مأساة سنجار... الهروب من الدولة الإسلامية في العراق

نشر في 21-08-2014
آخر تحديث 21-08-2014 | 00:01
أجلي الأسبوع الماضي آلاف الأيزيديين من جبال سنجار في العراق، حيث هربوا من بطش مقاتلي الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) المغيرين. ساعدهم مقاتلون أكراد من حزب العمال الكردستاني على الهرب. فهل سينجح أحد في وقف مجاهدي داعش؟،  لا يبدو ذلك واضحاً بحسب {شبيغل}.

في اليوم الثامن بعد الهرب إلى الجبل، ولدت باكيزا طفلها الأول. فأنجبت فتاة أسمتها خديدة.

هربت باكيزا وزوجها هادي من قرية سومري. حالف الحظ هذين الزوجين. فقد رحلا بمفردهما ما أتاح لهما تفادي المجموعات التي تعرضت لإطلاق نار من المهاجمين. لكن الهرب وحدهما عنى أيضاً أنهما عندما توقفا أخيراً في ظل جرف عالٍ، ما كانا يعرفان أياً من الآخرين الذين لجأوا إلى المكان عينه. فما كان أحد مستعداً لمشاطرة مياهه القيمة مع باكيزا. ومع أن هذين الزوجين رزقا بابنة، إلا أنهما لا يملكان ما يشربانه.

وحّدت عائلات أخرى لديها أطفال صغار الجهود بغية تأمين القدر الأدنى من الظل للأمهات والأطفال. كذلك وفروا قطرات قليلة من كميات ضئيلة من الماء كانت تُوزَّع عليهم كل يوم، أو اقتسموا بضع رشفات من الماء أمضوا ساعات كل يوم في جمعها من حفر ينابيع جبلية جفت.

لكن لا أحد مد يد المساعدة لباكيزا، هادي، وطفلتهما. فتحملوا الحر بمفردهم، إلى أن ظهر أخيراً، في اليوم الذي تلا ولادة خديدة، ثلاثة مقاتلين أكراد ينتمون إلى حزب العمال الكردستاني ونقلوهم إلى مخيم نوروز عبر الحدود في سورية.

يملك مَن نجحوا في اللجوء إلى مخيم نوروز روايات حية عن الفظائع التي خلفوها وراءهم. فيخبرون أن رجالاً من مجموعة داعش الإرهابية راحوا يصيحون عبر مكبرات الصوت في قرية غرزاريك، منادين: {ألقوا أسلحتكم ولن نؤذيكم}. ومن ثم التفوا واطلقوا النار على كل مَن حاول الهرب.

يتحدثون عن الخراف التي قتلها اللاجئون اليائسون بالحجارة كي يشربوا دمها، وعن المسنين الذين أُرغموا على تركهم وراءهم. كذلك يتكلمون عن جثث الرجال في الشوارع والنساء اللواتي رجون عائلاتهن أن يقتلوهن كي لا يقعن ضحية بين أيدي مقاتلي داعش.

انقلاب سريع

يروون أيضاً قصصاً عن جيران انقلبوا فجأة إلى أعداء وتعاونوا مع داعش. يبدو أن هذا الهجوم اتبع نمطاً حُدد في هجمات أخرى. أولاً، أنشئت شبكة سرية من المخبرين خلال فترة طويلة من الوقت، ضمت عرباً من القرى المحيطة، تركماناً، وحتى بعض الأكراد. وجه المخبرون، بعد ذلك، المقاتلين الإسلاميين إلى منازل تحتوي مقتنيات قيمة وأروهم أين يعيش السنة والمسيحيون والأيزيديون. نتيجة لذلك، عرف مقاتلو داعش مدى قوة خصومهم ومَن عليهم أن يقتلوا أولاً. وهذا هو المخطط عينه الذي استخدمته هذه المجموعة في هجماتها على مدن وقرى في شمال سورية والموصل في مطلع يونيو.

طوال شهرين تقريباً، ظن الناس هنا أنهم في مأمن لأنهم اعتقدوا أن المجاهدين سيظلون في المناطق العربية. بدا أولاً أن اعتقادهم هذا مبرر. فبعدما سيطرت داعش على مواد تابعة للجيش العراقي، استولت بادئ الأمر على معداته الجديدة لتتجول بها بفخر وانتصار في الرقة، فيما تابعت تركيزها على المعركة في سورية. لكن مقاتلي داعش بدلوا وجهة حربهم في ليلة وضحاها.

في صباح الثالث من أغسطس، هاجمت مواكب مقاتلي داعش الأولى قرى محيطة بسنجار. حاولت بعض وحدات البيشمركة الكردية، في البداية، إبطاء الهجمات. يتذكر أحد سكان تلك القرى، بليندكاس خلف المسن: {بحلول الفجر، أعلن أحد القادة فجأة أنه تلقى الأمر بالانسحاب}.

