مجانين بيت لحم

نشر في 09-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 09-08-2014 | 00:01
No Image Caption
اقتلعوا كل هذه الأشجار... لا تتركوا شيئاً...!

في مخيّم الدهيشة للاجئين وُلدت، وهو جبل، أو إذا شئنا الدقة عبارة عن تلّتين، جبلين، من أراضي مدينة بيت لحم، على طريق القدس- الخليل، كان قبل أن يقطنه المشرّدون من قراهم عام 1948، أحراجاً مخيفة. واكتسب اسمـــــه مــــن دهشـــــــــة إبــــــــراهـــــــيم بـــــاشــــــــا (1848-1789)، ابن محمد علي باشا الوالي المصري الطموح، الذي أرسل ابنه في مغامرة استمرّت تسع سنوات (1831- 1840) إلى فلسطين وبلاد الشام، بعد رفض أحمد باشا الجزّار تسليم آلاف المصريين الذين فرّوا إلى فلسطين هرباً من السخرة، باعتبار أنّ البلدين تابعان لسلطان عثماني واحد. وكان من سوء حظ ابراهيم باشا، أنّ فلاحي فلسطين، وشيوخ الجبال المتنازعين في ما بينهم، والمنقسمين إلى حزبي قيس ويمن، واجهوه بالثورة والتمرّد، وأقلقوا راحة وجوده، رغم أنّ بعضهم تذبذبت مواقفهم، فوقفوا أحياناً معه. وفي طريقه لقمع تمرّد الثوار، مرّ على الجبال الحرجية الموحشة على طريق القدس- الخليل قرب بيت لحم، فقال:

إيه ده... دي هيشة... دي هيشة..!

وانطلقت الفرق المختصة، تمحو غابة أخرى من غابات فلسطين، مثلما فعلت في أماكن أخرى، حتّى تكشف مواقع الثوّار، وتمنعهم من الاختباء.

غُصّة الفاتح المصري، يا عُجيل يا سَطَحار، لا تخمد نارها أيُّ نار يشعلها في الجيال الفلسطينية. لا شيء يخمد فشله في ترويض فلاّحي الجبال وشيوخها الذين تمرّدوا عليه، لأسبابٍ كثيرة من بينها الضرائب الباهظة التي فرضها عليهم ومنها ضريبة الرأس التي يجب أن يدفعها كلّ شخص ثمناً لوجوده على قيد الحياة، وطلبه تجنيد الآلاف منهم، والإصلاحات التي لم تعجبهم، ومنها مثلاً إلغاء {العادة المعتادة} التي كان يُحصّلها أعيان الأرستقراطية الدينيّة في القدس من الكنائس. ولم تعجبهم أيضاً ملابس جند الباشا الضيقة، فردّ عليهم بقسوة فظيعة، ولاحقهم في كلّ مكان، ونصب مخيّمه عند برك سليمان، خلف الدهيشة، ففجأة الثوّار وقتلوا العشرات من جنوده، قبل أن يواصل طريقه إلى الخليل، حيث دمّر وقتل وشرّد، وحاصر الحرم الإبراهيمي، الذي فرّ إليه من بقي من سكان المدينة. عندما غادر الخليل، جرّ إبراهيم باشا معه إلى مصر المئات من فتية مدينة إبراهيم الخليل (وفي رواية أخرى جميع فتية المدينة)، الذين شكّلوا في ما بعد الجالية الخليليّة في مصر المحروسة، التي لا نعرف عنها الآن، الكثير، ولكنّ الراقصة لوسي الشهيرة، صاحبة تصريح: {إذا كانت الممثلات يرقصن، فلماذا لا تمثّل الراقصات؟}، كشفت في حديث صحافي عن جذورها الخليلية.

عزيزي عُجيل،

لعب القدر لعبته، مع الباشا المصري، الذي تكالبت عليه قوى دولية، جعلته يتقهقر إلى مصر، بينما فضّل عدد كبير من أفراد جيشه، إن لم يكن معظمه، أن يبقوا في فلسطين، فأصبح في كلّ قرية فلسطينيّة تقريباً عائلة {المصري}، وعائلات حملت أسماءً مشابهة مشتقّة من محافظات وبلدات مصرية، أو أسماءً مصرية متنوّعة. وظلّ هؤلاء يُعرفون بالمصاروة، حتّى بعدما أصبحوا جزءًا من هذه العائلة الكبيرة أو تلك في المناطق التي استقرّوا فيها، وشمل ذلك مسلمين ومسيحيين، ما زالوا يذكرون أصولهم التي تعود إلى تلك الحقبة الفوّارة في تاريخ فلسطين الحديث، دون أن يستطيع أغلبهم تحديد نسبه تماماً، فيما سعى آخرون، بعد أكثر من قرن على مغامرة إبراهيم باشا، الذي وُصف بأنه أشقر وأزرق العينين، مثل الفرنجيين، لولا ارتداؤه العمامة، للتعرّف إلى أبناء عمومتهم، ومنهم واحد من مخيّمنا، ذهب إلى القاهرة، وتزوّج من هناك، وأسّس عائلة أخرى، وأصبح يتنقّل، كلما سنحت الفرصة وتوفّر لديه المال، بين مخيّم الدهيشة والقاهرة.

