغير كما تذكّر شقيقه لاحقاً: {في مرحلة معينة، ستسحبون جثتي أنا من تحت الأنقاض}. ثم بدأ يبكي. بعد ذلك، أعلنت إسرائيل عن بدء الهجوم البري. فظهر متحدث باسم {حماس} على قناة {الأقصى} ليعلن أن الجنود لن يدوسوا أرض غزة.

توجهت الدبابات نحو البورة في عشية اليوم التالي بعدما اشتبه الجيش بوجود أنفاق تقود إلى الحدود تحت الأرض. أسقط الجنود المنشورات مسبقاً وبدأوا في تلك المرحلة يستعملون مكبرات الصوت كي يأمروا السكان بالمغادرة. هرب الناس بسرعة من دون أخذ شيء معهم. لكن كان القتال قد بدأ حول منزل عائلة وهدان. كان الأوان قد فات. لقد فوّتوا آخر فرصة للهرب.

قال زكي إن العائلة اتصلت باللجنة الدولية للصليب الأحمر. كانوا يعلمون أن الصليب الأحمر يستطيع مساعدتهم لتنسيق عملية إجلائهم مع الجيش الإسرائيلي. لكنهم لم يدركوا أن حيّهم أصبح الآن ضمن منطقة عسكرية مغلقة. قُتل عشرات المقاتلين من {حماس} هناك خلال الأيام اللاحقة، وسقط ثلاثة جنود إسرائيليين. هذا ما يفسر على الأرجح استحالة إجلاء عائلة وهدان بحسب رأي أفراد العائلة الذين بقيوا على قيد الحياة. يتبع الصليب الأحمر سياسة عدم التعليق على الحالات الفردية.

في الساعة العاشرة و34 دقيقة مساءً، تلقت زينب وهدان، الابنة الكبرى، الرسالة النصية التالية من صديقتها المقربة ضحى عطاالله (26 عاماً): {هل أنت بخير؟ أين أنت؟}. فأجابت زينب: {أنا في الجحيم. لقد وصلوا الآن}.

ضحى: {لماذا لم تغادري؟ هل صحيح أن الدبابات تطلق النار في مكان قريب منكم؟}. أجابت زينب فوراً. كان ذلك الرد آخر جواب تكتبه خلال الأيام الستة اللاحقة: {نعم، القصف قريب. لم نتمكن من مغادرة المنزل. كيف نستطيع ذلك؟ يقصفون عشوائياً. سئمتُ من هذا الوضع. يجب أن يتوقفوا. كيف حالك أنت؟}.

{هل يجب أن نبدأ بالصلاة؟}

كتبت ضحى: {نحن أفضل حالاً. سمعتُ أن جميع سكان بيت حانون لجأوا إلى المدارس}. في تلك الليلة نفسها، قبل بزوغ الفجر مباشرةً، أحدث الجنود الإسرائيليون حفرة في جدار الحديقة وحطموا الباب الأمامي. ثم صرخوا باللغة العربية: {تعالوا جميعاً إلى هنا! سنطلق النار على كل من يختبئ في المنزل!}.

حين طرحت صحيفة {شبيغل} الأسئلة على العقيد الإسرائيلي المسؤول عن العمليات في بيت حانون، أكد أن الجنود سيطروا على المباني في أحياء مختلفة: {منذ لحظة دخولنا إلى البورة، اقتحمنا المنازل أيضاً}. استعمل الجنود المنازل كقاعدة لهم، وكانوا يقيمون هناك في العادة لبضعة أيام. وفق العقيد الإسرائيلي، لا يُفترض أن يحتلوا المنازل التي يسكن فيها المدنيون، لا سيما لفترات أطول، {لكن يمكن أن يحصل ذلك!}.

بعد أسبوعين، سرد زكي (19 سنة) ما حصل داخل المنزل في ذلك اليوم الأول. راح أشقاؤه يصححون له ما يقوله ويضيفون بعض التفاصيل إلى القصة أحياناً.

أمسك الجنود بالجدّ واستعملوه كدرع بشري ودفعوه من غرفة إلى أخرى وألقوا البنادق الهجومية «إم-16» على كتفه فيما راحوا يبحثون عن المقاتلين والأسلحة. يقول زكي وأشقاؤه إنهم لم يجدوا شيئاً. ثم عمدوا إلى تفتيش رجال العائلة وتكبيلهم وعصب عيونهم وصادروا هواتفهم الخلوية. وحدها شقيقتهم زينب نجحت في إخفاء هاتفها الذي كان الرابط الوحيد بين العائلة والعالم الخارجي خلال الأيام الستة اللاحقة. هكذا أصبح أفراد عائلة وهدان أسرى في منزلهم واشتدّ إطلاق النار في كل مكان.