وهكذا انسحب كل الرجال السبعة آلاف من المدن والقرى في المنطقة، حاملين معهم أسلحتهم فيما توجهوا شمالاً. وكانوا قد صادروا الكثير من السلاح من الأيزيديين في شهر يونيو.

يذكر خلف: {كان نحو 1600 جندي من جيش المالكي في سنجار. ولكن بعد تفككه عقب سقوط الموصل ومجيء البيشمركة إلى هنا، صادروا كل أسلحتنا ووعدونا بالحماية}.

عار

ولكن في صباح يوم الأحد ذاك، انسحبت قوات البيشمركة من سنجار. أراد الأيزيديون، على الأقل، استعادة بنادقهم الرشاشة ليتمكنوا من حماية نفسهم. فعرقلوا في البداية موكب البيشمركة. إلا أن خلف يؤكد أن المقاتلين الأكراد أداروا بنادقهم نحو الأيزيديين وحاربوهم للخروج من المنطقة.

ينكر العميد هولكرت حكمت، المتحدث باسم شؤون البيشمركة في أربيل، إصدار أي أمر بالانسحاب. ويؤكد: {هرب جنودنا بكل بساطة. هذا مخزٍ. ولهذا اختلقوا، على الأرجح، الأمر بالانسحاب. لكننا نحقق في هذه الحادثة ونسعى لمعرفة مَن يُفترض أنهم أصدروا الأمر}.

يبدو أن قوات البيشمركة تخلت عن الأيزيديين، مع أن مصيرهم هذا كان مفيداً لاحقاً لأنه دفع الأميركيين وسائر العالم إلى التدخل أخيراً. اتضح أن البيشمركة عاجزة عن وقف المجاهدين، حتى لو أرادت ذلك، مع سقوط مخمور، مدينة في قلب المنطقة الكردية سيطر عليها مقاتلو داعش بضعة أيام.

أدت وحدة صغيرة من حزب العمال الكردستاني المتمرد الدور الأكبر في استعادة السيطرة على هذه المدينة خلال أيام، بعدما نالت مساعدة من الضربات الجوية الأميركية. لكن السكان الذين عادوا إلى مخمور، للمرة الأولى قبل أيام، لم يطيلوا البقاء. أرادوا أخذ ما تبقى لهم من أثاث فحسب.

قال رجل وهو يعمل على نزع جهاز تكييف عن أحد جدران منزله: {يخشى الجميع عودة المجانين. لو لم ينفذ الأميركيون غارات جوية، لوصلوا إلى أربيل. تعجز قواتنا من البيشمركة عن حمايتنا}.

حطم تقدم مقاتلي داعش ثقة البيشمركة بنفسها. لكنه وحّد أيضاً، في الوقت الراهن على الأقل، الخصوم القدماء. لطالما نظر قادة حزب العمال الكردستاني، الذي يعود أساسه إلى تركيا، والقيادة الكردية في العراق أحدهما إلى الآخر نظرة مريبة طوال سنوات. إلا أن الحاجة دفعتهما أخيراً إلى توحيد الجهود. حتى إن الرئيس الكردي مسعود برزاني سافر إلى مخمور ليشكر شخصياً قادة حزب العمال الكردستاني هناك.

يعود الفضل الأكبر إلى مقاتلي حزب العمال الكردستاني، مجموعة بدت حتى وقت ليس ببعيد عالقة في الماضي، في إجلاء نحو 50 ألف شخص من جبال سنجار الأسبوع الماضي. قبل عملية سنجار، كان حزب العمال الكردستاني يصب كل اهتمامه على التدرب لخوض حرب ضد تركيا، صراع اعتُبر مستبعداً طوال سنوات.

كل ما يمكن سوقه

تولى حزب العمال الكردستاني ضبط المنطقة في الجانب السوري من الحدود وحرر الطريق إلى سنجار، مقيماً سلسلة من مخيمات اللاجئين على طول الطريق. تمكن مقاتلوه من بلوغ اللاجئين العطشى في الجبال سيراً على الأقدام، حاملين المسنات والأولاد على ظهورهم قبل أن يضعوهم في شاحنات صغيرة ليعبروا ما تبقى من تلك الرحلة المضنية.

تقديرات

يذكر ألفار خليل، رئيس مخيم نوروز الذي يؤمن المأوى للأيزيديين فيما ينتظرون نقلهم لمتابعة الرحلة: {استخدمنا كل ما يمكن سوقه}. يبقى معظم اللاجئين بضعة أيام في هذا المخيم قبل أن يُنقلوا إلى داخل العراق. تصل كل يوم أعداد كبيرة من الناس إلى المخيم تعادل ما يغادره تقريباً. وقد أشارت التقديرات في نهاية الأسبوع الماضي إلى أن عدد مَن يرعاهم مقاتلو حزب العمال الكردستاني بين 3 آلاف و6 آلاف، علماً أن من الصعب تحديد هذا الرقم بدقة.