حتّى وقت قريب، يا عُجيل، كان يمكن مُقابلة كثيرين من كبار السن، في بعض مخيّمات اللاجئين، وتمييز لهجتهم المصرية في مخارج الحروف والكلمات. والأمر الغريب بالنسبة إليّ، أنّني عثرت على بعض من عائلات {المصري} تلك في تجمّعات بدوية، يعيشون كبدو وكجزء من القبائل البدوية، والبعض منهم، ومن أفراد القبائل التي ينتمون إليها، يذكر أنّهم جاؤوا من مصر.

لقد أسّس جنود الباشا المنهزم، ومعظمهم من الفلاحين، قرى، وبلدات فلسطينيّة، على أنقاض خرائب قديمة، أصبحت بعد قرن من الزمن، ضمن القرى التي يتباكى عليها الفلسطينيون، بعدما فقدوها في النكبة، أمّا بعض المدن التي بقي فيها فلسطينيون أصبحوا مواطنين في دولة إسرائيل، مثل يافا، فإن السيّر في ما بقي منها، قد يُشعر الزائر بأنّه يسير في إحدى حارات القاهرة القديمة.

وهناك مواقع أخرى غير الدهيشة، في بيت لحم، تُنسب تسميتها للباشا المصري، مثل هندازة. ويقال إنّ الباشا الذي هدم الحارة الإسلامية في بيت لحم انتقاماً من الثوّار، عندما رأى حقول الزيتون في المنطقة، المنتعشة منذ عهد الرومان، قال مندهشاً (... وما أكثر ما أدهشت فلسطين هذا الباشا وأرّقته):

دي هندسة...!

فأصبحت، مع التحريف والوقت، هندازة. ولم يترك الباشا خلفه الأسماء والضحايا ومعظم جيشه فحسب، بل أيضاً مصطلحات كثيرة منها ما يُستخدم حتّى الآن في بلاد الشام دلالة على النقود حيث تُنسب كلمة «مصاري» إلى مصر.

في عام 1831 ضرب محمّد علي النقود المصرية الحديثة، بإصداره دكريتو تُسكّ بموجبه نقود من الذهب والفضة ولكلّ منهما قوّة إبراء غير محدودة.

وفي عام 1836، سُكّ الجنيه المصري، في الوقت الذي خضعت فيه بلاد الشام لحكم الباشا المصري، واستعملت نقوده التي سمّاها النّاس المصاري.

قد تقف يا جدّنا عجيل، متعجباً، إزاء القمع الشديد الذي مارسه الباشا المصري، ولكن، للحقّ، إنّ مغامرته قد تكون شكّلت الهوية الفلسطينية كما نعرفها الآن، بما فيها مصريّتها.

وقد تتعجّب، يا عميد مجانين فلسطين، على مرّ الأزمان ومُرّها، أيضاً، من حجم التكالب الدولي، على الباشا الطموح، وكذلك من تدخّل الدول الكبرى، في شؤون هذا البلد الصغير فلسطين، لكنّ المقدّس ضمن الإمبراطورية العثمانية. مثال ذلك الحرب التي شنّتها الإمبراطورية الروسية البيضاء، ضدّ الرجل المريض، والتي تحوّلت إلى حرب عالمية صغيرة، انضمّت إليها دول مؤثّرة أخرى، عرفت باسم {حرب القرم}، وكان ذلك عام 1853م، واستمرّت ثلاث سنوات، والسبب يبدو الآن مجنوناً، يتعلق باختفاء النجمة الفضيّة من مغارة كنيسة المهد في بيت لحم، التي يُعتقد أن السيد المسيح ولد فيها، فقد عدّ ذلك تعدّياً على حقوق الأرثوذكس في الكنيسة، وبالتالي استهتاراً بالروس، لمصلحة اللاتين.

وانتهت حرب القرم، ذات الأسباب التافهة، على الأقلّ تلك المباشرة منها، كسرقة نجمة المهد، بنتائج عظيمة في وقتها، وكان لها تأثيرات جانبيّة عالميّة، شديدة الأهمية، كما يذكر المؤرّخ و.أ. فيشر في كتابه المرجعي {تاريخ أوروبا في العصر الحديث}، ومنها أنّها خلقت الظروف الملائمة لتحرير الأمّتين الألمانيّة والإيطاليّة، وحرّرت مقاطعتين للنمسا بالإضافة إلى نهر الدانوب.

وليس هذا فقط، فإن حرب القرم كانت لها فوائد أخرى هذه المرّة  لنساء بريطانيا، فالسيدة البريطانيّة فلورنس نتينجيل، التي نشأت في ظلّ حياة فكتوريّة ناعمة، هجرت وطنها وتوجّهت إلى مواقع الحرب لتمريض الجرحى.