قال زكي إن العائلة تلقّت أمراً بالبقاء في قاعة المدخل التي لا تشمل إلا سجادة قديمة على الأرض. كانت إحدى الآيات القرآنية معلّقة على الجدار وهي تدعو إلى حماية المنزل وساكنيه. نام الجنود على المراتب في غرفة المعيشة ووضعوا بنادقهم إلى جانبهم. تمركز القناصة على السطح وحطم الرجال النوافذ والأبواب وأحدثوا حفراً في الجدران كي ينتقلوا من منزل إلى آخر.

في فترة بعد الظهر من ذلك اليوم نفسه، سيق جميع الرجال الراشدين، باستثناء الجد، إلى إسرائيل للاستجواب. بحسب زكي، أُجبر سبعة رجال بعد عصب عيونهم على ركوب مركبة مدرّعة في الساعة الثانية من بعد الظهر. تم اصطحابهم إلى السجن في عسقلان الواقعة على بُعد 15 كلم من شمال غزة. يؤكد الجيش الإسرائيلي على أنه استجوب عشرات الرجال من البورة في إسرائيل، لكنه ليس مستعداً للتعليق على أي حالات فردية.

لازم الآخرون مكانهم. هكذا انفصل زكي وزينب. لم يعلما أنهما لن يتقابلا مجدداً. كتبت زينب في صفحتها على فيسبوك: {ليرحمنا الله!}.

20 يوليو – الاعتقال

خضع زكي للاستجواب طوال ثماني ساعات في عسقلان. هل كان عضواً في {حماس}؟ هل يعلم مكان الأنفاق؟ الإسرائيلي الذي استجوبه أطلق على نفسه اسم {أبو داود}. كان يتحدث اللغة العربية ويعلم الكثير عن الإسلام وقد أحسن معاملة زكي مع أن الأصفاد كانت تؤلمه. حصل السجناء على السندويتشات والماء. نظراً إلى غياب الأدلة التي تدين أفراد عائلة وهدان، أرسلهم الجنود مجدداً إلى غزة في اليوم الثالث. عاد زكي وشقيقه ووالده وأعمامه إلى غزة عبر معبر {إيرز}. أرادوا العودة إلى منزلهم لكن قال لهم الفلسطينيون الذين قابلوهم في {إيرز}: هل أنتم مجانين؟ لا أحد يصل إلى بيت حانون ويبقى حياً!

فذهبوا للإقامة مع الأقارب في مدينة غزة. حاول زكي التواصل مع شقيقته زينب التي بقيت في المنزل لكنها أطفأت هاتفها الخلوي. حين تواصلت مع شقيقها في اليوم التالي، قالت إن الجنود لا يزالون هناك ولم يبق لهم ما يشربونه وقد تدمّر خزان الماء لديهم.

كانت زينب تتصل كلما استطاعت من الحمّام أو حين تطبخ، وقد سمح لها الجنود بذلك في الأيام الأولى. كانت تخشى أن يصادروا هاتفها الخلوي أو أن تنفد بطاريته بسبب انقطاع الكهرباء. كانت تتحدث لأقل من دقيقة ثم تقطع الاتصال فوراً.

في 24 يوليو، قُتل 16 شخصاً حين أطلق الجيش قذائف الهاون على مدرسة تابعة للأمم المتحدة في بيت حانون. تقدمت الدبابات نحو البلدة حيث فتّش الجنود دار البلدية ودمروا الحواسيب وسحبوا محركات الأقراص الصلبة وأخذوها معهم.

لا يمكن استرجاع ما حصل في منزل عائلة وهدان خلال تلك الأيام إلا من خلال اتصالات زينب وكتاباتها على فيسبوك.

في يوم استهداف مدرسة الأمم المتحدة، كتبت زينب على فيسبوك: {احتُجزنا في الداخل مع الجيش الإسرائيلي في الأيام الخمسة الأخيرة. صلوا معنا كي ينتهي هذا الوضع قريباً}.

سألتها صديقتها ضحى: {لماذا لم تغادري مثل الجميع؟}. فأجابت: {لم نستطع المغادرة. نحن وحدنا هنا}. كتبت ضحى: {لا تدعيهم يرونك وأنت تستعملين الهاتف الخلوي. اعتني بنفسك وحاولي التواصل مع الصليب الأحمر}.

كانت زينب مضطربة بحسب قول زكي. راح صوتها يضعف في كل مرة تحدث معها. قالت له في إحدى المرات: {ننتظر دورنا كي نموت}.