في الوقت عينه، كانت وزارة الدفاع الأميركية تدرس طرقاً لنقل الأيزيديين من الجبال جواً. ولكن عندما خطت القوات الخاصة الأميركية هناك قبل أيام لتعاين الوضع عن كثب، فوجئت بأن أعداد العالقين أدنى مما توقعت. يذكر وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل أن مهمة إنقاذ أميركية باتت مستبعدة نتيجة ذلك. وراح يتحدث عن الفوضى في كردستان، حتى إن الجيش الأميركي لم يكن على علم بعمليات الإجلاء المنظمة لأولئك العالقين في الجبال.

مساء الأربعاء الماضي، وصل إلى نوروز ما يُعتقد أنها المجموعات الأخيرة من اللاجئين. فكانت معظم الشاحنات العائدة من جبال سنجار فارغة، حتى إن أحدها اكتفى بتحميل عدد من الخراف التائهة. أدى مخيم مادبا المؤقت الواقع على مقربة من الحدود دوراً بالغ الأهمية، في الأيام السابقة، في تقديم الماء والإسعافات الأولية للاجئين الهاربين. لكنه بات اليوم شبه فارغ.

يذكر أحد الأطباء: {لا أحد يعلم ما إذا كنا سنستقبل مزيداً من الناس الهاربين من الجبال. تبلغ مساحة هذه المنطقة نحو مئة كليومتر مربع ولا يستطيع أحد تفتيشها كلها. لكننا سننتظر هنا بضعة أيام إضافية لنرى ما سيحدث}.

رغم نجاح حزب العمال الكردستاني، لم تتمكن الضربات الجوية المحددة التي نفذتها طائرات إف-16 الحربية الأميركية في وقف داعش. لا شك في أن عملية استرجاع جزء من سد الموصل، الذي استولت عليه قوات داعش في السابع من أغسطس، لم تنجح إلا بفضل الضربات الجوية الأميركية المركزة على مواقع تلك المجموعة الإرهابية هناك. لكن أحد قادة البيشمركة في ذلك الموقع حذر: {من دون أسلحة ثقيلة، لن نتمكن من حماية السد}. علاوة على ذلك، لم تحقق الأسلحة الخفيفة وقاذفات القنابل أي تقدم في ردع مقاتلي داعش، بما أنهم مسلحون بمركبات هامفي مصفحة، قاذفات صواريخ، ومدفعية استولوا عليها من الجيش العراقي، الذي حصل بدوره على هذه الأسلحة من الولايات المتحدة.

يوم الخميس الماضي، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما كسر حصار سنجار. ولكن فيما كان يدلي بتصريحه هذا، عاود مقاتلو داعش تطويق المدينة طوال ساعات.

دفن خديدة

بينما كان فريق شبيغل على الطريق متجهاً إلى جبال سنجار، سقطت قذائف هاون قرب الطريق، مسببة سحباً كبيرة من التراب حملتها الرياح. فخرج السائقون عن الطريق وراحوا يصيحون نحو المركبات القادمة: {يطلقون القذائف!}.

صباح الرابع عشر من أغسطس، توقفت ابنة باكيزا وهادي الصغيرة عن التنفس. لم يمرّ على ولادة خديدة أكثر من أربعة أيام.

يذكر الطبيب الذي عالج خديدة في مخيم نوروز أن من المستحيل تحديد سبب وفاتها بدقة. ويضيف أن {كل شيء} ساهم في موتها، من الحر في الجبال والعطش، إلى الجوع والرياح المليئة بالتراب والأوساخ. لذلك كانت ضعيفة حين وصلت إلى المخيم، وفق الطبيب.

استخدم هادي قطعة من البلاستيك لحفر قبر على بعد أمتار قليلة وراء خيام المخيم. فرآه مسعف سوري وهو يحمل لفة صغيرة بين يديه. أراد هذا المسعف أن يقدم للاجئين، على الأقل، مقداراً ضئيلاً من الكرامة، سأل القيمين على مقبرة القرية المجاورة إذا كان من مكان لخديدة الصغيرة، قبر صغير فحسب.

فيما كان اللاجئون في المخيم يصعدون إلى الشاحنات المتجهة إلى العراق، راح هادي وزوجته باكيزا يتنقلون بين إدارة المقبرة، جهاز أمن حزب العمال الكردستاني، وقيادة المخيم. لم يشأ أحد تحمل مسؤولية طفلة أيزيدية من العراق ماتت في سورية.

ولكن في وقت متأخر من بعد الظهر، استسلمت إدارة المقبرة، وسمحت لهادي وباكيزا بدفن ابنتهما.

* كريستوف رويتر | Christoph Reuter

back to top