كتاب فيشر هذا عثرت عليه في مخلّفات العبد علوي، من بين كتب عديدة سميكة، يُذكر في أحدها اسمك يا عُجيل. كان يُحوّش قروشه القليلة ليشتريها، هل كان ذلك قبل جنونه أم في أثنائه؟ لن أعلم أبداً.

آلت مكتبة العبد علوي، ليوسف علاّن، وفي الواقع إنّ هذا الأخير يستحقّ الثناء على شجاعته ومبادرته، عندما تقدّم وجمع كتب العبد العلوي، التي رمتها والدته، مع كراكيبه القليلة، أمام المنزل، تمهيداً لحرقها، بعد أشهر من رحيله، لتنظيف غرفته بهدف استخدامها من جديد.

بماذا فكّر ذلك المواطن البيتلحمي المجنون، وسأفترض أنه من اللاتين، عندما انتزع النجمة من مكانها؟ ربما فكّر بأيّ شيء، إلاّ أنّه سيتسبّب بحرب عالمية، تحرّر أمماً ونساء أمم، وتمحق أمماً، ولم يكن يدرك أنّ العالم عندما يفكّر بمدينته، فإنه لا يفكّر إلا بجنون، فيحارب ويقتل ويُشرّد.

الخلافات المجنونة ما زالت تعصف حتّى الآن بكنيسة المهد المقسّمة بين الطوائف المسيحية المختلفة، ضمن نظام الاستاتيكو (أي الوضع القائم) وهو حصيلة توازن القوى الدولية في حينه، الذي حدّد لكل طائفة حقوقها في الكنائس الرئيسة في فلسطين. ولا يمكن إحصاء عدد المرّات التي تشاجر فيها رهبان الطوائف، وتحوّلت المشاجرات إلى أكثر من ذلك، مثل حريق الكنيسة في عام 1873، عندما نظّم الأب الإيطالي أنطون بولي المعروف باسم أبو اليتامى، قدّاساً بطلبٍ من إحدى المحسنات المتبرّعات لمشاريعه الخيرية، لشفاء ابنها الصغير، الذي سقط في بركة ماء وكاد أن يغرق.

في صباح 25 نيسان 1873، أقام أبو اليتامى القدّاس، ويبدو أن ذلك لم يعجب الروم الأرثوذكس، فهجم نحو 200 منهم مسلّحين بالخناجر والعصيّ، فدمّروا الهيكل الخاص بالآباء الفرنسيسيّين وحرقوا الستائر الثمينة لمغرة المهد، التي تزيّن جدرانها، والتي كانت فرنسا قد أهدتها للكنيسة بعد استئذان الحكومة العثمانية، ونتج عن هذا الهجوم إحراق أجزاء الكنيسة.

تدخّل يومها قنصل فرنسا إرنست كربون، واحتجّ قناصل إسبانيا وإيطاليا والنمسا وإنجلترا ضدّ مثيري الفتنة وطالبوا الدولة العثمانية بمعاقبتهم أو مطاردتهم، مع حفظ حقوق فرنسا في حماية الأماكن المقدّسة، ورفعوا الشكوى إلى إسطنبول، ووقفت روسيا مع الأرثوذكس.

بعد تلقّي السلطان الشكاوى أصدر إرادة  سنية بأن تُشيّد قرب كنيسة المهد ثكنة لمئة جندي ودارٌ للحكومة، سمّيت السرايا. أين كانت ثكنات الجنود في عهدكم يا عُجيل؟

وشكّل متصرّف القدس، الذي تتبع بيت لحم له، لجنة تحقيق ضمّت قنصل فرنسا، وغرّمت الروم أكثر من 110 فرنكاً تعويضاًَ للآباء الفرنسيّين، وعزل أسقف أفتيموس مع راهبين آخرين.

عهدت الحكومة العثمانية لحافظ السعيد نائب القدس في المجلس العثماني، وهو أديب يجيد العربية والتركية، ومهمّة الفصل بين الطوائف وعيّنته مدير ناحية بين لحم، فأعدّ تقريراً قرّر فيه حقوق كلّ طائفة، تبنّته مديرية المذاهب (الأديان) في الباب العالي (رئاسة الوزراء) وبقي في بيت لحم ثلاث سنوات لتنفيذ ما جاء في تقريره، ثمّ عاد إلى يافا، وتدرّج في المناصب حتى أصبح رئيساً لبلديّتها.

وبُدئ العمل في دار السرايا، في مطلع عام 1874، في حقلٍ لعائلة السكافي، وتكوّنت من تسوية استُخدمت إسطبلاً للخيول، وفوقها بناء من طبقتين، الأولى مركز شرطة وسجن، والثانية مقرّ الحاكم ودار المحكمة، والقسم الأمامي أصبح داراً للبلدية، والخلفي دائرة الصحة العامة، وعلى بعد أربعة أمتار بني سور حجري على ارتفاع متر ونصف وفوقه درابزين من الحديد المشبّك، وفي وسطه باب عرضه 4 أمتار.

back to top