سميح القاسم... عكاز القصيدة انكسر

نشر في 21-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 21-08-2014 | 00:01
لا يعرف معظمنا من أشعار سميح القاسم  سوى القليل رغم أنه كتب أجمل القصائد في العالم العربي، بشهادة النقاد. رحل الشاعر فقال كثيرون متأسفين إنه صاحب «منتصب القامة أمشي»،  رددوا أبيات القصيدة التي حفظوها عن ظهر قلب لكثرة استعمالها في المناسبات «الثورية»... رثوه، كتبوا عنه على صفحاتهم الفيسبوكية، عرضوا صوراً له، استبدلوا وجهه بصور حساباتهم الشخصية... بعد أيام، ربما سينسون موته، ويهجر كثيرون منهم شعره، كما هجروا الكتاب كله.

رحل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم عن أرضه المحتلة، والعالم العربي الذي يضجّ بـ{داعش} وأخواتها اليوم. شاعر المقاومة، لم يغادره مرض عضال أصابه في الكبد منذ سنوات، ولم يسعفه علاج. شاهد اغتيال طفولة غزة قبل أن تتدهور حاله الصحية قبل أسبوعين في مستشفى صفد، شمال فلسطين المحتلة، وصار في الأيام الأخيرة في شبه غيبوبة، أفقدته القدرة على التكلم، وجلّ ما كان يقوم به أن ينام ويصحو.

كانت السيجارة، التي شكلت {الموت} في يده، رفيقته الدائمة قبل الرحيل، ولم يستطع الإقلاع عنها حتى أثناء العلاج، فهي ربما كانت تجلي بعضاً من ألمه.

ولد القاسم لعائلة درزية فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية عام 1939، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة. العضو السابق في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ارتبط اسمه بشعر الثورة الفلسطينية والمقاومة منذ عام 1948. كتب إحدى أشهر القصائد الثورية في أنحاء العالم العربي} منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصفة زيتون، وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي...}، غناها مرسيل خليفة وحفظها كثر ورددوها، حتى أصبحت حاضرة في كل مناسبة {ثورية} أو مهرجان تعبوي، تماماً كما {على قدر أهل العزم تأتي العزائم وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ} للمتنبي، و{نبهـوا واستفِيقُـوا أيّها العَـرَبُ} للأديب إبراهيم اليازجي، و{إذا الشعـب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسـر} للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي.

وبالغ كثر في استعمال أبيات من القصيدة الشهيرة حتى تعرضَّت لـ{التناتش الثورجي} وراحت تُوظَّف في غير مكانها، ساهين عن أنها تمجِّد الموت، فكتبوها وغنّوها وتغنوا بها في احتفالاتهم بالنصر كما لو أنها {قصيدة حياة}.

مواقفه الوطنية والقومية ورفضه تجنيداً فرضه الاحتلال الإسرائيلي على الطائفة الدرزية في فلسطين المحتلة، أدَّت بالقاسم إلى الاعتقال مراراً. وكان مع محمود درويش أحد أوائل مؤسسي أدب المقاومة وشعرها. وكتب نحو 70 عملاً، شعراً ونثراً وقصةً ومسرحيات. وصدرت أعماله في سبعة مجلّدات عن دور نشر عدّة في القدس وبيروت والقاهرة. كذلك تُرجمت قصائد كثيرة له إلى الإنكليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية، ولغات أخرى.

