مخيّلتُك... هل تُقاس باختبار؟

نشر في 22-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 22-08-2014 | 00:01
جرب ما يلي: تخيّل معلماً شهيراً، مثل تمثال الحرية في مرفأ نيويورك. تقف أمامه مباشرة ويمكنك أن تراه برمته، أو على الأقل نسختك منه: الصندلان، والرداء، والوجه، والتاج، والمشعل. أدره لترى أحد جانبيه،  ثم الخلف والجانب الآخر. عد بعد ذلك إلى الجانب الأمامي.

هل انتهيت؟ جيد. مرنت لتوك مخيلتك، أو على الأقل العمليات المعرفية الكثيرة التي تجعل ذلك ممكناً.

تشكّل المخيلة، ذلك النبع الداخلي البراق الذي لا ينضب لكل ما هو غريب وجديد، محور بعض الأعمال الأكاديمية المركزة جداً والتي تحظى بتمويل واسع.

ولكن ما المخيلة بالتحديد؟

يذكر سكوت باري كوفمان، عالم نفس من جامعة بنسلفانيا: {تشكّل المخيلة أساساً التصوير الذهني لأشياء لا تكون حاضرةً مباشرة أمام حواسك}. يعني ذلك أن المخيلة تشمل كل ما تفكر فيه عندما لا يكون هذا الذي تفكر فيه حاضراً أمامك. وينجح البعض في هذه المهمة أكثر من غيره.

يسهم كوفمان، بصفته المدير العلمي لمعهد المخيلة، فرع جديد لا يتوخى الربح في مركز بنسلفانيا لعلم النفس الإيجابي، في تنظيم جهود بقيمة ملايين الدولارات هدفها تحديد ما يحدث عندما تطلق العنان لمخيلتك.

حاصل المخيلة

يُعتبر فهم طريقة عمل المخيلة بالغ الأهمية، لأن عملها لا يقتصر على مساعدتنا في تصور مختلف جوانب معلم ما. فالتخطيط للمستقبل، التعاطف مع غريب، إدراك ما يريده الجمهور، التفوق على خصم، إبداع أمر جميل، وتصميم شيء جميل، هذه تتطلب كافة، على الأقل، قدرة على إنتاج «تصورات فكرية» من دون أي مساعدة خارجية.

ولكن بمحاولة تحديد كمية مخيلة الإنسان، يأمل كوفمان ومعهد المخيلة تقديم بديل لاختبارات معدلات الذكاء التقليدية المعتمدة. يدعوان عملهما هذا «حاصل المخيلة».

أليس هذا مستحيلاً؟ ألا تنتمي المخيلة إلى فئة أفكار مثل الحب والجمال، أي مفاهيم غير ملموسة تُعتبر خارج عالم البحث العلمي الجاد؟ لا يظن كوفمان ذلك، ويعدد مجموعة من الأبحاث التي تؤكد المصداقية العلمية لدارسة المخيلة.

يوضح كوفمان أن ثمة أدلة متراكمة تُظهر أن قدرة المخيلة ترتبط بما يُدعى «شبكة الوضع الافتراضي» (default mode network)، مجموعة من الوظائف بدأ علماء الأعصاب لتوهم فهمها. لكنهم يعرفون أن شبكة الوضع الافتراضي تنشط كنظام مستقل من حيث تركيبته، في حين تبدو النشاطات الأخرى متوقفة، خصوصاً عندما تفكر في أمر ما.

في تقرير نُشر عام 2008 عن شبكة الوضع الافتراضي، كتب باحثو هارفارد راند باكنر، جسيكا أندرو-هانا، ودانيال سكاكتر، أن اللحظات التي تبدو خالية من أي تفكير تكون في الواقع حافلة بنشاط معرفي. فبدل أن يترك دماغنا لحظات من وقت الفراغ تمر سدى، حسبما ذكروا، {يستغلها لتعزيز تجارب سابقة بطرق تتلاءم مع حاجاتنا المستقبلية}.

بكلمات أخرى، يستبق الدماغ دوماً الأمور، حتى لو لم نأخذ نحن ذلك في الحسبان. ولا شك في أن ما يبتكره دماغنا يساعدنا في حلّ المسائل في اختبار معدل الذكاء. لكنه قد يكون، أيضاً، مسؤولاً عن بعض أفضل الأفكار أو ما نعتبره لحظات الذكاء المبدع.

تحليل وابتكار

كي نفهم السبب علينا أن نفكر في الذكاء (حين يعرَّف بأنه القدرة على حل المشاكل) لا كصفة واحدة بل كطيف متكامل. يشمل هذا الطيف في أحد أطرافه التحليل الاستنتاجي الذي يستند إلى قواعد، وفي الطرف الآخر الابتكار المتخيل الذي يستند إلى احتمالات لامتناهية.

يدرس ريكس يونغ، عالم نفس عصبي في جامعة نيومكسيكو، هذا النوع الثاني من الذكاء، ويشير إلى ما يبدو تداخلاً مهماً بين النشاط في شبكة الوضع الافتراضي وحل المشاكل الابتكاري.