في الساعة الثانية إلا ربع من بعد الظهر، كتبت ضحى: {زينب، أين أنت؟ الجميع يبحثون عنك! أشعر بالقلق. أرجوك شغّلي هاتفك!}.

{لا أحد يساعدنا}!

بعد مرور أكثر من ساعة تقريباً، أجابت زينب: نحن محتجزون. الوضع مريع. لا أستطيع تشغيل الهاتف. لا أستطيع أن أحتفظ بالهاتف معي بعد الآن}. أجابت ضحى: {توخي الحذر واعتني بنفسك! لا تخافي!}.

في الرابعة والنصف من اليوم التالي، كتبت ضحى: {زينب، أين أنت؟}. أجابت صديقتها بعد ساعة ونصف الساعة: {لا تقلقي، ما زلت حية. نحن محتجزون منذ أسبوع. الأمر مريع. حتى الصليب الأحمر لا يستطيع مساعدتنا}. فسألت ضحى: {هل لديكم ما تأكلونه وتشربونه؟ أشعر بقلق شديد}. أجابت زينب: {ليس لدينا ماء ولا كهرباء. لا أحد يساعدنا}.

غادر الجنود في صباح اليوم السادس، بتاريخ 25 يوليو. بعد فترة قصيرة، اتصل الجد برئيس بلدية بيت حانون، محمد نازك الكفارنة. هو أستاذ في اللغة العربية وعضو في {حماس}، لكنه يتمتع بشعبية واسعة حتى في أوساط الناس الذين يعارضون الإسلاميين. يتذكر الكفارنة أن الجد قال له: {أرجوك أخرجنا من هنا. نحن يائسون}. فتعهد رئيس البلدية بتقديم المساعدة لكنه قال أيضاً إن التنسيق مع الجيش الإسرائيلي قد يأخذ بعض الوقت. اتصل مساعده بمكتب الأمم المتحدة في غزة، فتعهد المسؤولون بالتواصل مع الإسرائيليين. يقول الكفارنة إن العامل في الأمم المتحدة تعهد في النهاية بإجلاء عائلة وهدان بحلول موعد انتهاء الصوم في تلك الأمسية. لم تعلّق الأمم المتحدة على هذه القضية. فقد تلقّت آلاف القضايا المماثلة خلال بضعة أيام.

لكن لم يحصل شيء. حين انتهت فترة الصوم في ذلك اليوم، اتصلت والدة زكي برئيس البلدية من المنزل وسألته: {هل يجب أن نفقد الأمل ونبدأ بالصلاة؟}.

في السابعة مساءً، اتصلت زينب بشقيقها الأكبر رامي للمرة الأخيرة. يتذكر أنها أخبرته بأن الجنود أمروا أفراد العائلة بملازمة المنزل وطمأنوهم إلى أنهم سيكونون بأمان هناك. لكن أضافت زينب: {الوضع زاد خطورة بعد رحيل الجنود}. هذا ما يقوله الأشقاء. لم يبقَ أحد ليشهد على كلامهم.

26 يوليو - القصف

كان وقف إطلاق النار لمدة 12 ساعة يوشك على البدء في الثامنة من صباح اليوم التالي. يقول الأشقاء إنهم توجهوا نحو المنزل في الصباح الباكر واتصلوا بزينب للمرة الأخيرة بعد الساعة السابعة بقليل ليخبروها بأنهم في طريقهم إليها.

حين وصلوا إلى حي البورة، كان الجو هادئاً جداً ولم يجدوا أحداً سواهم. فاحت رائحة حريق في الجو وكان الغبار منتشراً في كل مكان. حين وصلوا إلى موقع المنزل، لم يبقَ منه شيء.

لكن أين ذهب الأشخاص الثمانية الذين كانوا في الداخل؟

كانوا يأملون أن يكون الجنود قد أخذوا زينب والآخرين إلى إسرائيل معهم. كانوا يعرفون أنه أمل ساذج، لكنه كان الأمل الوحيد لديهم. فكروا بأن الجنود لا يمكن أن يتركوهم في المنزل.

في تلك اللحظة اكتشفوا الأقدام.

لم يعرفوا ما حدث بين السابعة والثامنة صباحاً إلا في وقت لاحق. خلال الحرب، تم تصوير بيت حانون أكثر من أي مكان آخر بعدما ثبّتت قنوات عدة كاميراتها على تلة بالقرب من بلدة سديروت الواقعة على الجانب الحدودي لإسرائيل. انطلاقاً من هناك، يمكن رؤية منازل عائلة وهدان الواقعة على بُعد كيلومترين بكل سهولة. ركّبت قناة {العربية} بدورها كاميرا على التلة في ذلك الصباح.