ومع هذه الموسوعة من الأعمال اللافتة، حصل القاسم على جوائز ودروع وشهادات تقدير، أبرزها جائزة {غار الشعر} من أسبانيا، جائزتان من فرنسا عن مختاراته، جائزة البابطين للشعر العربي، {وسام القدس للثقافة} من الرئيس ياسر عرفات، جائزة نجيب محفوظ، جائزة {السلام} من واحة السلام، ولا ننسى جائزة {الشعر} الفلسطينية. وشكَّل القاسم بوطنه الجريح وصوته المقاوم موضوعاً لافتاً لكتَّاب ونقاد تناولوا سيرته وإنجازاته. ذكرت الشاعرة والباحثة د. سلمى الخضراء الجيوسي أنه الوحيد الذي تظهر في أعماله ملامح ما بعد الحداثة في الشِعر العربي، وهو {الشاعر العملاق} كما يراهُ الناقد اللبناني محمد دكروب، و}شاعر العروبة بلا منازع وبلا نقاش وبلا جدل} بحسب الكاتب محمد علي طه. وكتب فيه رئيس تحرير جريدة «السفير» طلال سلمان أخيراً: «سكن سميح القاسم وجدان الأمة منذ أول قصيدة، خصوصاً أنها كانت فتحاً جديداً في عالم الشعر المرتبط بالأرض وأهلها، والذي لا يتوجه إلى إثارة حماستك بقدر ما يتوجه إلى ضميرك الوطني وإلى انتمائك القومي فيزيد من شعورك بالتقصير».

ولأن كثراً جعلوا من الجنسية الإسرائيلية التي يحملها جريمة في سجله، كان القاسم يكرر في حوارات معه رفضه محاولات تغريبه الفكري والروحي ومحو ذاكرته، كما سماها، وقال: {كنت أتمنى على 300 مليون عربي أن يكون لديهم وضوح الهوية الذي أتمتع به. هويتي لا يقررها مجلس وزراء أو شرطة أو وزارة داخلية، وجوار سفري هو قصيدتي، وهويتي غير قابلة للحوار والنقاش. أنا ابن هذه الأمة وهذا الوطن}. وأكد القاسم مراراً رفضه التجزئات المفتعلة، ومشروع سايكس يكو، سياسياً وجغرافياً وفكرياً.

إسرائيل ونوبل

عُرضت جائزة «إسرائيل» الأدبية على القاسم، وقيل له آنذاك إن المفاوضات ذاهبةً إلى السلام، فتمنى هو أن تكون في اتجاه السلام الصحيح. ولكنه رفض الجائزة، كما أوضح خلال لقاء ثقافي نظّمه برنامج المحاضرات العامة في جامعة بيرزيت، قائلاً: {عندما تقام الدولة الفلسطينية ويُسلم الرئيس الفلسطيني جائزة فلسطين الأدبية لمثقف إسرائيلي في عاصمة فلسطين يمكن لي أن أفكر بقبول مثل هذه الجائزة، من دون أن أعد بذلك طبعاً}. وعند الحديث عن أن جائزة {إسرائيل} ربما تشكل خشبة القفز إلى {نوبل}، أكد في أحد البرامج الحوارية أنه ليس من الذين يحلمون لا بنوبل ولا بأي جائزة، {لا تعنيني هذه المسألة إذا جاءتني جائزة من جهة محترمة وغير مشروطة وغير مسيسة فلا بأس في ذلك هذا شيء أعتز به من دون شك، لكن أرفض أن تشترط نوبل بشروط سياسية مسبقة. التساهل مع الاحتلال مهاودة السلطة الإسرائيلية أو أي سلطة في المنطقة أو في العالم. لست على استعداد لمهادنة الأمم المتحدة لأجل نوبل}.

وفي برنامج {أوراق ثقافية} قال القاسم عن الجائزة- الحلم بالنسبة إلى معظم المثقفين العرب، والتي عُرضت عليه بعد نجيب محفوظ: {كانت جائزة محترمة من دون شك ولكنها في الأعوام الأخيرة تحولت إلى جائزة سياسية تبت فيها أجهزة المخابرات والحكومات والوزارات أكثر مما يبث فيها الإبداع هذه حقيقة معروفة، تمنح لكويتب من الصين لا لسبب إلا لأنه مثلا هاجم النظام أو تمنح لكويتب روسي لا سبب إلا لأنه هاجم النظام، إذاً أصبحت نوبل جزءاً من اللعبة السياسية من لعبة العولمة ولا تعنيني حقيقة لا من قريب ولا من بعيد}.