يذكر يونغ أننا نستخدم النوع الأول من الذكاء، الذي يكمن في «إطار عمل الانتباه التنفيذي»، بغية استنتاج حلول للمشاكل عندما نعرف القواعد التي تحكمها. فكّر في كل أسئلة الاختبارات التي حللتها، مثل «أين على الخارطة سيلتقي القطاران «أ» و»ب» اللذان يسيران باتجاه أحدهما الآخر بسرعتين مختلفتين؟».

في المقابل، يوضح أننا نستخدم القدرة على الابتكار للتوصل إلى حلول لمشاكل لم نواجهها مطلقاً سابقاً، ولا نعرف القواعد التي تنطبق عليها. على سبيل المثال، ماذا تفعل إن كنت في القطار «ب» وعلقت في غرفة حمام عربة فارغة؟

يتمتع بعض الناس بموهبة في حلّ هذا النوع الأخير من المشاكل (جايسن بورن؟ ماكغيفر؟). وقد يجعل هذا المقياسَ الموحد للمخيلة (حاصل المخيلة) أداة قيمة. يذكر كوفمان: «على المستوى العملي، تريد الشركات توظيف مَن يستطيعون التفكير في الاحتمالات كافة. لكنهم بدلاً من ذلك، يستخدمون مَن يجيدون التعلم بسرعة».

تتنافس الجامعات، الشركات، والوكالات الحكومية لاستمالة «المواهب» المعرفية. وتعتمد غالباً على اختبارات الذكاء في بحثها عنها. إلا أن الأدلة التي تُظهر أن اختبارات الذكاء لا تنجح بقدر ما نظن بدأت تتراكم.

تظهر دراسة نشرها وليام هيس، عميد قسم قبول طلبات الانتساب السابق في جامعة بايتس، أن علامات الاختبارات المعتمدة عاجزة تماماً عن توقع مدى نجاح مَن يخضعون لها. كذلك كشف لازلو بوك، مدير الموارد البشرية في غوغل، السنة الماضية أن الشركة تخلت عن استخدام اختبارات صعبة خلال المقابلات، مشيرة إلى أنها {لا تكشف أي أمر}. فقد اعتبرتها {مضيعة للوقت}.

كذلك أظهرت دراسة أخرى نشرتها عام 2011 أنجيلا لي داكورث، عالمة نفس من جامعة بنسيلفانيا، أن مَن يخضعون لاختبارات تحديد معدل الذكاء يحققون نتائج أفضل عندما يتلقون أجراً مقابل تحقيق علامات عالية.

يذكر كوفمان: {تقيس الاختبارات مهارات تنبع من شبكة الدماغ التنفيذية العمدية. لكنها تتجاهل مجموعة المهارات التي تصدر عن شبكة الوضع الافتراضي. فلا تحدد هذه الاختبارات قدرات الناس البارعين في تصور وقائع جديدة. وهذا بالتأكيد خلل كبير}.

تشكل هذه أيضاً فرصة كبيرة لمعهد المخيلة الذي أسسه عالم النفس مارتن سليغمان. لاقى عمل سليغمان، الذي أنشأ حقل علم النفس الإيجابي مع نظريته {التفاؤل المكتسب}، ترحيباً واسعاً في الأوساط الإدارية. وبعدما حصل سليغمان أخيراً على هبة قيمتها 5.6 ملايين دولار من مؤسسة جون تمبلتون، وهو عضو في مجلس مستشاريها، حظي مشروعه لتطوير حاصل مخيلة يمكن قياسه بانطلاقة ممتازة.

قيمة واضحة

سيستخدم معهد المخيلة المال لتمويل مباراة بعنوان «تطوير علم المخيلة». ستوَزع خلال هذه المباراة 15 جائزة تتراوح كل منها بين 150 ألف دولار و200 ألف، وستُخصص لمشاريع هدفها التوصل إلى حاصل للمخيلة «يختبر، يؤكد، ويطور أدوات وأساليب لقياس المخيلة ووجهات النظر». وسيُعلن اسم الفائز في هذه المباراة في 15 مايو 2015.

على غرار أي معيار لقياس أداء الإنسان (اختبار معدل الذكاء، LSAT، امتحانات دخول الجامعات)، يهدف حاصل المخيلة إلى توقع مقدرات الإنسان التنافسية وما يتمتع به من أفضلية في هذا المجال. يذكر كوفمان أن الاختلاف الوحيد يكمن في أن ما يتوقعه حاصل المخيلة قد يكون واسعاً جداً أو عاماً في مجال عمل ما.

يضيف كوفمان: {إذا كنت تتمتع بقدرة كبيرة على تخيل احتمالات مستقبلية، بدائل، أو سيناريوهات مختلفة، فسيتيح لك ذلك النجاح في اختبار مماثل}.

لكن هذا الحاصل لا يتوقف عند هذا الحد. يذكر كوفمان: {يمكننا أيضاً تحديد العامل الغامض المميز في كل مجال عمل. وربما نتوصل إلى اختبار مخيلة خاصة بكل علم أو اختبار مخيلة خاصة بالفن. هذا ممكن}.

سواء كان اختبار المخيلة الدقيق أداة للعثور على أبرز {المفكرين في الاحتمالات} أو لاتخاذ قرارات توظيف حكيمة، تبقى قيمته واضحة جداً. ولكن عن تأثير حاصل المخيلة في الخاضعين لهذا الاختبار أنفسهم، يقول كوفمان: {أعتقد أن هذا سؤال صعب}.

back to top