تابع الأشقاء تشغيل أحد فيديوهات {العربية} على هاتفهم الخلوي فيما كانوا يسردون الأحداث. ثمة مؤشر زمني في أعلى زاوية الفيديو. بدأ أول اعتداء جوي على منازل عائلة وهدان في الساعة السابعة ودقيقتين صباحاً، ثم وقع آخر انفجار في الساعة الثامنة إلا سبع دقائق، ما أنتج سحابة عملاقة من الدخان والغبار. تدمرت مجموعة كاملة من المنازل خلال أقل من ساعة. ثم بدأ وقف إطلاق النار بعد سبع دقائق.

يشير الفيديو إلى ما حصل هناك، لكنه لا يشرح ما دفع القوات الجوية الإسرائيلية إلى قصف عائلة وهدان ولا يذكر لماذا خسر زكي نصف عائلته. ليس لديه أي إجابة عن هذه الأسئلة، وهو أسوأ شعور على الإطلاق.

ثمة تفسير محتمل وهو يتعلق بموقع المنزل في الزاوية الشمالية الشرقية من غزة: يبدو الآن وكأن زلزالاً ضرب تلك المنطقة. يمتد الدمار من المنزل إلى وسط بيت حانون حيث أصبحت ثلاثة أرباع المباني غير صالحة للسكن وتشرّد 30 ألف شخص. تكشف الصور الفضائية عن هدم أحياء كاملة بشكل منهجي على طول الحدود.

بعد ثلاثة أسابيع، عبّر العقيد عن حزنه بسبب تدمير الحي، {لكن لم يكن أمامنا خيار آخر} كما قال، مشيراً إلى وجود أنفاق وأفخاخ ومخابئ أسلحة في كل مكان. أكد على أن الإسرائيليين لن يقصفوا المدنيين عمداً، لكنه يعترف بأن الأخطاء يمكن أن تحصل.

مقابر إضافية

مع ذلك، كانت {حماس} لتحتاج إلى عقود كي تبني الأنفاق تحت جميع المباني السكنية التي تدمرت. لذا يبدو أن إسرائيل أطلقت حملة القصف المكثفة على بيت حانون قبل وقف إطلاق النار كي تجعلها غير صالحة للسكن وتوسّع منطقتها الأمنية.

يبدو أن الأشخاص الثمانية ماتوا بكل بساطة لأنهم كانوا يقفون في طريقها.

في ملاحظتها الأخيرة إلى صديقتها زينب، في السابعة مساءً من يوم 27 يوليو، كتبت ضحى عطاالله: {هل الجيش موجود في منزلك؟ أشعر بقلق شديد. أين أنت؟}.

لم يصدر أي جواب من زينب، لذا اتصلت عطاالله بوالد صديقتها. فأخبرها بأن المنزل تدمّر وأنهم وجدوا ساق زينب بعدما تعرّفوا إليها من وحمة في مشط قدمها.

أخذ الأشقاء السيقان إلى المقبرة في بيت لهيا، وهي منطقة رملية تصطف فيها عشرات القبور الجديدة وجبال من النفايات. فحفروا قبراً واحداً فقط لثمانية أشخاص وطمروا السيقان فيه ثم وضعوا قطعة من الإسمنت وقنينة بلاستيكية في الموقع للتعرف إليه. في الأيام اللاحقة، عادوا إلى المقبرة مرات عدة وجلبوا المزيد من الأطراف والجلد واللحم.

لكن لا تنتهي قصة عائلة وهدان عند هذا الحد. كان يجب حفر أربع مقابر إضافية.

3 أغسطس - الهجوم الثاني

بعد أن تواجد الأشقاء في مدينة غزة لبضعة أيام، انتقلوا إلى مدرسة تابعة للأمم المتحدة في جباليا. لكن كان المكان مزدحماً جداً لذا استأجرت العائلة منزلاً مجاوراً. كان أشبه بكوخ لكن أقام فيه بين 35 و40 شخصاً، معظمهم من النساء ونحو 13 طفلاً.

يقول زكي إنه استيقظ بعد فترة قصيرة من منتصف الليل في 3 أغسطس. كان التيار الكهربائي قد عاد مجدداً فأراد أن يشغّل المروحة ويشحن هاتفه. لكن ضرب صاروخ المبنى في تلك اللحظة. أدى الانفجار إلى تمزيق والده إلى أشلاء وتضررت ساقا عمّه بشدة، ما استلزم بترهما. ضرب صاروخ آخر الغرفة حيث تنام النساء. قُتلت زوجة أخ زكي، جميلة، وابنتها نور البالغة من العمر 3 سنوات، بالإضافة إلى زوجة أخيه الأخرى سنورة. أُصيب 12 شخصاً، من بينهم خمسة أولاد.