«شاعر المقاومة»، سمَّاه كثر، ووافقهم قائلاً: «يبدو أنهم على حق، لكني لا أؤمن بوجود مؤسسة شعر المقاومة. ربما كان ليعتبر نفسه «شاعر الحياة»، فهو ذكر يوماً أن ما يسميه البعض «قصيدة مقاومة» يرى فيه هو «قصيدة حياة». وفيما نظر الجمهور العربي إلى القاسم على أنه ملك له، كان الشاعر يقول: «جمهوري متواجد في لغات عدة. لا أتكلم عن قبيلة شعرية فلست قبلياً، إنما أتحدث عن تجربتي الشخصية».

القاسم الذي أضناه انقسام فلسطين الداخلي وشتات أبناء وطنه، وموت رفاقه، التصق بالقضية الفلسطينية حدَّ التمازج، أخفق في الخروج منها، أو أنه اختار البقاء فيها، و{قتل» سيف قصائده المقاوم أشعاره الأخرى عن الحب والمرأة وغيرهما، على عكس صديقه درويش الذي كتب فلسطين والأرض، ثم استباح مضامين شعرية مختلفة ولغة أخرى، وحاذ جماهيرية في المجالين. وكان القاسم رثاه بقصيدة {خذني معك}، قال فيها:

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني

ووزرِ حياتي

وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،

أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟

وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،

وآثَرتَ حُزني مَلاذا

كانت القصيدة {عكاز الروح} بالنسبة إلى القاسم، ويجهل كثر أن الأخير أفسح للنساء مجالاً بين أعماله، ولكنه كان يقول {باستحالة اللقاء بين النهد والسيف} في قصيدة بعينها، فيما كتب المرأة شعراً في قصائد عدة. وقال في حوار معه: {في قصيدتي حضور للمرأة في المطلق. تارة هي خديجة وتارة أخرى كارولاين وطوراً يوكي كو. كذلك فإنني أتعامل مع إنسانيتها لا قوميتها. والمرأة في قصيدتي ليست ملاكاً أو شيطاناً، هي كائن بشري اجتماعي، وأفضلها مثقفة لأن الثقافة كثيراً ما تكون أعمق شأناً وأبعد أثراً في علاقة الذكر والأنثى}.

وعن إمكان أن تنشأ علاقة حب بين شخصين من قوميتين مختلفتين متصارعتين، مثلاً بين يهودي وعربية أو بين عربية ويهودي، ذكر: {أعتقد أنني كنت أول من تورط في هذه المعادلة، شعراً ونثراً}. فبالإضافة إلى الشعر، جسّد الشاعر هذه الحالة في حكايتين أوتوبيوغرافيتين {إلى الجحيم أيها الليلك} و{الصورة الأخيرة في الألبوم}.

تماماً كما الشاعر الراحل جوزيف حرب، لم يسلم القاسم من انتقادات وجهها له نشطاء عبر فيسبوك بعد نشرهم قصيدة كان كتبها في مديح حافظ الأسد، وفوجئ البعض عند اطلاعه على النص مبدياً أسفه ومتمنياً لو أن أحداً لم يطلعه على هذه الأبيات التي تقول:

أسد الرجالِ وفي صمودكَ عبرةٌ

وعليكَ من غارِ الفدى إكليلُ

لم تُحنِ قامتكَ العواصفُ وانحنى

لنسيمِ روحكَ سادرٌ ضِلّيلُ

منّا الكرومُ ومنكَ طلعُ كرومنا

فاهنأ وقد ورثَ الأصيلَ أصيلُ

واهنأ فمن صلبِ الرسالةِ فارسٌ

آتٍ ومن صلبِ الصمودِ رسولُ

ووصيّةُ الآباءِ دينُ بنوّةٍ

بوتينِ قلبكَ عرقها موصولُ

غادر الشاعر أرضه المحتلة، خيَّمت روحه فوق أطفال غزة، قبَّلت عيونهم، ثم تابعت طريقها إلى {العدو} ورددت قصيدتها:

تقدموا

بناقلات جندكم

وراجمات حقدكم

وهددوا

وشردوا

ويتموا

وهدموا

لن تكسروا أعماقنا

لن تهزموا أشواقنا

نحن القضاء المبرم

تقدموا

تقدموا

back to top