تحيـيـد أوكرانيا

نشر في 22-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 22-08-2014 | 00:01
 كريستوفر غرانفيل في الأزمة الأوكرانية، وخلافاً للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لن يضطر المفاوضون إلى الرضا باتفاقات واهية على حساب مبادئ مهمة وآفاق السلام في الأمد البعيد، والواقع أن صناع السياسات لديهم خيار يعالج السبب الجذري وراء الأزمة، ويدعم في الوقت ذاته السيادة الأوكرانية ويخفف من شعور روسيا بانعدام الأمن الإقليمي، ويتعين عليهم أن يتبنوا هذا الخيار.

 رغم أنه لا أحد يتصور أن وقف إطلاق النار الدائم في غزة قد يفضي في حد ذاته إلى نَـقلة جوهرية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات المهتمة بهذه القضية تواصل العمل بلا كلل لوقف القتال، ومع هذا فعندما يتعلق الأمر بالصراع المتصاعد في شرق أوكرانيا فإن القوى الخارجية المعنية- الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا- لم تفشل في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فحسب؛ بل ترفض أيضاً أن تتبنى حلاً في المتناول بالفعل، على النقيض من حالة إسرائيل وفلسطين المستعصية على الحل.

الواقع أن كل ما هو مطلوب يتلخص في إضافة بند إلى الدستور الأوكراني يعوق بشكل كبير التحاقها بعضوية أي تحالف عسكري، سواء حلف شمال الأطلسي أو منظمة معاهدة الأمن الجماعي لرابطة الدول المستقلة التي تهيمن عليها روسيا. على سبيل المثال، من الممكن أن يتطلب قرار الانضمام إلى مثل هذا التحالف- أو حتى تنفيذ اتفاق يسمح بتمركز قوات تابعة لدولة أجنبية على الأراضي الأوكرانية- موافقة أغلبية مؤهلة، ولنقل ثلثي الناخبين أو المجالس التشريعية الإقليمية.

وترقى إضافة مثل هذا الشرط إلى إعطاء حق النقض لمعسكري أوكرانيا، شرق أوكرانيا الأكثر انحيازاً لروسيا وغربها الأكثر ميلاً إلى حلف شمال الأطلسي. وسوف تعكس النتيجة العملية المترتبة على هذا- وهي بقاء أوكرانيا غير منحازة عسكرياً وأمنيا- إرادة الشعب الأوكراني ككل.

ويأتي هذا النهج متسقاً مع المبدأ الذي أبرزه الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما أعلن أحدث جولة من العقوبات ضد روسيا في الشهر الماضي والذي يؤكد السماح لأوكرانيا "برسم مسارها بنفسها"، ويساعد هذا النهج في المقام الأول شعب أوكرانيا- المقسم بين هويات متخاصمة بطبيعتها- على التعايش في سلام.

بطبيعة الحال، قد يتغير موقف أوكرانيا في المستقبل، مع تسبب التحولات الثقافية والديمغرافية والاقتصادية في إنتاج الإجماع اللازم للتخلي عن الحياد، والأمر المهم هنا هو أن يشترط الدستور موافقة الأغلبية الساحقة من الأصوات- بدلاً من الحل "غير المتكتل" الذي يمكن عكسه بسهولة والذي تبناه البرلمان الأوكراني في عام 2010- للانضمام إلى أي تحالف عسكري، ففي مثل هذا البلد الشديد الانقسام، قد لا يفضي الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي بالأغلبية البسيطة إلا إلى تفاقم الاضطرابات، بصرف النظر عن تورط روسيا.

ومن الممكن أن يتضمن مثل هذا الحل أيضاً عناصر أخرى أقل إثارة للجدل، مثل إعطاء صلاحيات إضافية للسلطات الإقليمية في شرق أوكرانيا، والتي يمكن ممارستها باللغة الروسية، علاوة على هذا، من الممكن إقناع روسيا بقبول سعي أوكرانيا إلى التكامل اقتصادياً مع الاتحاد الأوروبي، في مقابل الجهود التعاونية لمواجهة المخططات الرامية إلى استخدام اتفاقية التجارة الحرة الأوكرانية مع الاتحاد الأوروبي كباب خلفي لدخول السلع الأوروبية إلى السوق الروسية.

في الوقت الراهن، يعتمد الغرب على عقوبات متزايدة الشدة لحمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التراجع، وبهذا يصبح الخيار المتاح للمتمردين الأوكرانيين إما أن يستسلموا أو يُسحَقوا، وتتمكن الحكومة الأوكرانية من رسم مستقبل البلاد، وانطلاقاً من خطة السلام التي تتألف من 14 نقطة والتي اقترحها الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو في يونيو، فإن التنازلات المحدودة التي قد تُطرَح لن تتضمن منح شرق أوكرانيا حق النقض بشأن إنشاء تحالف عسكري مع الولايات المتحدة.

ومن جانبها، تعمل روسيا على دعم التمرد لأنها تريد فرض القدر الكافي من النفوذ لضمان حياد أوكرانيا في محادثات السلام الحتمية، ولأن حياد أوكرانيا لا يتعارض مع مصالح روسيا، في حين يتعارض استمرار العقوبات معها، فلن يجد الكرملين سبباً مقنعاً لرفض نتيجة تبقي أوكرانيا غير منحازة استراتيجيا، ويستمر بدلاً من هذا في دعم المتمردين.

من المفترض على نطاق واسع بكل تأكيد أن أجندة بوتين في أوكرانيا تمتد إلى ما هو أبعد من منع البلاد من التحول إلى قاعدة لقوات عسكرية مناهضة لروسيا، وإذا كان هدف بوتين يتلخص في ضم أو تخريب المزيد من الأراضي الأوكرانية، فمن المرجح أن يُـرفَض هذا الحل، حتى لو أيدته أوكرانيا (وربما على مضض).

ولكن من غير المنطقي أن يُرفَض حل كفيل بإنقاذ أرواح عديدة استناداً إلى افتراض لا أساس له، ولن يتسنى لأوكرانيا أن تجعل موقفها معلوماً إلا من خلال اقتراح صفقتها على الحكومة الروسية، وأيضاً على الجماعات المتمردة في شرق أوكرانيا.

في واقع الأمر، هناك أسباب عديدة تجعلنا نعتقد أن بوتين سوف يكون راضياً إذا ظلت أوكرانيا سالمة، ما دامت لن تنضم إلى حلف شمال الأطلسي وشريطة أن تحترم الهوية الروسية لشرق أوكرانيا، والأمر الأكثر أهمية هو أن المنافسة مع الاتحاد الأوروبي حول انحياز أوكرانيا التجاري أمر تافه من منظور روسيا مقارنة بضرورة إبقاء حلف شمال الأطلسي- أي المؤسسة العسكرية الأميركية- خارج البلاد.

في الأزمة الأوكرانية، وخلافاً للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لن يضطر المفاوضون إلى الرضا باتفاقات واهية- المقصود منها إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح في الأمد القريب- على حساب مبادئ مهمة وآفاق السلام في الأمد البعيد، والواقع أن صناع السياسات لديهم خيار يعالج السبب الجذري وراء الأزمة، ويدعم في الوقت ذاته السيادة الأوكرانية ويخفف من شعور روسيا بانعدام الأمن الإقليمي، ويتعين عليهم أن يتبنوا هذا الخيار.

* دبلوماسي بريطانيا سابق في موسكو، والمدير الإداري لشركة Trustedsources، التي تقدم خدمات بحثية مستقلة عن الأسواق المستقلة.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top