ينجو ثانيةً

سحبت إسرائيل قواتها الميدانية من قطاع غزة في اليوم نفسه، بتاريخ 3 أغسطس. لم تكن الحرب قد انتهت بعد لكنها بدأت تخمد.

نُقل الأطفال المصابون بجروح بالغة إلى مستشفى {الشفاء}: رايكا (14 شهراً)، ومحمد (18 شهراً)، وعمر (3 سنوات). أصيب الفتيان بندوب ضخمة من الصدر إلى الورك. واحترق وجه محمد فراح يتلقى السوائل عبر أنبوب في ذراعه وتغطّت ساقاه بالضمادات. استلقى الأولاد هناك ثم بدأوا يصرخون فجأةً.

لا يستطيع الجيش أن يعلّق على هذه القضية لكن يؤكد العقيد الإسرائيلي على أن {حماس} لم تطلق أي صاروخ من مخيم اللاجئين حيث يقع المنزل. لماذا تعرّضت العائلة للهجوم فجأةً إذاً؟

لا شيء مؤكداً حتى الآن بل مجرد تكهنات. هل كان المقاتلون يختبئون هناك منذ أيام؟ أو ربما ظن موجّهو الطائرات بلا طيار أن أكياس الأرز والطحين وعلب الزيت والماء التي جلبها أفراد عائلة وهدان إلى المنزل كانت مواد لتصنيع القنابل؟ لكن ألا يجدر بموجّهي الطائرات بلا طيار أن يلحظوا وجود أولاد في المنزل؟

ربما لم يخطئ أحد عند إطلاق الصاروخ على المنزل في جباليا. ربما كان الهجوم الثاني ينم عن حظ سيئ بكل بساطة. لكن ماذا عن الهجوم الأول على المنزل في البورة؟

هل يمكن أصلاً أن نعتبر قصف منزل فيه ثمانية أشخاص مجرد غلطة، علماً أن الجيش كان يعلم بأمر هؤلاء الأشخاص الثمانية لأن الجنود أقاموا في منزلهم لبضعة أيام؟

تحت السلالم

يقول محمود أبو رحمة من مركز الميزان لحقوق الإنسان: {لم يبذل الجيش أي جهد لحماية عائلة وهدان}. حرص أبو رحمة على توثيق قضية تلك العائلة. ينتقد إسرائيل و}حماس} معاً. ومع أنه فلسطيني وليس محايداً في هذا الصراع، إلا أنه مستقل سياسياً. يقول: {وقعت مئات الحالات المماثلة في هذه الحرب، لكن تُعتبر وفاة أولئك الأشخاص الثمانية في بيت حانون إحدى القضايا الأكثر وضوحاً. يمكن تصنيفها في خانة جرائم الحربص .

ينوي الآن جمع أدلة إضافية، لكنه يعلم أنها لن تفيده كثيراً. بعد الحرب منذ خمس سنوات ونصف السنة، قدَّم الفلسطينيون مئات الشكاوى الجنائية واكتشفت الأمم المتحدة نفسها أن الجيش الإسرائيلي ارتكب جرائم حرب. لكن لم يُحاسَب أحد. حُكم على جندي واحد بالسجن لسبعة أشهر بتهمة سرقة بطاقة ائتمان واستعمالها لسحب أموال نقدية.

تعيش عائلة وهدان الآن تحت السلالم في مدرسة الأمم المتحدة في جباليا حيث يقيم 1500 شخص. تنتشر الفِراش على الأرض وتعلّق كل مجموعة ملاية تفصلها عن المجموعات الأخرى للحفاظ على بعض الخصوصية.

قبل مقتل والدهم خلال القصف، يتذكر الأشقاء أنه قال لهم يوماً إنه لن يعيد بناء المنزل في البورة لأن البقاء هناك أصبح خطيراً. لا يعلم زكي ما سيحصل في المرحلة اللاحقة. يقول إنه لا يزال يشاهد صورة والده الميت أمام عينيه. يجد صعوبة في النوم ويشعر بالتعب والسخط في آن: {هذه الحرب لم تفدنا في شيء. مع كل هذا الدمار، يُفترض أن نكون منتصرين؟ لا! ربما انتصرت {حماس}، لكنّ عائلتنا تدمرت!}.

في أعلى صفحة زينب على فيسبوك، كتب لها أحد أصدقائها: {فراقك مؤلم جداً. استمتعي في الجنة!}.

back to top